صفحات سورية

الأرقام صحيحة لكن المحصلات كاذبة

null
سعد محيو
هل صحيح ما أعلنه مسؤول أمريكي كبير في مؤتمر اقتصادي دولي عقد مؤخراً في سياتل (ولاية واشنطن)، عن أن الأرقام المتوافرة توضح أن العولمة بدأت تغدق عطاياها على ثلاثة أرباع البشر المفقرين؟
ربما ثمة أرقام بالفعل. لكن هذا شيء وقراءة هذه الأرقام وتحليلها شيء آخر مختلف تماماً.
وعلى سبيل المثال، صدر حديثاً كتاب للباحث الفرنسي لوران كارويه بعنوان “جغرافية العولمة” (*) يفنّد فيه بالتحديد لغة الأرقام هذه المتعلقة بالعولمة.
الكتاب أشبه بقاموس جغرافي  اقتصادي يعتمد البيانات الإحصائية ويرسم خريطة التوزيع الجغرافي للاقتصاد العالمي. إنه ليس بحثاً في الاقتصاد، بل في الجغرافيا الاقتصادية التي تشمل التاريخ السياسي، والجغرافيا السياسية، والاستراتيجيات الاقتصادية للدول الصناعية، وتأثير مصالح الشركات في هذه الدول. وهو يزعزع عن غير قصد أسس ادعاءات العولمة الليبرالية، مبيناً بالأرقام والبيانات والوقائع أن هذه الادعاءات هي نقيض تام لآليات عملها وغاياتها:
ففي مسألة عولمة الاستثمارات الأجنبية، بيّن أن 90% من الرساميل الأجنبية تذهب من البلدان الصناعية وإليها، وأن ال 10% الباقية تتوزع بين البلدان الصناعية والبلدان الصناعية الجديدة (الصين، الهند، البرازيل، شرقي آسيا..) وبقية العالم.
في مسألة حرية التجارة، أظهر أن الشركات الكبرى تحتكر التجارة العالمية ولا تتنافس فيما بينها، بل تحتكر المنافسة وتنسّق توزيع القطاعات. وهي تلتزم بهذا الاحتكار في الإمداد والإنتاج والتوزيع.

في مسألة الإصلاحات الليبرالية التي تتم تحت شعار “تشجيع الاستثمار”، يوضح أن شروط تشجيع الاستثمار تتجاوز 35 شرطاً أساسياً، ليس السلام والأمن والاستقرار غير واحد منها. وهي شروط تتعدى إمكانات البلدان الضعيفة ولا تنطبق إلا على البلدان الصناعية والبلدان الصناعية الجديدة. ومن بين هذه الشروط: تكافؤ بين المواد الأولية وبين عملية الإنتاج، سوق واسعة وقدرة شرائية عالية، بنية تحتية متينة وصيانة دائمة، يد عاملة ماهرة وتقنية، نظام إعداد وتعليم متطور.
في مسألة حرية السوق، يكشف أن الدولة الصناعية تنظّم قوانين هذه السوق لصالح شركاتها. فهي تشرّع وتعدّ وتؤهّل، وتساعد هذه الشركات على التشابك مع الشركات الأخرى بالانصهار والتكامل وتقاسم الأسواق. وقد عقدت الاتفاقيات بين الدول الصناعية أولاً، ثم انتقلت إلى تعميم هذه الاتفاقيات مع الدول الأخرى. ولم تنشأ عن ذلك شركات متعددة الجنسية إلا بنسبة 5% بل نشأت شركات في البلد الأصلي متعددة الجنسيات. الانصهار بين الشركات والقطاعات يتم بنسبة 95% بين شركات البلد الأم، ثم تنتشر فروعها في بقية الجغرافيا السياسية.
كتاب كارويه بحث موثق يعمّق الأفكار ويفيد بتوضيح الرؤية لمن لا يزال مبهوراً بالعولمة الليبرالية على أنها الخطوة الموعودة لتحقيق التقدم والحرية. وحين نقارن الأرقام الواردة فيه بتلك التي تصدر عن مؤسسات العولمة (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية.. إلخ)، ندرك سريعاً مدى الهوة التي كانت، ولا تزال، تفصل بين العولمة وبين ثلاثة أرباع البشر المفقرين، رغم كل الادعاءات الرقمية للمسؤول الأمريكي الكبير.
(*) لوران كارويه: جغرافية العولمة. دار أرما دكولان، باريس  2006
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى