زيارة ساركوزي لدمشق «هدية مسمومة» !
هل من خلاف بين واشنطن وباريس ؟
تكتسب الزيارة الرسميّة التي سوف يقوم بها إلى سورية الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، يومي الأربعاء 3 والخميس 4 أيلول (سبتمبر) المقبلين، أهمّية استثنائية لأسباب عديدة ومتشابكة. فهذه الزيارة ستكون الأولى لرئيس فرنسي إلى سورية منذ الزيارة التي قام بها الرئيس السابق جاك شيراك في 2002. وهي تأتي في سياق «انفتاح» فرنسي على سورية بدأ منذ انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة في لبنان، في 25 أيّار (مايو) الماضي، ووصل إلى أوجه مع استقبال الرئيس السوري بشّار الأسد في قصر الأليزيه في 12 تموّز (يوليو) الماضي. وكانت زيارة ساركوزي إلى دمشق قد أعلنت إثر لقاء الرئيسين هذا في الأليزيه، وهو لقاء تبعه لقاء رباعي ضم الرئيس اللبناني ميشال سليمان وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. وحضر الرئيس السوري غداة ذلك، في 13 تمّوز (يوليو)، المؤتمر التأسيسي لـ«الاتحاد من أجل المتوسط» الذي عقد في باريس، وكذلك احتفالات العيد الوطني الفرنسي في باريس في 14 تمّوز (يوليو). هذه الزيارة إلى دمشق تحوز على بعد إضافي كون الرئيس ساركوزي هو حالياً وحتى آخر هذه السنة رئيس «الاتحاد الأوروبي» (الذي يتم تداول رئاسته وفق الترتيب الأبحدي بين رؤساء الدول الـ27 الأعضاء مرة كل 6 أشهر). وهذه الزيارة إلى دمشق مهمّة كذلك لأنها أعلى زيارة لمسؤول غربي إلى دمشق منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت في 14 شباط (فبراير) 2005، وما تبع ذلك من ضغوط ديبلوماسيّة وقانونيّة كبيرة على سورية أجبرتها على سحب قواتها من لبنان وأغرقتها من ثم في عزلة قاسية.
قراءة «تفاؤلية» ناقصة
لذا، تبدو هذه الزيارة وكأنها التأكيد الناصع لتمكن سورية من «كسر الحصار» الدولي المفروض عليها، والبرهان الساطع على «أهميّة دورها الإقليمي»… حسب ما تردد منذ فترة الوسائل الإعلامية المقرّبة من النظام السوري. هذه القراءة «التفاؤليّة» ليست خاطئة بالضرورة، غير أنها ناقصة حقاً. وما ينقصها هو ربما الشق الأساسي، حسب ما تفيد مجمل المعطيات التي تجمعت لدينا أخيراً عن هذه الزيارة، التي كما سبق وذكرنا في «المحرر العربي» كادت أن تُلغى أكثر من مرة لو لم يقم السوريون بما طُلب منهم، سواء في موضوع حلحلة تشكيل الحكومة اللبنانية… أو تهدئة الوضع الأمني في طرابلس… أو منع وصول بعض الأسلحة التي كانت إيران تود تمريرها إلى «حزب الله» ومن بينها، حسب ما عرفنا من مصادر أوروبية موثوقة، صواريخ روسيّة أرض جو متطورة جدأً وقادرة على إسقاط طائرات إسرائيليّة. والنقطة الأساسية التي تسمح بفهم هذه الزيارة والإحاطة بأبعادها الحقيقية هي موضوع التفاوت في النظرة إلى العلاقة مع سورية بين باريس وواشنطن. فلقد كُتب الكثير عن هذا «الخلاف» المفترض بين الرئيسين الفرنسي والأميركي… وكانت آخر إشارة إلى هذا التفاوت هو إعلان روبرت وود، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، يوم الخميس 28 الشهر الجاري، أن الولايات المتحدة ترفض حذو فرنسا في التحاور مع سورية، طالما «ن دمشق لا تقوم بـ«دور ايجابي». وقد رفض المتحدث التعليق على قرار الرئيس ساركوزي زيارة سورية، وجدد القول إن الولايات المتحدة ستبدأ حواراً مع سورية في حال «لعبت دمشق دوراً ايجابياً وامتنعت عن التدخل في شؤون لبنان وأوقفت دعمها للإرهابيين وتحولت الى لاعب منتج على الساحة العالمية». وقال وود: «ليس هذا هو الوضع اليوم»، مضيفاً «طالما أنها لا تلعب دوراً ايجابيّاً وبناءً، فإنها تواصل عزل نفسها». إذاً، للوهلة الأولى، هناك فرق في الاستراتيجية، أو أقلّه في التكتيك، بين باريس وواشنطن، يمكن تلخيصه بالقول إن باريس تعتبر أن «الحوار ضروري» مع دمشق لحثها على السير نحو مواقف «أفضل»، بينما واشنطن تعتبر أن هذا الحوار مع دمشق لا يمكن أن يبدأ إلا بعد أن تعتمد سورية سياسة مختلفة.
لا خلاف بين فرنسا وأميركا
غير أن الحقيقة أنه ليس هناك أي خلاف أو تفاوت بين باريس وواشنطن، لا في الاستراتيجية، ولا حتى في التكتيك. كل ما في الأمر، كما سبق وذكرنا كذلك في «المحرر العربي»، ثمّة توزيع واضح للأدوار بين الديبلوماسيتين الفرنسية والأميركية. وباريس في الحقيقة لا تريد أبداً أن تحذو واشنطن حذوها الآن وتنفتح على دمشق، لأن ذلك سيضعف كثيراً المنهجية التي تعتمدها الديبلوماسيّة الفرنسية تجاه سورية. يجب التنويه هنا بأن محرك هذه الديبلوماسية الفرنسية تجاه سورية ومنفذها الأوّل هو الرئيس ساركوزي نفسه، وليس وزير خارجيته برنار كوشنير. ذلك أنه لم يعد يخفى على أحد أن الرئيس ساركوزي لا ينظر إلى كوشنير بجدية ويتحرك بشكل مباشر في كل ملف يعتبره حساساً. وقد سبق له مثلاً أن أرسل في خريف العام 2007 وبينما كان كوشنير غارقاً في تفاصيل السياسة اللبنانية في بيروت… أقرب مستشاريه كلود غيان للقاء الرئيس بشار الأسد في دمشق من دون أن يُعلم الوزير كوشنير بذلك. وقد علم كوشنير بزيارة غيّان إلى دمشق من قبل الصحافيين في بيروت. الزيارة التي يقوم بها ساركوزي إلى دمشق تعكس في الواقع مقاربة ديبلوماسية معقدة. فالقيادة الفرنسيّة مقتنعة تمامأً أن النظام السوري في «مأزق بنيوي»، داخلي وخارجي، سياسي واقتصادي وقانوني وعسكري، وأن الوقت يعمل ضد هذا النظام في الأمدين القصير والمتوسط. ما هو الهدف إذن من هذا «التقرّب» من الرئيس بشار الأسد؟ الهدف بسيط ومهم في آن: «مصاحبة» النظام السوري في مأزقه هذا. أي بكلام آخر، المحافظة على حوار معه، وعلى شعرة معاوية معه، بهدف تجميد قدرته على إشعال الأزمات في محيطه، وذلك عبر التلويح له، عبر هذه الزيارات والدعوات والاتصالات، بأن هناك مخرجاً ما ممكناً له… القناعة الفرنسية، والأوروبية والغربية والدولية عموماً، بأن «لا مستقبل لهذا النظام» في سورية قائمة على سلسلة طويلة من المعطيات الحسية، الحالية والاستشرافية. ولا يمكن للديبوماسية الفرنسية ولا لغيرها أن تغيّر شيئاً في هذه المعطيات. وأفضل ما يدل على هذا «المأزق البنيوي» للنظام السوري هو أن المطالب السرية لهذا النظام مطالب «تعجيزية» يستحيل بشكل كلي التجاوب معها.
الضمانات الدولية مستحيلة
فالنظام السوري يريد، بادئ ذي بدء، ضمانات دوليّة لاستمراريته.. وهذه الضمانات لا يستطيع الرئيس ساركوزي ولا غيره تقديمها له. فلا أحد يستطيع، لا في العلن ولا في السر، أن يعد بشّار الأسد بأن المحكمة الدوليّة في اغتيال الرئيس الحريري ستتناساه… ولا أحد يستطيع حتى أن يعده بأي «مقابل» في حال عبّر عن «حسن نية»… والأصعب هو أن علامات «حسن النية» هذه التي تطلبها الديبلوماسية الدولية من سورية هي أشبه بمهمات «انتحارية» تطلب من نظامها. وهذا ما سيشعر الرئيس السوري به من دون أي شك خلال لقائه بالرئيس الفرنسي. فالرئيس ساركوزي، حسب ما علمنا من مصدر فرنسي دقيق ومطلع، سيطلب من نظيره السوري سلسلة من «المهمات الديبلوماسية»، سواء تجاه إيران أو تجاه الحركات الفلسطينية أو تجاه «حزب الله»… تصب جوهريّاً ضد مصلحة النظام السوري، كونها ستؤدي إن «نجحت» إلى إضعاف هذا النظام… لأنها إما ستضعف حلفاءه في لبنان وفلسطين، أو أنها ستؤدي إلى إضعاف علاقته بهم وثقتهم به بمن فيهم إيران. ولا يستطيع الرئيس السوري «رفض» ذلك بشكل واضح، إذ أن خطابه مع الرئيس ساركوزي قائم على ضرورة فتح صفحة جديدة، أي على تناسي الماضي واختبار النيات من جديد. وهنا المأزق الحقيقي الذي يواجه نظام بشّار الأسد في هذه العلاقة مع فرنسا. فالرئيس الفرنسي ذاهب إلى دمشق ولكن ثمة ثلاثة خطوط حمر لا يمكنه بتاتأً أن يتجاوزها، ألا وهي : 1 – لا مساومة على المحكمة الدوليّة، سيّما وأن المحكمة خرجت الآن من سيرورة مجلس الأمن الدولي ولم يعد بالإمكان «ضبطها» سياسيّاً. 2 – لا قبول بأي شكل من أشكال الهيمنة مجدداً من قبل سورية على لبنان. 3 – لا مساعدات عسكريّة إلى الجيش السوري، أوّلاً لأن ذلك لا تسمح به العلاقات بين الدول الغربية وإسرائيل ومن ثم لأن العلاقة الجيدة بين سورية وروسيا تشكل خطراً لتسرب التقنيات المتطورة إلى روسيا، وكذلك لأن سورية لا تستطيع أن تدفع، وأخيراً لأن ليس من المبرر معنوياً تزويد نظام قمعي بأسلحة قد يستخدمها كما سبق وفعل ضد شعبه. وإضافة إلى هذه الخطوط الحمر، يحمل ساركوزي إلى الأسد سلسلة من المطالب _ الفرنسية والأوروبية والغربية وبالتالي الدولية – وهي في عداد خمسة: 1 – التوقف عن دعم الإرهاب في المنطقة، أي في لبنان وفلسطين والعراق. 2 – الامتناع عن أي اغتيال أو تآمر في لبنان، والتوقف عن تمرير الأسلحة عبر الحدود. 3 – لجم «حزب الله» عن أي «مغامرة» جديدة تجاه إسرائيل انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. 4 – الاستمرار في مفاوضات السلام مع إسرائيل على الرغم من المرحلة السياسية الانتقالية التي ستعيشها إسرائيل على الصعيد السياسي. 5 – تعاون كامل مع وكالة الطاقة النوويّة الدوليّة في عمليات التفتيش التي قد تقوم بها في سورية. هذه هي الخلفيات المحيطة بزيارة ساركوزي، وهذا هو مضمونها الحقيقي. وهي إذن هدية… ولكنها مسمومة فعلاً. وسائل الإعلام السورية وبعض وسائل العربية لم ترَ فيها إلا كونها… هدية.
المحرر