لبنان و”حرب الصواريخ”
عبد الوهاب بدرخان
تهجس إسرائيل في هذه الأيام بصواريخ “حزب الله”. لدى قادتها شعور وربما معلومات تمنعهم من النوم. لم يكن بإمكانهم يوماً الادعاء بأنهم يعرفون كل أسرار هذا الحزب. وفي لبنان يتعاظم الشعور بأن ثمة نذر حرب. اللبنانيون يعرفون أشياء عن ذلك. لديهم خبرة حدسية. بعض العرب المصطافين تلبْنن أيضاً حدسهم. هذه المرة، كما في المرة الأخيرة، لن يكون “حزب المقاومة” من يبحث عن مواجهة وإنما هي إسرائيل. إذا حصلت يكسب “الحزب” فضيلة أنه نبه إلى الخطر، ويكسب وجوب استمرار الصمت حيال دوره. ليس مسموحاً القول إن للخطر مصدرين، الأول مُعادٍ والثاني صديق.
مع كل مواجهة يلمّع “الحزب” شرعية إضافية لوجوده، لسلاحه، ولسطوته على البلد وعلى السياسة. لا أمل لإسرائيل في “النصر” الذي تطمح إليه. تستطيع أن تجتاح، أن تدمّر وتدمّر، أن تضاعف المزيد من الشيء نفسه. هذه المرة تتوقع ألا تكون طلعات طائراتها مجرد نزهات. بعضها قد يسقط، من هنا القلق والضيق.
الدليل أن مروحية للجيش اللبناني أسقطت. كان ذلك تمريناً، عينة، مناورة بالذخيرة الحيّة. لا فرق. المهم أنها أسقطت. كان ذلك خطأ، سهواً، نتيجة لعدم التنسيق. لا فرق. المهم أنها أسقطت. لكن “الحزب” يتعاون مع التحقيق، يسلم أحد عناصره للقضاء العسكري، نادراً ما يكون أحد عناصره غير منضبط. لكن ما قصة التنسيق، ومن ينسق مع مَن؟ منذ البيان الوزاري وولادة هذه الحكومة لم يعد لبنان الدولة يختبئ وراء إصبعه. الدولة ضمّت المقاومة، بالأحرى المقاومة ضمّت الدولة، بالأحرى صودرت الدولة لدور كانت حتى الآن تفضل أن تلعبه بالتذاكي، بالتخفّي، بشيء من توزيع الأدوار. الآن لم تعد هناك مسافة بين الدولة والمقاومة.
أصبح هناك تماهٍ. حسناً. فلنقل إن هذا خيار، لكن من أقرّه، وهل كان حراً مخيّراً عندما أقرّه، وهل درس عواقبه فوجد أنه يستطيع أن يتحملها؟ باتت إسرائيل تعتبر الدولة اللبنانية وجيشها في حال حرب معها. وطالما أن الجبهة مع جنوب لبنان هي الجبهة العربية الوحيدة، فضلاً عن غزة التي لا تزال مزعجة، فلابد من التعامل معها.
يفترض منطقياً أن يكون هناك تنسيق بين هاتين الجبهتين، ولعله قائم فعلاً. لكن غزة واقعة تحت حصار مرير. كانت الأنفاق بمثابة شرايين حياة لها بعدما سُدّت المعابر. لكن معدّات أميركية حديثة وفّرت لمصر كي تغلق الأنفاق. قريباً لا أنفاق ولا معابر. إلا أن ما تحتاجه غزة من عتاد حربي بات الآن في حوزتها. اجتياح غزة لن يكون بدوره نزهة. هناك صواريخ أيضاً، على ما يقول الإسرائيليون. وعلى افتراض أنهم اجتاحوا ودمروا ما يريدون واعتقلوا من يريدون، ثم ماذا بعد، طالما أنهم على الجبهة الأخرى -جبهة التفاوض- عاجزون تماماً عن إحراز أي تقدم. كذلك في لبنان، حتى لو اجتاحوا ودمروا فإنهم لن يحققوا ما يريدونه فعلاً. الوضع دخل في عبثية عقيمة، الحقيقة الوحيدة فيه أن الأفق السياسي مسدود، وأن ما استطاعته إسرائيل مع الدول وجيوشها التقليدية لا تستطيعه مع مجموعات غير تقليدية تتصرف كجيوش نظامية، مستفيدة من تجارب تلك الجيوش. هذا تحدٍّ تريد إسرائيل رفعه والتخلص منه، ولن تنجح.
حروب الكلام بدأت. حروب النار تبدو كأنها تنتظر الشرارة الأولى. ارتفع منسوب التهديدات، ليس في إسرائيل فحسب، وإنما في طهران أيضاً. إذا لم تجد إسرائيل سبيلاً إلى ضرب إيران مباشرة فإنها تبحث عن ضربة غير مباشرة. أسباب حرب 2006 ودوافعها لا تزال ماثلة لم تتغير. السيناريو المقبل قد يختلف، وعندما يحتاج الأمر إلى ذريعة سيسهل إيجادها. يمكن مثلاً اقتباس أزمة الصواريخ في كوبا بين روسيا والولايات المتحدة مطلع ستينيات القرن الماضي. الذريعة هي الصواريخ لدى “حزب الله”. وهي مسؤولية إيران وسوريا. بل حتى هي مسؤولية الأمم المتحدة راعية تنفيذ القرار 1701، والمنظمة الدولية لا تنفك تتحدث في تقاريرها عن تهريب الأسلحة عبر الحدود السورية- اللبنانية. إسرائيل قد تنتقل من التهديد إلى الإنذار. إما أن تزال الصواريخ، وإما أن تتولى إزالتها. وقد تنتقل من الإنذار إلى الفعل، فالطريق إلى إيران بات يمر بلبنان أولاً، وبسوريا ثانياً، لكن سوريا قصة أخرى، ولإسرائيل وجهة نظر فيها.
“حزب الله” لا يبحث عن مواجهة لكنه يستعد لها مجنداً هذه المرة كل الدولة اللبنانية. ليست لديه حالياً أهداف عاجلة مثل تحرير الأسرى أو مبادلتهم كما في 2006، حتى إنه يتعايش مع فكرة تحرير مزارع شبعا بالجهد الدبلوماسي ولو أنه لا يتبناها. مهمته الراهنة الدفاع عن إيران من قبيل رد الجميل إليها فهي ساهمت في تحرير الجنوب. وكما أزيلت المسافة والسواتر بين الدولة والمقاومة من خلال برنامج الحكومة اللبنانية، كذلك لم يعد المسؤولون الإيرانيون يتكلفون عناء البحث عن صيغ تعتيمية في كلامهم عما يتوقعونه من “حزب الله”.
الأتحاد