كيف دخلت إيران إلى العمق العربي؟
حازم صاغية
بل خصوصاً لانعكاسات ذلك على النسيج الوطنيّ في بلدان كالعراق ولبنان، وحسب تجربة الأيّام القليلة الماضية، الكويت.
والحال أننا حين ننظر، بالمعنى العريض للكلمة، إلى هذا المسار وما انتهى إليه، لن تفوتنا ملاحظة أساسيّة تفسّر بدايات الصعود الإيرانيّ بوصفه ملئاً وهميّاً للفراغ الناجم عن تعفُّن المشروع القوميّ العربيّ. فقد كانت سنوات السبعينيات عقداً مُرّاً انتهى إلى التعرِّي من كلّ معنى سياسيٍّ تقريباً، كما تمّ إفراغ النماذج جميعاً من دلالاتها.
وفي موازاة مبادرة أنور السادات السلمية التي تصاعدت بعد حرب أكتوبر، ثم المبادرة أواخر 1977، انفجرت الثورة الإيرانية في 1979 وبدأت رياحها تهبّ على المنطقة. فقد قاد آية الله الخميني أوّل ثورة يمكن أن تنطبق عليها تسمية “ثورة” في العالم الإسلاميّ. ذاك أنه بدل الانقلابات العسكريّة رأينا كتلاً بشريّة تنزل إلى الشوارع بمئات الآلاف وتُسقط نظام الشاه الذي غادر البلد.
بدل الحديث عن “الأمّة العربيّة” صار التعبير الرائج، من دون أيّة مراجعة، “الأمّة العربيّة والإسلاميّة”، والفارق بين التسميتين يساوي حوالى 800 مليون إنسان.
ووجدت المنطقة العربيّة ما كان ينقصها من الضديّة في الثورة الإيرانيّة. فهي بامتياز حركة مناهضة للحداثة والتنوير ومساواة الجنسين، تبسّط العالم المعاصر إلى صراع مانويّ بين خير وشرّ، وبين مُستضعَفين وطواغيت وشياطين. ولئن دشّنت الثورة أعمالها بالاستيلاء على السفارة الأميركيّة في طهران واحتجاز العاملين فيها، فإنها كانت تعلن كم أنها تتعارض مع الصيغ والقنوات التي توصّل إليها العالم المتمدّن في علاقاته الدبلوماسيّة.
وتبدّى، في مختبر التجربة هذه، أن المجتمعات قد تنجب حالات سياسيّة واجتماعيّة، إذا ما تُركت وحدها، لا تقلّ سوءاً عن سوء الأنظمة المستبدة، إن لم تزد.
على أيّة حال فبسبب موقف الثورة الإيرانيّة من الولايات المتّحدة، التي أسمتها “الشيطان الأكبر”، ومن إسرائيل “الشيطان الأصغر”، فإنها لاقت ترحيباً حارّاً في عموم العالم الإسلاميّ، لاسيّما منه الشرق الأوسط العربيّ. فقد أغلقت السفارة الإسرائيلية وحوّلتها إلى مفوضيّة فلسطينيّة، لكنها، في المقابل، أطلقت على أحد شوارعها اسم خالد الإسلامبوليّ قاتل الرئيس السادات وأصدرت طابعاً بريديّاً يحمل صورته.
في الوقت نفسه وجدت سوريا التي عزلها الخروج المصري من الصراع مع إسرائيل، من دون أن يحصل أيّ تقدّم فعليّ في علاقتها بالعراق، أن إيران يمكن أن تكون عمقاً لها في سعيها، بمساعدة الاتحاد السوفييتيّ، لبناء “توازن استراتيجيّ” مع إسرائيل. فحينما حصل الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 وهُزمت القوّات السوريّة فيه، صار توثيق الصلة مع طهران إغراء تستحيل مقاومته، خصوصاً أن الطرفين تجمع بينهما الرغبة في محاصرة النفوذ العراقيّ في بيروت، والضغط على الحكومات الغربيّة بما يتلاءم مع مصالح إيران في حرب الخليج الأولى، وهو ما عبّرت عنه أعمال خطف الرعايا الأجانب في العاصمة اللبنانيّة وضاحيتها الجنوبيّة. عزّز ذلك سياسة مساعدات إيرانيّة للاقتصاد السوريّ المتداعي، مادّته الأساسيّة الإمداد بالطاقة.
والحقّ أن خريطة الحرب بين العراق الذي تحكمه الأقليّة السُّنيّة وإيران ذات الحكم الإيراني الشيعيّ، كان لها دورها الواضح، وأحياناً الصريح. ففي هذه الحرب كان الطرف الأوّل مدعوماً من الأنظمة السُّنيّة المحافظة، ويحظى برضا الغرب المستاء من الثورة الإيرانيّة ودولتها، والمتحالف مع تلك الأنظمة في دعم “المجاهدين” الأفغان السنّة ضد الاتّحاد السوفييتيّ، فيما كانت طهران تلتقي موضوعيّاً مع الاستراتيجيّة السوفييتيّة على رغم عدائها الإيديولوجي للشيوعيّة وتصفيتها الشيوعيّين الإيرانيين. وفي هذا الاصطفاف وجدت سوريا أن في مصلحتها تأييد إيران التي تتقاطع معها ليس فقط عند العداء للبعث الحاكم في العراق، بل أيضاً بسبب التعاطف الإجمالي مع الاستراتيجيّة الكونيّة لموسكو، والانزعاج من الاهتمام العربيّ المستجدّ بالمسألة الأفغانيّة، بدل الاقتصار على دعم سوريا في “مواجهة” إسرائيل.
هنا تمكّنت دمشق من إسداء خدمة كبرى لطهران بأن حالت دون التعريب الكامل للحرب العراقيّة عليها، كما خدمت، في الوقت نفسه، الجهود والتصوّرات الكونيّة السوفييتيّة. لكن دمشق، في المقابل، لم تخسر علاقتها مع المحافظين العرب. فهي استخدمت حلفها الجديد مع إيران لطمأنتهم إلى عدم توسيع إيران مواجهتها مع العراق باتجاه أراضيهم ومصالحهم النفطيّة. وفي هذا حصل حافظ الأسد على المعونات النفطيّة والماليّة من دول الخليج كما من إيران، فيما كان يوالي مراكمة المعونات العسكريّة السوفييتيّة.
لقد بات الهاجس الحارق للسوريّين ردّهم على نتائج حرب 1982، وانتخاب حليف إسرائيل بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة غصباً عنهم. هكذا اغتيل بشير على يد القوميّ السوريّ حبيب الشرتوني، لكن مجلس النوّاب اللبنانيّ، وتحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي والدور الأميركيّ المتعاظم في لبنان، اختار شقيقه أمين الجميّل ليخلفه في الرئاسة. وقد توصّل هذا الأخير بعد مفاوضات شاقّة إلى اتّفاق 17 أيّار (مايو) مع الإسرائيليين الذي قضى بانسحابهم من لبنان مقابل تنازلات تبقى أقلّ من معاهدة سلام. إلا أن السوريين وقد جُنّ جنونهم، شنّوا عدداً من الحروب على الجميّل وسلطته المركزيّة مستعينين بقادة الطوائف اللبنانيّة المتضرّرين من سلطة الجميّل. وكان أهم ما فعلوه بموجب هذه الاستراتيجيّة الهائجة الاشتراك مع الإيرانيين في إنشاء “حزب الله” اللبناني.
فحسب الرواية الأكثر تداولاً، نشأ هذا التنظيم الشيعيّ الراديكاليّ الداعي، في بداياته، إلى إقامة “جمهوريّة إسلاميّة” في لبنان، بدور مباشر لعبه محتشمي، سفير طهران في دمشق آنذاك، وكانت سوريا جسر العبور لعناصر في “الحرس الثوريّ” الإيرانيّ ممن انتقلوا إلى لبنان ليدرّبوا الحزب الجديد عسكريّاً ويعلّموه الصفاء الثوريّ والأصوليّ الخمينيّ.
أما الفلسطينيّون الذين انحازوا للعراق في حربه مع إيران، واستمروا يصرُّون على دورهم الذاتيّ المستقلّ عن الدور السوريّ، فتحوّل “حزب الله” وأطراف لبنانيّة أخرى موالية لسوريا أداةً لمعاقبتهم. ذاك أن تلك الجماعات بدأت تحرمهم صفتهم كمقاتلي إسرائيل، واحتكر الحزب هذا الدور انطلاقاً من أنه الطرف الذي يلتحم بالدولة العبريّة جغرافيّاً في جنوب لبنان، فيما تعرّض الفلسطينيّون للإقصاء إلى شماله وشرقه وإلى تونس. وفي موازاة حروب طرابلس والبقاع والمخيّمات التي خاضها مؤيّدو سوريا والتابعون لها في لبنان ضد فلسطينييه، هُدرت دماء كثيرة دفع أغلبها نشطاء ومثقّفو الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ.
وبين عشية وضحاها صار تعبير “العروبة” أصلاً، أواخر القرن التاسع عشر، التي ولدت كاعتراض على التديين العثمانيّ للحياة العامّة، لا يرد إلا مقروناً بالإسلام في تأويل خمينيٍّ أو شبه خمينيٍّ له. وبدل الحديث عن “الأمّة العربيّة” صار التعبير الرائج، من دون أيّة مراجعة، “الأمّة العربيّة والإسلاميّة”، علماً بأن الفارق بين التسميتين يساوي حوالى 800 مليون إنسان.
وعلى العموم كان المناخ الدينيّ والمذهبيّّ الطاغي، من الحرب العراقيّة- الإيرانيّة، إلى الجهاد الأفغانيّ ضدّ السوفييت، يؤدّي جميعاً إلى تراجع القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة محوريّة في الهموم العربيّة، ولكنْ أيضاً تراجع الحداثة السياسيّة عموماً لصالح الوعيين الدينيّ والمذهبيّ الساطعين.
هكذا كُتب الفصل الأوّل في القفزة الإيرانيّة نحو الداخل العربي