التباس النظام السلبي
سليمان تقي الدين
حقوق الطوائف، أمنها، دورها، كرامتها، عناوين تخترق كل نقاش سياسي. في نقاش بيان الحكومة الوزاري، في نقاش قانون الانتخاب، في حوار الشاشات الصغيرة، تتردد هذه المواضيع. البعض يتحدث عن استرداد حقوق المسيحيين، البعض يتحدث عن كرامة أهل بيروت وأمن السنة في الشمال، والبعض يتحدث عن الاستهداف الإقليمي والدولي لموقع الشيعة ودورهم. الأجوبة التي يقدمها الفرقاء للأزمة كما يطرحونها، راوحت بين ضرورة التفاهم بين قطبي المعادلة أي السنة والشيعة، أو بين الأطراف الكبرى الثلاثة بانضمام الموارنة إلى التفاهم وتقاسم السلطة. هذه الخيارات لا تحسب حساباً للطوائف الصغرى طبعاً.
الموارنة والمسيحيون عامة منقسمون بين المحورين الأساسيين، السنة والشيعة، لأن هاتين الجماعتين تمثلان التجاذب الإقليمي السعودي الإيراني.
مصدر أزمة العلاقات بين هذه الجماعات هو صراعها على السلطة وسعي كل منها إلى تحقيق مكاسب وامتيازات على حساب الآخرين. يستحيل في نظامنا البرلماني القائم على مبدأ الفصل بين السلطات أن تتحقق الشراكة الفعلية ويتأمن التوازن بين هذه المصالح المتناقضة في ظل توزيع المؤسسات الدستورية على الطوائف. فلا تكتفي أية جماعة بتخصيص دور لها في جزء من السلطة دون سائر الأجزاء. هذه المسألة هي التي شغلت كل مشاريع الإصلاح السياسي قبل »الطائف«. في »الطائف« كان المخرج النظري هو أن يتشارك الجميع في السلطة التنفيذية فترتفع يد رئيس الجمهورية الماروني عن السلطة التنفيذية كما كانت الحال من قبل، وتقوم شراكة بين جميع الطوائف في مجلس الوزراء. في الممارسة لم ينجح هذا الحل فقامت صيغة »الترويكا« أو حكم الرؤساء الثلاثة وتعاونهم وتدخلهم المباشر في أمور السلطة التنفيذية وتحويل مجلس الوزراء إلى سلطة مصادقة على القرارات. وفي حالات النزاع وعدم التفاهم تحولت المؤسسات الدستورية إلى مواقع نفوذ طائفي متقابلة يعطل بعضها بعضاً. وفي أزمة السنوات الأربع الأخيرة استفردت كل طائفة بسلطة فاعتبر السنة الحكومة أو السلطة التنفيذية اختصاصاً لهم وكذلك فعل الشيعة بالمجلس النيابي. هذه هي الوقائع بالأسود والأبيض وبدون محاولات تجميل.
أقرت تسوية »الدوحة« صيغة سياسية لا مرتكزات دستورية لها، هي صيغة تقاسم الحكومة بين الطوائف الكبرى الثلاث، أي مثالثة تحت ستار حكومة الوحدة الوطنية. لكن هذه الصيغة ليست إلا التعبير عن ميزان القوى السياسي وليس عن آلية ثابتة ومستقرة لحل النزاعات. كل نظرية الثلث المعطل أو الضامن ومحاولة تكريسها كعرف دستوري أو كاجتهاد في تفسير المادة الدستورية التي تؤكد على أكثرية الثلثين في اتخاذ القرارات في المواضيع الأساسية التي نص عليها الدستور، هي نظرية مرتبطة بواقع سياسي ليس بالضرورة إمكان الحفاظ عليه أو استعادته. إن الثلث المعطل جاء نتيجة تحالف طائفتين من الطوائف الكبرى. تكريس هذه النظرية يعني بقاء البلاد في صراع بين هذه الطوائف الكبرى وشلّ السلطة كما حصل ويحصل الآن. لقد توافقت هذه الجماعات على قانون انتخاب هدفه إعادة إنتاج هذا التوازن ذاته، وهي بذلك تعيد إنتاج أزمة النظام السياسي. لا يمكن للسلطة التنفيذية أن تكون جزءاً من نظام برلماني تجري مساءلتها أمام البرلمان في ظل صيغة »الفيتوات« الطائفية. نحن إذاً أمام نظام مجلسي وأمام مجلس مديرين وكلاء عن الطوائف. إذا كان اللبنانيون يرتضون هذا فلا بد من تعديل النظام الدستوري بهذا الاتجاه وبلورة الضمانات القانونية والآليات الموافقة لهذا النظام. ربما كان ذلك مدعاة للاستقرار السياسي.
في واقع الأمر إن البلاد بحاجة إلى اختيار نظام يحل المشكلات السياسية ولا يغذيها، فإما أن نكون في اتجاه المزيد من الإجراءات الفيدرالية وإما أن نذهب باتجاه الدولة المدنية. إن التباس نظامنا السياسي منتج للمزيد من الأزمات.