عزل بوش
ديفيد إدواردز
كان السيناتور جاي روكفيلر رئيس لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي قد قال في التقرير الصادر بتاريخ 5 يونيو/ حزيران ما يلي: “لطالما عمدت إدارة بوش مراراً وتكراراً، في غمرة انهماكها بالتهيئة لشن حرب وإعدادها لملف مقتضياتها وحشدها لذرائع نشوبها، إلى تقديم المعلومات الاستخباراتية باعتبارها حقيقة مسلمة لا مرية فيها، في حين أن هذه المعلومات كانت في واقع الأمر متضاربة ولا يمكن إقامة أدلة داحضة قطعية تعضدها، بل ولم تكن موجودة حتى. واستدرج الشعب الأمريكي جراء ذلك إلى فخ توهم أن التهديد الذي يمثله العراق أعظم بكثير جداً مما هو عليه في الحقيقة”.
بعبارة أخرى، خدعت إدارة بوش الرأي العام الأمريكي وأغرقته بطوفان من الأكاذيب أغشت بصره وحجبت عنه الحقيقة. إلا أن كتاباً جديداً صدر مؤخراً لفنسنت بغليوسي، وهو أحد ألمع وأنجح مدعي النيابة العامة في أمريكا، تجاوز حتى هذه القنطرة في كشف خفايا هذا التزييف والتضليل وذهب أبعد من ذلك في تبيان الحقائق ورسم الخطوط العريضة لإقامة دعوى ورفع قضية ترمي إلى ملاحقة بوش قضائياً وتجريمه وإدانته بالقتل.
خلال سيرته العملية في أروقة النيابة العامة في مقاطعة لوس أنجلوس، اضطلع بغليوسي بالعديد من المهام القضائية ونهض بدور المدعي العام في 105 من أصل 106 محاكمات جنائية تجري بحضور هيئات محلفين، بما فيها 21 قضية صدرت بحقها أحكام إدانة بالقتل دون أن يخسر واحدة منها. وكانت قضية شارلز مانسون أشهر المحاكمات التي تألق فيها وأبدع وأمدته بالأساس الذي أقام عليه كتابه بعنوان “هلتر سكلتر”، وهو أكثر الكتب التي تتناول جرائم حقيقية مبيعاً في تاريخ النشر كله. وكان الكتاب قد نشر في عام 1974 وتوالت طبعاته بصورة مدهشة وفاز بجائزة ادجار عام 1975. وشقت ثلاثة من كتب بغليوسي طريقها إلى ذروة المجد لتحتل المرتبة الأولى في لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة.
وفي أحدث كتبه بعنوان “مقاضاة جورج دبليو بوش بجريمة القتل” يقول بغليوسي إنه حشد كل العناصر والمقومات وأرسى كل الدعائم لرفع قضية قضائية ضد بوش قوية الأسانيد مدعمة بالحجج تدينه وتثبت دون أدنى شك أنه اقتاد أمريكا بالخداع، وزج بها في أتون حرب، بعدما ضللها بالاتيان بذرائع واهية لفقت الحجج في ثناياها واستخدم الكذب والتزوير لتبرير شن حرب على العراق وغزوه دون أي مسوغ قانوني. لذا فإن بوش مذنب ضالع في ارتكاب جرائم قتل ومسؤول عن هلاك ما يزيد على أربعة آلاف جندي أمريكي في تلك الحرب. ويرى بغليوسي أن القضية التي يعد ملفها ويستكمل جمع أدلتها سوف تؤدي بالتأكيد إلى مقاضاة بوش وتوجيه الاتهام له بارتكاب جريمة قتل من الدرجة الأولى وإدانته في المحاكم الأمريكية. وقال بغليوسي: “لقد أقمت الصرح القانوني ضده، وجئت بالأدلة الدامغة التي تجرمه وتسلحت بكل الدعائم القانونية لمقاضاته”.
ويتعلق أحد الأمور المحورية في القضية التي يعدها بغليوسي بأول خطاب ألقاه بوش وتناول فيه العراق وصدام حسين وكان ذلك يوم 7 اكتوبر/ تشرين الأول من عام 2002 في مدينة سينسناتي في ولاية أوهايو. وتحدث بوش آنذاك إلى جمهرة حاشدة من الأمريكيين ليقول لمواطنيه إن الزعيم العراقي يشكل خطراً داهماً يحدق بالولايات المتحدة. وحاول بوش إقناع هذا التجمهر القومي بأن هذا الخطر الماحق يتمثل إما بمهاجمة صدام حسين لأمريكا بأسلحة الدمار الشامل، أو باعطاء هذه الأسلحة للجماعات الإرهابية، كي تلحق الأذى بالولايات المتحدة. وقال بوش إن الهجوم يمكن أن يشن في أي يوم ليوحي بذلك بأن الخطر وشيك، وأن التهديد بالغ الخطورة.
غير أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ال “سي اي ايه” كانت قد بعثت لبوش في الأول من اكتوبر/ تشرين الأول من عام ،2002 أي قبل ستة أيام من إلقائه خطابه، بتقريرها الشامل عن تقديرات أجهزة الاستخبارات القومية الأمريكية لعام ،2002 وهو تقرير تعده أجهزة الاستخبارات الأمريكية ووكالاتها الست عشرة. وينص التقرير بوضوح في صفحته الثامنة على أن صدام حسين لم يكن يشكل خطراً داهماً يهدد الأمن القومي الأمريكي، وأنه لن يتحول إلى تهديد حقيقي إلا إذا تخوف من قيام أمريكا بمهاجمته، وأحس بأن هجومها وشيك.
وبتعبير آخر، نحن نعرف يقيناً أن بوش كان يكذب حين تكلم يوم 7 اكتوبر/ تشرين الأول من عام 2002 وأخبر الرأي العام الأمريكي أن الخطر وشيك، لأن هذا التهويل والتزييف كان يتناقض تماماً مع ما أبلغته به وكالة ال “سي اي ايه” من معلومات.
وأمرت إدارة بوش ال “سي اي ايه” في وقت لاحق، يوم 4 اكتوبر، بأن تصدر نسخة ملخصة رفعت عنها السرية توجز فيها تقرير الأول من اكتوبر السري وتطلقها كي يطلع عليها الرأي العام. وحذفت في تلك الخلاصة المنشورة المعروفة باسم الورقة البيضاء كل كلمة تتعلق بالاستنتاج الذي خلصت إليه وأجمعت عليه وكالات الاستخبارات القومية الأمريكية، والذي يرى أن صدام حسين لم يكن ليشكل خطراً داهماً وتهديداً وشيكاً.
التقى جورج بوش وتوني بلير في يوم 31 يناير/ كانون الثاني من عام ،2003 أي قبل شهرين من شن الحرب التي كان هدفها ظاهرياً نزع أسلحة التدمير الشامل من العراق، في البيت الأبيض، بستة من كبار مساعديهم، بمن فيهم مستشارة جورج بوش للأمن القومي كوندوليزا رايس وكبير مستشاري بلير للشؤون الخارجية ديفيد مانينغ.
وأصدر مانينغ بعد الاجتماع مذكرة من خمس صفحات ممهورة بعبارة “سري للغاية”، وأورد في المذكرة ما قد قيل في الاجتماع. وكتب مانينغ يقول إن بوش وبلير أعربا عن شكوكهما بأن يتم بالفعل العثور على أية أسلحة دمار شامل في العراق. وفي الحقيقة استبد القلق ببوش الذي كان يتوجس من احتمال الإخفاق في العثور على أسلحة دمار شامل في العراق، وكان هذا التخوف يؤرقه إلى درجة أنه ناقش ثلاثة سبل لاستفزاز صدام حسين واقحامه في مواجهة عسكرية. واشتملت هذه الخيارات المقترحة، حسبما قال بوش، على تحليق طائرة “يو تو” وطائرات تجسس واستطلاع أخرى فوق العراق، على أن تصطبغ بشكل زائف بألوان هيئة الأمم المتحدة. وأضاف بوش أنه إذا قامت القوات الجوية العراقية بمهاجمة هذه الطائرات فسوف يشكل هذا خرقاً لقرارات الأمم المتحدة، وبذا يوفر الذريعة والمبرر لشن الحرب على العراق.
وهكذا نرى بجلاء أنه بينما كان جورج بوش يخبر الشعب الأمريكي أن العراق كان يمثل خطراً داهماً يحدق بالولايات المتحدة، ووكالة ال “سي اي ايه” تقول له إن صدام حسين لن يشكل خطراً إلا في حال استفزازه، كان الرئيس الأمريكي يخطط لغزو العراق سراً وذلك باستفزاز العراق واستدراجه إلى مواجهة توفر ذريعة للهجوم.
ويعلق بغليوسي على هذا بقوله: “لو كان لدى بوش أدنى شك في أن صدام حسين يمتلك حقاً أسلحة دمار شامل يمكن أن تهدد أمريكا لما كانت فكرة استفزازه خطرت على باله على الاطلاق، إذ ليس في الدنيا كلها رجل واحد عاقل يمكن أن يقدم على استفزاز رجل يخشى في الأساس من أنه يوشك أن يقتله ولديه القدرة لإنفاذ رغبته. لذا فإن بوش كان يدرك يقيناً أن العراق لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل.
ورغم أن العديد من كتب بغليوسي، كما أشرنا آنفاً ذاعت شهرته حتى طبقت الآفاق فصار من أكثر الكتب مبيعاً في العالم، فإنه وللمرة الأولى خلال سيرته العملية التي تمتد لثلاثين سنة يتجاهله التلفزيون الوطني الأمريكي وتشيح الصحافة المطبوعة بوجهها عنه، وتكاد تغضي تماماً عن أحدث كتبه، إذ لم يرد لكتابه هذا ذكر سوى في موضعين في صحيفة بربطانية يوم 13 يوليو/ تموز حيث نقرأ:
“كتاب ضخم آخر يثير جدلاً، وعنوانه الذي يكتنفه الغموض هو “مقاضاة جورج بوش وإدانته بالقتل”. وقد تصدر هذا الكتاب لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في أمريكا التي تعدها جريدة “النيويورك تايمز” لأسابيع. وقد ألف الكتاب المدعي العام السابق فنسنت بغليوسي، ويؤسس الكتاب لقضية ضد بوش تأتي به للمثول أمام القضاء بتهمة قتل آلاف الجنود الأمريكان في العراق”.
وتصف شبكة ال “سي إن إن” التجاوب الأمريكي مع الكتاب بأنه “تعتيم إعلامي حقيقي”، إذ رفض المذيع الشهير في تلفزيون الولايات المتحدة لاري كينغ استضافة بغليوسي، وكذلك صنعت وكالة “إم إس إن بي سي” وشبكة “كوميدي سنترال” في برنامجها “ذا ديلي شو”. بل رفض راديو “إيه بي سي” حتى الإعلان عن كتاب بغليوسي. ويروي بغليوسي كيف أن أحداً ممن يعتد به في تيار الإعلام الرئيسي في الولايات المتحدة لم يقبل أن يجري مراجعة أو تقييماً للكتاب، وأشاح الجميع بوجههم عنه وتجاهلوه تماماً.
ومع ذلك قيض لهذا الكتاب أن يسمع صوته رغم أنف التواطؤ الإعلامي، فانبرت أدوات الإعلان التي تتخذ من القنوات الإعلامية المبثوثة على شبكة الانترنت سبلاً لبث رسالتها للتعريف بالكتاب وكشف النقاب عن أهميته وخطورة مضمونه فضجت الساحة الإعلامية بهتافات الثناء لتجعل من الكتاب أحد أكثر المؤلفات مبيعاً، إذ بيعت منه 130 ألف نسخة في ستة أسابيع فقط. وكانت ايزابيل ماكدونالد، من مؤسسة “الانصاف والدقة والنزاهة في إعداد التقارير الصحافية والإعلامية” تحدثت إلى شبكة “سي إن إن” فقالت:
“ثمة قرار اتخذه الإعلام ولم يكن هناك ما يبرره، كما لم يكن هنالك من يبتغيه أصلاً، بل جاء نغمة نشازاً في السيمفونية الإعلامية، فمع تصاعد مد شبكة الانترنت وازدهار عصر المدونات الالكترونية واتساع مجالاتها شهدنا في الحقيقة رواج كتب ذاع صيتها وتهافت الناس عليها من دون أن تتسلح بمراجعات نقدية تضفي عليها قيمة حقيقية”.
ويحتل كتاب بغليوسي المرتبة العاشرة حالياً في لائحة صحيفة “النيويورك تايمز” للكتب الأكثر مبيعاً في أمريكا. وها قد ولى الزمن الذي كانت تتحالف فيه قوى الإعلام المتواطئة لدفن الكتب في مقابر النسيان بتجاهلها لهذه النفائس.
كاتب صحافي ومحلل سياسي وناقد يشارك في تحرير “ميديا لينس” على الشبكة لرصد التضليل الإعلامي
الخليج