غريزة السلطة
محمد سليمان
فعلها الرئيس الباكستاني برويز مشرف واستقال من منصبه، مؤكدا أنه عمل بحسن نية من أجل خير بلاده، وأنه قرر التخلي عن السلطة تجنبا لمعارك سياسية وقضائية قد تضر بمصالح باكستان وأنه سيترك مستقبله في يد الشعب.
فعلها الرجل فاستراح وأراح. ولا أعرف شعوره، وهو يرى على الشاشات تلك البهجة التي اجتاحت الشوارع ودفعت الناس إلى الاحتفال في إسلام أباد والمدن الباكستانية الكبرى بانتهاء عهده، لكنه كسب في كل الأحوال احترامنا وتقديرنا، خصوصا ونحن في بلاد لم تستطع رفع راية التمرد أو العصيان ضد الدكتاتورية والفساد والفوضى… بلاد تنتظر غالبا قضاء الله سبحانه وتعالى ليحررها من البلاء والفساد والجمود والتردي وتكتفي بمواويل الصبر والأمثال الشعبية التي ترسخه «اصبر على جار السوء…»، أو بكنس الجوامع، وإرسال العرائض والشكاوى إلى أضرحة قاضي الشريعة «الإمام الشافعي»، أو نفيسة الدارين «السيدة نفيسة»، أو رئيسة الديوان «السيدة زينب» رضي الله عنهم جميعا، لكي يهبوا من أضرحتهم لردع الظالم ونصرة المظلوم.
لم تجبر شعوبنا حاكما فاشلا أو مستبدا على الاستقالة من منصبه أو الفرار من بلاده خوفا من غضبها أو حتى الاعتراف بفشل سياساته، ولم تستطع أيضا حثه على إقالة بعض وزرائه أو مساعديه الذين أفسدوا وبددوا وساعدوا على انتشار النهب والغلاء والفوضى على الأقل لمواساة الناس وامتصاص غضبهم وحزنهم على ضحايا العبّارات الغارقة والقطارات المحترقة.
وفي الوقت نفسه يتشبث حكامنا بمقاعدهم ومناصبهم رغم كره شعوبهم لهم، متوهمين أن هذه المناصب لا يجب أن يتطلع إليها غيرهم لأنها منحة من الله خصّهم بها، وفي تاريخنا دلالات عدة على ذلك، لهذا لم يشع لقب الحاكم أو الرئيس السابق في بلادنا.
فالرئيس لا يقيله من منصبه سوى الموت، ولأنه يعرف ذلك فهو غالبا ينسى مهام منصبه كلها وينشغل فقط بمحاربة ذلك الموت المتمثل في المعارضين له وكارهي سياساته الذين تتضاعف أعدادهم يوما بعد آخر، حتى يجد الرئيس نفسه محاطا بـ«أجواء حرب» لا عمل له سوى حماية نفسه ونظامه والتنكيل بالمعارضين والتنقل بعربة مصفحة في شوارع خالية ومخفورا بكل جنوده.
ولا أظن أحدا من رؤسائنا قد فكر يوما في عمل آخر له بعد انتهاء مدة رئاسته «التي لاتنتهي»… لأنه لا يحلم سوى بالصعود والارتقاء الوظيفي، ويرى الموت أفضل من ترك منصبه وامتهان مهنة لا تليق به.
ورغم ذلك خرج بعضهم على هذه القاعدة في السودان وموريتانيا، وهناك أيضا في تاريخنا الخليفة الغامض معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي تولى الخلافة بعد وفاة والده، وأعلن منذ البداية خروجه على التراث الأموي، عندما قال في خطبته الأولى: «أما بعد… فقد نازع جدي ظلما جد هذا»، وأشار إلى أحد أحفاد علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأمر بإكرام أحفاد علي ومنع تحقيرهم أو سبهم ووعد الناس بالخير كله، ثم ألقى بعد شهر أو أقل خطبته الثانية والأخيرة والمدهشة أيضا، وأعلن فيها تخليه عن منصب الخليفة «أيها الناس إني قد بحثت لكم عن عمر بن الخطاب فلم أجده… وبحثت لكم عن ستة الشورى فلم أجدهم وقد ضعفت عن أمركم… فاختاروا لأنفسكم».
كان معاوية بن اليزيد شابا في بداية العشرينيات من عمره ولم تدم خلافته سوى شهر واحد، ومات مقتولا على أيدي الأمويين بسبب فكره الانقلابي واستهانته بمنصب الخليفة ومستقبل أسرته السياسي، وتولى السلطة بعده مروان بن الحكم ثم ابنه الخليفة الشهير عبدالملك بن مروان.
التخلي عن السلطة ليس جزءا من تراثنا أو تاريخنا لذلك اعتُبر معاوية بن يزيد مخبولا معتوها، وقلّ ذكره في كتب التاريخ والتراث، وصار عبرّة لغيره من الحكام والرؤساء الذين اجتهدوا وتشبثوا بالسلطة كي لا يوصفوا بالجنون وكي لا يستهين التاريخ بدورهم ويمحو أثرهم.
«كل شعب يستحق حاكمه»… هكذا يقول الإسبانيون، وأظنهم محقين تماما… فالشعوب الحية قادرة على تغيير حكامها ومصائرها وترسيخ الديمقراطية والدخول في المستقبل، بينما لا تستحق الشعوب التي تعيش في الماضي محشوة بالكسل وانتظار المعجزات، سوى حاكم من الماضي يكرس الجمود ويرسخه.
* كاتب وشاعر مصري
الجريدة