صفحات سورية

هل دخلت المنطقة في مرحلة التسويات ولصالح من؟

null
بول سالم
محادثات السلام بين سوريا واسرائيل، اتفاق الدوحة، تبادل أسرى بين »حزب الله« واسرائيل، هدنة بين »حماس« واسرائيل، الرئيس بشار الأسد في القمة الأورو ـ متوسطية في باريس، قمة لبنانية سورية.
ما هذا الذي يجري في الشرق الأوسط؟ لمَ هذه الموجة من المفاوضات والتسويات والاتفاقات؟ هل ولّت حقبة المواجهات والحروب؟ هل نحن على شفا سلسلة أخرى من الصفقات والتسويات في المنطقة؟
أمر لافت حقا، ينطبق حتى على الجبهة الوحيدة التي لا تزال مضطربة وعرضة لخطر السقوط في لجج الحرب، وهي الجبهة الاميركية ـ الاسرائيلية ـ الايرانية. اذ هناك ثمة بعض التقدم على صعيد المفاوضات الاوروبية ـ الايرانية، هذا اضافة الى ان الولايات المتحدة أوفدت للمرة الأولى مسؤولا رفيع المستوى لينضم الى هذه المفاوضات.
ما اسباب وطبيعة أنماط هذه التغيرات، والى أين يمكن ان تؤدي؟
قبل الاجابة، تجدر الاشارة الى ان الاستراتيجية الاميركية التي دشنت عقب أحداث ١١ ايلول العام ،٢٠٠١ والتي أسندت الى قواعد الحرب الوقائية، وتغيير الأنظمة، وإقامة »شرق أوسط جديد« وفقا للمصالح الأميركية، فشلت وارتطمت بحائط مسدود. اذ وصل المشروع الاميركي في العراق الى نقطة تحول مفصلية في العام ،٢٠٠٦ حين أدى تنامي المعارضة للاحتلال الاميركي وتفاقم حدة الحرب الداخلية في العراق الى دفع الرأي العام الاميركي للاطلالة على العراق بوصفه فيتنام أخرى، فيطوي دعمه لوجود أميركي طويل الأمد في بلاد الرافدين، ويرغم الحكومة الاميركية على الانتقال بسياستها الى أسلوب آخر في ادارة الأزمة والى بدء التفكير في انسحاب نهائي. لقد تم التخلي عن الخطة الأصلية، التي كانت ستبدأ بتغيير النظام في العراق ثم الانقضاض على ايران وسوريا، في الوقت نفسه الذي يتم فيه فرض »الدمقرطة« حتى على أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة.
كان العام ٢٠٠٦ نقطة تحول ايضا لأن الحرب الاسرائيلية المدعومة أميركيا التي شنت لتدمير »حزب الله« فشلت وخرج منها »حزب الله« منتصرا. كما كان كذلك العام سنة الانتخابات في فلسطين التي أدت الى فوز »حماس«، الأمر الذي سدد ضربة أخرى للسياسة الأميركية.
وهكذا، ومنذ ،٢٠٠٦ شُلت سياسة الولايات المتحدة في المنطقة وباتت لا قادرة على المضي قدما في تنفيذ استراتيجيتها الاصلية القاضية بتغيير الانظمة وخلق »شرق أوسط جديد«، ولا راغبة (او هي ربما عاجزة) عن الانخراط في الدبلوماسية الاقليمية.
هذا الوضع شرع أبواب الفرص أمام لاعبين اقليميين ودوليين آخرين للقفز من أجل سد الفراغ. إذ أدرك هؤلاء ان تصرفات الولايات المتحدة أدت الى خلق وقائع جديدة، وأزمات جديدة، ودينامييات جديدة في المنطقة، فشعروا بالحاجة الى التحرك. في طليعة هؤلاء كانت السعودية التي بادرت الى اطلاق مبادرات في مختلف الاتجاهات، فاستضافت المحادثات بين »فتح« و»حماس« التي أدت الى إبرام »اتفاق مكة«، ورعت محادثات بين مختلف الاطراف العراقية تمخضت عن »إعلان مكة«، وعقدت عددا من الاجتماعات الرفيعة المستوى مع مسؤولين ايرانيين.
وفي هذه الأثناء، كانت مصر تبذل قصارى جهدها للتفاوض على إبرام هدنة بين اسرائيل و»حماس« في قطاع غزة. وتركيا تعرض استضافة محادثات سلام غير مباشرة بين سوريا واسرائيل، وتتمكن قطر من التوصل الى اتفاق بين الأطراف اللبنانية في الدوحة.
الرئيس الفرنسي ساركوزي كان أحد أهم هؤلاء اللاعبين الدوليين في المشهد الاقليمي الذين حاولوا الافادة من فرصة الأزمة والفراغ اللذين خلفتهما الولايات المتحدة. اذ هو طرح منذ بداية حملته الانتخابية فكرة »الاتحاد المتوسطي«، برغم انه تم لاحقا تحجيم وتقنين هذا الاقتراح ليصبح مبادرة أورو ـ متوسطية مرتبطة بمبادرة برشلونة التي ولدت قبل ١٣ عاما.
وفي الوقت ذاته، كان الرئيس الفرنسي يحتوي محاولات الولايات المتحدة لزيادة نفوذها في شمال افريقيا، عبر اختراقات مهمة قام بها في ليبيا وعبر إبرام اتفاقات جديدة مع المغرب والجزائر وتونس. كما وقع صفقات دفاعية ونووية وفي مجال الطاقة مع دول مجلس التعاون الخليجي، وواصل منذ انتخابه بذل الجهود لمحاولة إنهاء الأزمة اللبنانية وتشجيع سوريا على الاعتدال في سياساتها في مقابل انهاء عزلتها الدولية. وفوق كل ذلك، أبرز الرئيس ساركوزي مؤخرا الدور المتجدد لفرنسا، في القمة الواسعة التي أطلقت »الاتحاد من أجل المتوسط« في باريس، والتي شارك فيها الرئيس الأسد جنبا الى جنب مع رئيس الوزراء الاسرائيلي أولمرت. هذا اضافة الى أنه خلال القمة أشرف مع قطر على إعلان الرئيس الأسد والرئيس اللبناني ميشال سليمان عزمهما على تبادل العلاقات الدبلوماسية.
ماذا الآن عن التغييرات في السياسة السورية؟
يبدو ان ثمة أسبابا عدة وراء انتقال دمشق من المواجهة المتشددة الى محادثات السلام مع اسرائيل والى سياسة اكثر اعتدالا وانفتاحا. فسوريا تتأثر بلا ريب بالضغوط الناجمة عن تهديد المحكمة الدولية، وعن ثقل العزلة العربية والدولية، فضلا عن العقوبات الحالية والتهديد بأخرى مستقبلية. والأهم ان سوريا في حاجة في هذه المرحلة الى المزيد من البراغماتية والسياسة الخارجية ذات الديمومة لمواجهة التحديات المتعددة الرؤوس والمتمثلة بوجود كثافة سكانية بلغت ٢٠ مليون نسمة، واقتصاد راكد، وارتفاع أسعار الغذاء والوقود، وغياب الموارد النفطية المهمة. الى ذلك، تتلفت سوريا حولها فتجد ان مصر، وحتى لبنان، استعادا أراضيهما المحتلة، فيما لا يزال الجولان السوري محتلا.
والحال ان التحولات الجديدة في السياسة السورية لم تسقط من سماء صافية بل هي، الى درجة ما، عود الى السياسات الأكثر براغماتية التي انتهجها الرئيس حافظ الأسد، الذي كان يتمتع ايضا بحلف قوي مع ايران، ولكن ايضا بعلاقات جيدة مع السعودية ودول عربية أخرى، وأوروبا، والولايات المتحدة، وبتفاهم مع اسرائيل، والتزام بمبدأ ارض الجولان مقابل السلام مع اسرائيل.
أكثر من بعد، انجذب الرئيس بشار الأسد الى المبادرة التركية لأسباب عدة، اهمها في السياسة الخارجية ان تركيا تقيم علاقات جيدة مع ايران، وايضا مع الدول العربية، واوروبا، والولايات المتحدة واسرائيل، كما أنها، مثل سوريا، دولة علمانية، تحتاج للتعاطي مع حقيقة تنامي الانتماءات الدينية في المجتمع، ثم ان تركيا هي ايضا نموذج مهم للنمو الاقتصادي الكبير المستند الى الصناعة والتجارة وغير المعتمد على العوائد النفطية.
هذا النموذج يؤثر بشكل مطرد على التفكير السوري، وهو تأثير تعززه العلاقات الحميمة بين الرئيس الأسد ورئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان. وعلى أي حال، لا تبدو سوريا عازمة على العودة الى وضع ما قبل العام ،٢٠٠٥ بل على المضي قدما الى وضع جديد يستند الى متابعة محادثات سلام مع اسرائيل وإعادة بناء العلاقات مع لبنان والدول العربية، فضلا عن اوروبا والولايات المتحدة.
على الجانب الاسرائيلي تبدو المسألة أكثر تعقيدا، بسبب تخبط القيادة السياسية بصراعات في ما بينها. لكنّ ثمة في اسرائيل ايضا إدراكا بأن قوة الولايات المتحدة والجيش الاسرائيلي لم تتمكنا من تحقيق النتائج المرجوة في فلسطين ولبنان او العراق وان خيار التفاوض قد يكون جديا. بيد ان السؤال حول ما إذا كان الاسرائيليون سيجربون حظهم مرة بعد ضد ايران، لا يزال معلقا في الهواء.
برغم ذلك، هناك في اسرائيل توجه ايضا لإبرام تسويات: مع »حماس«، مع »حزب الله«، ومع سوريا. صحيح ان الاتفاقات مع »حماس« و»حزب الله« لها بالتأكيد طابع الهدنة المحدودة، الا ان المحادثات مع سوريا مفتوحة على احتمال التطور الى معاهدة سلام شاملة.
قد يفرز السلام بين سوريا واسرائيل تداعيات مهمة للغاية من شأنها ان تدفع لبنان في النهاية الى الانخراط، هو الآخر، في محادثات مع اسرائيل، كما سيكون له تأثير جدي على المحادثات الاسرائيلية ـ الفلسطينية. بيد ان مصير محادثات السلام السورية ـ الاسرائيلية سيعتمد بشكل كبير على سياسات الادارة الاميركية المقبلة لأن كلا من سوريا واسرائيل تحتاج الى التزامات ومساهمات من الولايات المتحدة. والسؤال الآن هو: هل سيفيد الرئيس الاميركي المقبل من المنحى الذي تشهده المنطقة حاليا نحو المفاوضات والتسويات، ام انه سيستأنف سياسات المواجهة والتصعيد؟ انه سؤال ستساعد الانتخابات الاميركية المزمعة في تشرين الثاني المقبل، في الاجابة عنه.
في هذه الأثناء، تنعم المنطقة بفترة الهدوء التي تظلل العديد من الاتفاقات والتسويات، لكن الى أي مدى؟
على سبيل المثال: هل سيكون بامكان لبنان البناء على عودة السلم الداخلي والحياة المؤسساتية، من أجل حل بعض المسائل العالقة، وبناء أسس وحدة وطنية حقيقية، واستراتيجية دفاع متكاملة، تؤدي الى السيادة الكاملة للدولة؟
هل ستتمكن سوريا من تجاوز أزمة اغتيال الحريري وانسحابها من لبنان، من أجل بناء علاقات جديدة مع لبنان وبقية العالم؟
هل سيجد العراق طريقا للخروج من السيطرة الاميركية مثبتا وحدته الوطنية ونموه المؤسساتي، ومتلافيا الحرب الأهلية؟
هل ستعثر إيران على طريقة لتجنب المواجهة العسكرية حيال برنامجها النووي، وصياغة علاقات جيدة مع جيرانها العرب حول نفوذها الجديد في الشرق الأوسط؟
ثم: هل ستتمكن دول المنطقة ـ السعودية، تركيا، إيران، سوريا، مصر وغيرها ـ بعد المحاولة الاميركية الأخيرة خلق شرق أوسط لصالحها، من استعادة زخمها والاتفاق في ما بينها لتأسيس شرق أوسط في صالح شعوب المنطقة؟
([) مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط، في بيروت
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى