ما يحدث في لبنان

لبنان وسوريا: استقلال أم اندماج؟

سعد محيو
كيف يُطل اللبنانيون والسوريون على مسألة العلاقات الدبلوماسية المرتقبة (أو يُـفترض أنها مرتقبة) بين البلدين؟
القضية معقّـدة للغاية، يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا والمصالح مع العواطف والمعطيات السياسية المحلية مع البيئة الاقتصادية العالمية والإقليمية (العولمة)، لكن، يمكن تلخيص كل هذه العوامل في مستويين إثنين:
الأول سياسي – اقتصادي آني، يرتبط بتلمس آفاق العلاقات بين البلدين بعد اتفاق رئيسهما بشار الأسد وميشال سليمان خلال قمّـتهما الأخيرة في دمشق على تبادل السفارات، ربما قبل نهاية العام الحالي.
والثاني تاريخي – إستراتيجي بعيد المدى، له علاقة بالديناميات التي تتحكّـم بطبيعة العلاقات بين هذين البلدين التوأمين، اللذين وصفهما الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بأنهما “شعب واحد في دولتين. وقبل التطرّق إلى هذين المستويين، وقفة سريعة أولاً أمام تاريخ العلاقة بين البلدين.
التاريخ
قبل احتلال القوات الفرنسية والبريطانية عام 1920 لمنطقة الهلال الخصيب العربي، التي تضُـم لبنان وسوريا والأردن وفلسطين والعراق، لم تكُـن هذه البلدان الأخيرة دُولاً بعدُ. كان معظمها جزءاً من ولاية الشام العثمانية أو ما يُسمّـى الآن “سوريا الكبرى”.
جبل لبنان وحده كانت له وضعية خاصة فرضتها القوى الكبرى الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، مُنح بموجبها الجبل حُـكماً ذاتياً بقيادة متصرّف مسيحي تعيـّنه الدولة العثمانية.
بيد أن الفرنسيين سُـرعان ما عبثوا بعُـنف بهذه الخريطة العثمانية، التي ضمنت الاستقرار النسبي للمنطقة طيلة نحو 500 عام، فعمدوا أولاً إلى تقسيم سوريا الحالية إلى أربع دول علوية ودُرزية وسُـنّية، قبل أن يعودوا إلى توحيد هذه الأراضي تحت ضغط الثورات الشعبية، لكن التغييرات التي أدخلت على “دولة لبنان الكبير”، والتي ضمّـت إلى جبل لبنان أقضية عدة من ولاية الشام، شملت الجنوب والبقاع وبيروت ومناطق في الشمال، بقيت على حالها.
هذه التغييرات خلقت جرحاً غائراً لدى القوميين العرب في كِـلا البلدين ودفعتهم إلى رفض الاعتراف بوجود الكِـيان اللبناني الجديد حتى وقت متأخر من خمسينات القرن العشرين، حين بدأ “التمايز الطبقي”، (إذا جاز التعبير) يفعل فعله في العلاقات، إذ شهد الاقتصاد اللبناني الرأسمالي الليبرالي طفرة ازدهار نوعية، بفعل تدفّـق أموال النفط عليه، فيما كانت سوريا تتخبّـط في حال لا استقرار، ثم تندفع إلى إقامة نظام اقتصادي موجّـه تحت شعار الاشتراكية.
ومنذ ذلك الحين، بدا واضحاً أن مصالِـح الفئات الحاكمة السورية واللبنانية، والتي كانت مشتركة في إطار الوحدة الاقتصادية الفعلية بين البلدين (مصرف مركزي واحد وخدمات كهربائية ومائية واحدة وعُـملة واحدة.. إلخ) بدأت تتباعَـد.
بيد أن ما سُمي بـ “القطيعة الاقتصادية” بين الطرفين في الخمسينات، والتي تبادل فيها الطرفان الاتهامات بالمسؤولية عنها، لم تستطع قطع العلاقات الاقتصادية الكبيرة غير الرسمية عبر الحدود، والتي لا تزال مستمرة بكثافة حتى الآن.
مضاعفات
نعود الآن إلى سؤالينا الأولين، ونبدأ بالأول: المضاعفات الآنية للعلاقات الدبلوماسية. ثمة تخوّف لدى الأطراف اللبنانية المتحمِّـسة لفكرة اعتراف سوريا بالكيان اللبناني من أن العلاقات الدبلوماسية لن تكون أكثر من حِـبر على ورق من ماء، وهو تخوّف يبدو في محلِّـه حتى الآن.
فالقيادة السورية لم تقبل بالعلاقات الدبلوماسية عن قناعة، بل نتيجة ضغوط غربية كُـبرى تزعّـمتها القوة الاستعمارية السابقة فرنسا، كشرط لتطبيع العلاقات مع دمشق، إضافة إلى ذلك، لم تولد فكرة تبادل السفارات من رحِـم تفاهمات إستراتيجية سورية – لبنانية مشتركة، بل من تكتيكات مُـشتركة يهدف كل فريق فيها إلى أهداف مُـتباينة عن الآخر.
بيد أن هذا التطور السياسي – الدبلوماسي “التكتيكتي” يبدو مفتوحاً في الوقت ذاته على احتمالات اندماجية لا انفصالية بين البلدين، (خاصة إذا ما أدّى إلى نزع فتيل التوتر بينهما) بفعل عاملين إثنين: الأول، الخطوات المتسارعة، التي تقوم بها سوريا للتحوّل إلى الاقتصاد الرأسمالي والحصول على عضوية الشراكة الاقتصادية الأوروبية – المتوسطية، المعلّقة لأسباب سياسية.
والثاني، الدور الكبير الذي تلعبه المصارف اللبنانية الآن في هذا التحوّل، بعد أن سُمح لخمس منها بفتح فروع في سوريا.
بكلمات أوضح: عُـطار الاقتصاد قد يصلح ما أفسدته دهور السياسة على مدى نصف القرن المنصرم، وقد يضع البلدين مجدّداً على سكّـة التكامل والاندماج، لا بل يعتقِـد العديد من المُـحللين الغربيين أن هذا قدَر لا مفرّ منه للبلدين.
تقول إليزابيث بيكارد، مديرة مركز الدراسات العربية والإسلامية في باريس: “منذ أن برز لبنان وسوريا كدولتين مستقلّـتين، كان واضحاً أن الاقتصاد الذي وحّـد بينهما لقُـرون طويلة، ستكون له اليد العُـليا في كل التطورات بينهما وأن الاعتماد المتبادل بينهما، المستند إلى الاستمرارية الجغرافية والاقتصادات الحديثة، سيستمر بشكل حثيث”.
وتقول مُـنى يعقوبيان، المستشارة الخاصة لمبادرة العالم الإسلامي في المؤسسة الأمريكية للسلام: “التاريخ الاقتصادي كان ولا يزال يمسك بخِـناق العلاقات بين سوريا ولبنان. وعلى الرغم من أن البلدين استقلا قبل نصف قرن، إلا أن التبادل الاقتصادي “غير الرسمي” بينهما لم يتوقّـف لحظة. وإذا ما تمّ تحويل هذا التبادل، غير رسمي إلى رسمي، فسيتحقق الاندماج بينهما”.
.. والعولمة
نأتي الآن إلى المُـستوى التاريخي الإستراتيجي لنقول إن تكريس العلاقات الدبلوماسية، كلاً من لبنان وسوريا كـ “دولة – أمة”، يجري في وقت بدأ مفهوم هذه الأخيرة يستعد للانضمام إلى رفوف التاريخ، لتحُـل مكانه التكتُّـلات الإقليمية، من الإتحاد الأوروبي إلى الإتحاد الأمريكي الشمالي (النافتا)، مروراً باتحادات بحار البلطيق والأسود والميِّـت ومحيطات الهادي والأطلسي، وبالتالي، هذا التكريس مناف لطبيعة عصر العولمة الذي نعيشه، والذي كان يُـفترض أن تلغى فيه الحدود تماماً بين سوريا ولبنان بدل أن ترسم، وأن تغلق السفارات بدل أن تفتح، وأن تندمج الاقتصادات بين جغرافيتهما بدل أن يذهب الجميع إلى “الشحاذة لدى دول شمالي حوض البحر المتوسط”، على حدّ تعبير مفكِّـر سياسي لبناني.
وهذه المعطيات تجعل مسألة العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وسوريا، قضية شكلية، لن تؤدّي في النهاية إلى استقلال البلدين عن بعضهما البعض، بل عن اندماجهما، وإن بصورة أكثر “رسمية”.
– بيروت
سويس انفو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى