القمة الفرنسية – السورية وتداعياتها المستقبلية
خليل حسين
تأتي القمة الفرنسية – السورية في ظروف مغايرة عن لقاءات سبقت بين البلدين. ففرنسا اليوم لعبت دوراً في كبح جماح روسيا في جورجيا، في الوقت الذي استثمر الرئيس السوري بشار الأسد زيارته لموسكو، لإثارة الغرائز الروسية في لعب أدوار لافتة في النظام العالمي من خلال القضيتين الجورجية والبولندية، وطرحه دمشق بوابة لإعادة التوازن الإقليمي وربما الدولي عبر امكان نشر منظومة صاروخية روسية في سوريا، رداً على نظام الدرع الصاروخية الأمريكية في وارسو. وإذا كانت هاتان القضيتان هما الأحدث والأبرز على الساحة الدولية التي لعب فيها البلدان أدواراً لافتة، فإن ثمة مسائل أخرى تنتظر الجانبين، وهي قضايا لا تقل أهمية عنها.
سوريا التي استثمرت الجغرافيا السياسية للمنطقة ببراعة المزاوجة بين القضايا الاستراتيجية والتكتيكية، عبر الوسائل البرجماتية في علاقاتها الخارجية وبخاصة الفرنسية منها، تمكنت من تجاوز الكثير من القضايا الإقليمية والدولية التي كادت تطيح أدوات السياسة الخارجية التي تعتبر من ركائز القوة في النظام السياسي الداخلي، عبر احتواء محاولات عزلها تارة، أو عبر نسج تحالفات تشكل وجها من أوجه المجابهة الدبلوماسية مع الغرب ومنها تطوير وتكريس العلاقات مع إيران وروسيا مثلا.
وإذا كان القرار ،1559 الدولي الشكل، والفرنسي – الأمريكي المضمون، قد عزز ملابسات العلاقات الفرنسية – السورية في الماضي القريب، فإن تجاوز الكثير من مضامينه سيشكل بوابة العبور الباريسي بزيارة نيكولا ساركوزي إلى دمشق، وبالتالي سيكون لقاء القمة بداية الطريق لعودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها من الناحية المبدئية، لاسيما أنها تأتي في أعقاب سُلف سياسية متبادلة من بينها:
انعقاد القمة اللبنانية – السورية في دمشق التي فتحت صفحة جديدة بين لبنان وسوريا، والتي توجت الإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية كانت إلى وقت قريب من صنف “اليوتوبيا” السياسية، والتي تعتبر بالمعنى الدبلوماسي اعترافاً قانونياً سعت أطراف لبنانية إليه بكل قوة ولم تحصل عليه منذ عقود طويلة.
إطلاق سوريا إشارات قوية إلى من يعنيهم الأمر، وبالتأكيد فرنسا من بينهم، أن السياسة الخارجية السورية تجاه لبنان ستكون كغيرها من العلاقات التي تربط دمشق بباقي الدول العربية، مع التأكيد على وجوب احترام بعض خصوصية العلاقة من قبل الدول المعنية، بمعنى أن الدول المهتمة بمتابعة الملف اللبناني – السوري وما يرتبط به من قضايا ينبغي حسابها بدقة متناهية، كأنها دعوة إلى اتفاقات “جنتلمان” تحفظ حقوق ومصالح الدول الأكثر رعاية بالمعنى السياسي والدبلوماسي.
وعطفاً على ما سبق، تشكل حالة المفاوضات السورية “الإسرائيلية” غير المباشرة ذات الرعاية التركية مدخلاً لهضم الواقع السياسي في المنطقة، وبخاصة إشارة سوريا المباشرة إلى امكان دخول لبنان هذه المفاوضات في وقت لاحق، وهذا ما يعتبر سُلفة سياسية سورية محفوظة الحقوق في مسار المفاوضات التي يمكن تطويرها لاحقا وبخاصة في عهد الإدارة الأمريكية الجديدة.
في مقابل ذلك، وإن بدت فرنسا الشيراكية، وبخاصة في أواخر عهدها، أكثر عدائية مع دمشق في تاريخ علاقتهما، فإن فرنسا الساركوزية تبدو أكثر ميلاً لاستيعاب الحالة السورية في شرق أوسط يستعد لدخول مخاض الحرب أو السلم، بعد تعثر مخاض الولادة الأمريكية للشرق الأوسط الجديد، والذي يبدو أن باريس تحاول تلقف هذا التعثر لاستنساخ محاولات فرنسية سابقة للعودة إلى المنطقة من البوابة الدمشقية هذه المرة، في الوقت المستقطع من عمر الإدارة الأمريكية الحالية.
إن طموح فرنسا إلى إقامة اتحاد متوسطي لا يعبر بالضرورة عن طموح باريسي مخملي، بقدر ما هو طموح إقليمي أوروبي ومتوسطي، وقد حرص الرئيس ساركوزي في القمة الأخيرة على إعطاء سوريا ميزة تفضيلية وإن كانت بروتوكولية ودبلوماسية فهي تعطي أبعادا جديدة للفهم الفرنسي الجاد لموقع سوريا في المنطقة وقدرتها على تسويق مشاريع عجزت الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن تسويقها في المنطقة مع سوريا أو من دونها.
ثمة أفكار ومشاريع كثيرة راجت في الفترة السابقة جلها فرنسية المصدر، مفادها محاولة إبعاد دمشق عن طهران، وما يمكن أن يستتبع ذلك من تداعيات على الواقع السياسي في لبنان أولا وفي المنطقة تاليا،كما سُربت أفكار أخرى عن لعب دور ما في محاولة إقناع سوريا بالتوسّط مع طهران لإيجاد بيئات حل لأزمة الملف النووي مع الغرب، الأمر الذي يعني أن الدبلوماسية الفرنسية تجاه دمشق أشبه بدبلوماسية حد السيف؛ فهي تعطيها فرصا تعتبر ريادية في ملفات دولية شائكة ومعقدة، وفي الوقت نفسه تدرك أن فرص نجاح مثل هذه الخيارات هي متواضعة جدا إن لم تكن معدومة.
إن محاولة استشراف مستقبل العلاقات بين البلدين مرهونة بقضايا ليست بالضرورة متعلقة بهما مباشرة، وإنما تبدو مرتبطة بأداء سوريا تجاه بعض الملفات الإقليمية، ومدى الرضا الفرنسي عنه، طبعاً بصرف النظر عن مستوى الأداء وفاعليته وحتى عن مستوى الرضا وقبوله.
مثلاً، في ملف الصراع العربي – “الإسرائيلي” ليست دمشق مضطرة لتقديم الكثير لكسب الود الفرنسي، فيما المقايضة وفواتير الدفع المسبق هي في واشنطن. وبهذا المعنى، ليست باريس قادرة على التأثير في تلك الملفات باعتبارها لا تملك الحل والربط، وإنما تعتبر لاعباً غير فاعل، يبرز دوره قي بعض المحطات الاستثنائية العابرة التي لا يمكن التأسيس عليها في تقييم العلاقات السورية الفرنسية من خلالها.
في مقابل ذلك، يظهر التأثير الفرنسي أكثر وضوحاً في بعض الملفات لاسيما المتعلقة بالعلاقات اللبنانية – السورية. فعلى الرغم من تمكن واشنطن في الفترة الماضية من إبعاد الثقل الفرنسي المعنوي عن الساحة اللبنانية وما يؤثر فيها، ظلت باريس قادرة على الحراك الدبلوماسي في المحافل الدولية لتنفيذ سياساتها الخارجية المتعلقة بلبنان، ويعتبر القرار 1559 مثالاً بارزاً على ذلك، رغم بعض الاستثناءات المتعلقة بالدور الأمريكي فيه، وبالتالي فإن الملف اللبناني يمكن أن يكون مقياساً مقبولاً وواضح الأثر لمستقبل العلاقات الفرنسية – السورية.
ثمة إشارة غير معلنة، من كلا الطرفين، مفادها أن كلاً من باريس ودمشق عرفت ما ينبغي فعله. فسوريا تريد ختم ملف عزلتها الدولية بالمخمل الباريسي الساركوزي، وفي الوقت نفسه تدرك دمشق ثمنها السياسي المسبق الدفع أقله في هذه المرحلة إقامة علاقات دبلوماسية مع بيروت. فيما تطمح باريس إلى لعب أدوار ريادية في المنطقة وهي تدرك صعوبة المنال بعيدا عن البوابة الدمشفية.
لذلك، من مفارقات انعقاد القمة، هي نتائج القمة اللبنانية – السورية مبدئياً، ومن مفارقات استمرار تطوير العلاقات مرتبط إلى حد كبير بمستوى الأداء السوري في الملفات اللبنانية مستقبلاً. إضافة إلى ذلك، ثمة محفزات كثيرة يمكن أن تلعب أدوارا ايجابية أخرى، من بينها إعادة تفعيل مسار الشراكة السورية – الأوروبية مجدداً عبر البوابة الباريسية، فالعامل الاقتصادي مفتاح مرغوب فيه لدى سوريا، فيما محاولة إمساك خرائط الطرق في المشرق العربي أمر سعت وتسعى إليه فرنسا.
لقد اتسمت السياسة الخارجية الفرنسية بمظهر “المشاغبة الدبلوماسية” للحصول على ما يمكن الحصول عليه من الإدارة الأمريكية في ملفات المنطقة، كملف العراق ولبنان والصراع العربي “الإسرائيلي” وغيرها، ذلك كان في مراحل سابقة حيث لم تكن الكيمياء السياسية بين باريس وواشنطن تفعل فعلها؛ أما اليوم فقد اختلفت التفاعلات وبخاصة في خلال إدارة نيكولا ساركوزي، ما يتيح لباريس تحقيق مكاسب إضافية كانت عاجزة عنها سابقا، وربما تكون قمة الرئيسين الأسد وساركوزي بداية الأمل الفرنسي الذي يلوح في الأفق.
قبل عقد من الزمن ميّزت سوريا علاقاتها بفرنسا، عبر زيارة دولة قام بها الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى باريس، في وقت استقبل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في دمشق، والتقى الرئيس نيكسون في فيينا ولم يزر واشنطن قط. في المقابل فتحت باريس أبواب قصر الاليزيه للرئيس السوري بشار الأسد قبل تسلمه مقاليد الحكم في سوريا، فهل يعي الطرفان مغزى هذه السلف السياسية والدبلوماسية القائمة بين البلدين؟ وهل يمكن البناء عليها مستقبلاً لكي تكون قابلة للحياة؟ الأمور مرهونة بظروف ما يطرأ من مستجدات إقليمية ودولية. أما الثابت في هذا المجال فهو أيضا وأيضا القدرة السورية الفائقة في قراءة التحولات وهضمها والبناء عليها، والعبرة هنا تكمن في فهم هذه المعادلة ليس فرنسيا فقط بل بالتحديد لبنانياً.
لقد خضع كل من لبنان وسوريا إلى ربع قرن من الانتداب الفرنسي، والنتيجة كانت أماً حنوناً على لبنان، وخالة حانقة على سوريا. وطريف المفارقات في العلاقة المتبادلة بين الأم والشقيقين، تسترضي شقيق ابنها لتعزيز موقعها ولو على حساب ابنها، وتبيع ابنها حناناً غير قابل للإعراب السياسي في مجال العلاقات الدولية.