أبعد من السياسة!
غالباً ما يشار إلى ميشيل كيلو باعتباره شخصيةً سياسيةً. وقد تعزّزت هذه الإشارات بعد دخول ميشيل بوابة الاعتقال والسجن بسبب آرائه. وهي آراء سياسيّة لها أبعاد محلية وخارجية، تشكّل بعضاً من الرؤيا الإجمالية للرجل في نظرته إلى الحياة والعالم من حوله.
ولعل الأهم في رأيه السياسي ــــ على المستوى الداخلي ــــ ذهابه حدّ المطالبة بالإصلاح والديموقراطية ومكافحة الفساد، وباتجاه خلق مستقبل أفضل لأبناء سوريا بعد كل ما عانوه، وقد ألقى بظلاله على حياتهم وحكم طموحاتهم منذ 45 عاماً.
وعلى رغم أهمية البعد المحلي في رأي مشيل كيلو الذي أدّى إلى اعتقاله وسجنه، فإن البعد الخارجي في رأي الرجل كان السبب الأكثر صلة باعتقاله، وخصوصاً سجنه الأخير الذي جاء على ضوء ما اتُّهم به من دور في إعلان بيروت ــــــ دمشق، دمشق ـــــ بيروت الذي رسم ملامح أخرى لعلاقات سورية ـــــ لبنانية على المستويين الرسمي والشعبي: علاقات تقوم على الندية والتفاهم والمصالح المشتركة بين البلدين والشعبين. علاقات تأخذ في الاعتبار العوامل التاريخية والحضارية التي ربطت البلدين والشعبين من الماضي إلى المستقبل. وهو إعلان فاز بتوقيع مئات المثقفين السوريين واللبنانيين من مختلف الفئات والاتجاهات التي تعكس تلوينات المجتمعين. لكنّ هذا الإعلان كان سبباً لاعتقال كيلو وعدد من المثقفين السوريين وإحالتهم على المحاكمة. فصدرت بحقهم أحكامٌ سياسية غير قانونية، كان نصيب كيلو منها السجن لمدة ثلاث سنوات، وقد تجاوز منها عاماً ونصف عام.
بعيداً عن الشخصية السياسية التي اشتهر بها كيلو، فقد تميز الرجل بشخصيته الاجتماعية. والكلام في هذا الجانب يتجاوز علاقة الرجل بمحيطه القريب، بالزوجة والأولاد وهم شابّان وشابة وأحفاد. كما يتجاوز علاقته بالأب والأم والإخوة ليشمل الأموات، على نحو ما يتناول ميشيل سيرة والده الراحل وقد ترك أثراً واضحاً في حياة ميشيل وخياره في تبني ميوله نحو العدالة الاجتماعية والعمل من أجل مصالح الفقراء.
وارتبط «أبو أيهم» بعلاقة مميزة بوالدته التي منحت زوجها وأبناءها وأحفادها كل ما استطاعت من قدرة وصولاً إلى الرمق الأخير، وقد خلّف رحيلها وميشيل في الاعتقال حرقة في قلب الرجل الذي أمل المشاركة بوداعها ولو للحظة، ليتابع بعدها سجنه بهدوء رغم ما في ذلك السجن من ظلم مكشوف.
في علاقات ميشيل بمحيطه الاجتماعي كثير مما هو مميز وخاص، ولا حدود لرغبته في التعرف إلى الناس بغضّ النظر عن تفاصليهم وخلفياتهم. وهذا خلق له معارف بأطياف واسعة ومتعددة، يندر أن يستطيع مثقف الانخراط فيها والحفاظ عليها بحكم امتدادها وتنوعها وانتشارها في كل مكان اتصل به مباشرة، أو بشكل غير مباشر. خليط من الناس العاديين إلى أصحاب المهن والحرف، وصولاً إلى فئات من النخبة من المثقفين والكتّاب والفنانين ورجال السياسة والاقتصاد، حشد هائل من أناس، كان ميشيل كيلو يجد خيطاً يربطه بقوة بكل واحد من هؤلاء من دون كلل أو ملل، ما كان يعكس نموذجاً استثنائياً من الشخصية الاجتماعية.
في عمق التركيبة الاجتماعية لميشيل كيلو، وحياته الغنيّة وتربيته وعلاقاته بالمحيط، وتعليمه وسفره، وثقافته الموسوعية، تكمن جذور تجربته السياسية والفكرية الثرية والمتعددة الآفاق. هذا هو سرّ استعداد الرجل الدائم، لتحمل المسؤولية (وقدرته عليها) حتى في أصعب الظروف والتحديات.
وسط تلك المكونات، تبدو شخصية ميشيل كيلو الاجتماعية حالة مميزة، لكن طغيان السياسة على شخصية الرجل دفع الجانب الاجتماعي إلى الخلف. إلا أنّ ما جرى من أشكال تضامن محلي وعربي ودولي مع كيلو، إنما يعكس موقفاً واضحاً من شخصيته وعلاقاته الاجتماعية بقدر ما يعكس الموقف من شخصيته السياسية وعلاقاته بالسياسة.
* كاتب سوري (معتقل حالياً).
عدد الخميس ٢٨ شباط ٢٠٠٨