صبحي حديديصفحات العالم

عبد المطلب النيجيري: العملية جديدة والاسئلة قديمة

null
صبحي حديدي
لكي يقتفي أثر سلفه جورج بوش الابن، ليس في المفردات والمجاز والروحية فحسب، بل في التشخيص والعقيدة والقرار؛ كان كلّ ما احتاج إليه خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما هو مظروف صغير يحتوي مادّة متفجرة، صعد بها النيجيري عمر فاروق عبد المطلب على متن طائرة أمريكية متوجهة إلى الولايات المتحدة، وحاول استخدامها لتنفيذ عملية إرهابية جديدة، شاءت الأقدار أن تفشل في التوقيت القاتل. وبدل استلهام خطابه الآخر حول ‘الحملة على الإرهاب’، والذي هيمن طيلة أشهر الحملة الإنتخابية ومطالع تولّي الوظيفة فعلياً، وراق للكثيرين ممّن صوّتوا له على أساس ارتياحهم ذاك تحديداً؛ فإنّ أوباما ارتدّ إلى تلك الفلسفة التي صاغها المحافظون الجدد، واعتمدها الرئيس السابق، منذ هزّة 11/9/2001: هنا، حيث تُختزل مشكلة الإرهاب المعقدة إلى حفنة كليشيهات مسبقة الصنع والإستهلاك، فلا تكون مستويات العلاج إلا أمنية ـ استخباراتية صرفة، وأمّا السياسة وعلم الاجتماع والعوامل الثقافية والمكوّنات النفسية… فإنها مستبعَدة، أو منتفاة أصلاً.
ولكن إذا كان باراك نفسه، في نوبة غضب لعلّها الأولى العلنية ضدّ أجهزة الأمن القومي الأمريكية في العموم، قد أشار إلى مزيج من الخطأ البشري وخطأ النظام… فأيّ معجزات يمكن أن تجترح الإجراءات الجديدة التي يقترحها، وعجزت عن اجتراحها حزمة الإجراءات التي انتهجتها الإدارة السابقة؟ وفي الأساس، بصدد العملية الإرهابية الأخيرة الفاشلة، ألم تكن يد الأقدار والمصادفات، وليس أيّ طراز من المعجزات الأمنية والإستخباراتية، هي التي أنقذت قرابة 300 راكب من الهلاك؟ وفي المقابل، ألم تعجز شبكات الإستخبارات الأمريكية، في ثلاث قارّات على الأقلّ، عن إجراء ابتدائي في منتهى البساطة، هو الحيلولة صعود عبد المطلب إلى الطائرة، رغم ركام المعلومات التي توفّر لها… حتى من والد الفتى نفسه؟
ومن جانب آخر، سبحان الذي جعل أوباما يتحدث عن ‘استخدام كلّ عنصر من عناصر قوّتنا لنسف، وتفكيك، وهزيمة أهل العنف المتشددين الذين يهددوننا’، ويخصّ بالذكر أفغانستان وباكستان واليمن والصومال… ويغفل ذكر العراق! ألم تقرّر الولايات المتحدة اجتياح ذلك البلد بجيوش جرّارة، وباستنهاض حلفاء من كلّ حدب وصوب، لكي تستأصل جذور ‘القاعدة’ هناك، كواحد من أهداف الغزو الجوهرية التي ساقها الرئيس السابق؟ وإذا كان أوباما قد ناهض ذلك القرار من مبنى الكابيتول، آنذاك، ألا يشغل اليوم موقع القائد العسكري الأعلى للجيوش الأمريكية، داخل وخارج الولايات المتحدة؟ وبصفته هذه، أليس مسؤولاً أيضاً عن العمليات الإرهابية ضدّ المواطنين العراقيين الأبرياء، التي تزايدت واشتدّت دمويتها في هذه الفترة الزمنية تحديداً، وربما ساعة محاولة الهاوي النيجيري تنفيذ عمليته؟
والحال أنّ هذا الفتى، الذي استقلّ الطائرة لكي ينتحر وهو في الثالثة والعشرين من عمره، يذكّر مباشرة بمتطوّعي العمليات الإرهابية التي شهدتها العاصمة البريطانية لندن، صيف 2005، من حيث أنهم لم يكونوا نتاج تربية أصولية دينية متشددة. كذلك لم يكن بهم ‘مسّ من جنون متأصل’، يجعلهم في حال من البغضاء المطلقة ضدّ الإنسانية جمعاء (كما أوحى أمثال دانييل بايبس مثلاً)؛ أو ضدّ ‘النموذج الحضاري الغربي’، كما أوحى أمثال جورج بوش وسيلفيو برلسكوني وخوسيه ماريا أثنار وتوني بلير. لعلّ النقيض كان هو الذي طبع تفاصيل التربية العائلية، والحياة الدراسية، والصداقات، والأمزجة النفسية، والنزوعات الفكرية والثقافية، وأنساق السلوك اليومي.
بيد أنّ الإشكالية قد تكمن هاهنا تحديداً، أي في باطن وضعية الإزدواج الإنكساري العميق التي عاشها أمثال حسيب صادق (19 سنة) وشاهزاد تنويري (22) ومحمد خان (30)، بين اندماج كامل أو شبه مكتمل في الحياة البريطانية والحضارة الغربية إجمالاً، وبين انسلاخ إرادي من هذه الحياة استجابة إلى اعتبارات عقائدية صرفة، لا تغيب عنها السياسة دون ريب. على سبيل المثال، في عام 1989 حين أحرق الإسلاميون المتشددون نسخاً من رواية سلمان رشدي ‘الآيات الشيطانية’ في برادفورد، وتظاهر ضدّها الملايين في مختلف عواصم آسيا المسلمة، كان خان 14 سنة، وكان تنويري ستّ سنوات، وصادق ثلاث سنوات! وبعد تلك القضية، أيّ انتهاك أخطر للدين الإسلامي شهدته بريطانيا؟ لا شيء عملياً، باستثناء السياسات البريطانية المؤيدة للولايات المتحدة في فلسطين وأفغانستان والعراق والشيشان، وقبلها في البوسنة.
وهكذا، ما خلا زيارة قصيرة إلى اليمن سبقت محاولة تنفيذ العملية الإرهابية، حيث يتردد أنه التقى هناك بالداعية اليمني أنور العولقي (الذي أشارت تقارير إلى صلته، عبر البريد الإلكتروني، بالرائد نضال مالك حسن، المتهم بتنفيذ عملية ‘فورت هود’ ومقتل 13 شخصاً)؛ لا تتجاوز تربية عبد المطلب الأصولية حدود ما كان يتابعه، وينخرط فيه، من مناقشات عبر المنتديات الإسلامية على الإنترنت. في المقابل، كان رغد العيش الذي وفّره له الأب الثري، ومستوى التعليم المتقدّم الذي كان يتلقاه في الغرب، وطراز الحياة الأسرية المستقرة، كفيلة جميعها بإبعاده تماماً عن أجواء التطرّف التي انتهت به إلى ذروة التطوّع، أي تنفيذ عملية إنتحارية إرهابية.
وفي واحدة من أعمق، فضلاً عن كونها بين أندر، الدراسات التي تتناول الإرهاب بوصفه مشكلة أخلاقية أوّلاً، يعتبر غرانت وردلو، صاحب العمل الكلاسيكي ‘الإرهاب السياسي: النظرية، التكتيك، والإجراءات المضادة’، أنه لكي يكون أيّ تعريف للإرهاب مقبولاً على نطاق عريض، لا بدّ له من ‘تجاوز الوصف السلوكي، مقابل إدراج الباعث الفردي، والوسط الإجتماعي، والهدف السياسي’. والمشكلة هي أنّ محاولات التعريف ‘مرتبطة بالإفتراض القائل إنّ بعض طبقات العنف السياسي مبرّرة، وبعضها الآخر غير مبرّر’، وبالتالي يرتدّ التعريف إلى الدائرة المغلقة القديمة: الإرهابي عندك يمكن أن يكون مقاتلاً من أجل الحرية عند سواك.
وفي العادة تنصح وزارة الخارجية الأمريكية بالعودة إلى النصّ الكلاسيكي المرافق لقانون مكافحة الإرهاب، الذي وقّعه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عام 1996، والذي تعتمده الإدارة في توصيف وتعريف ‘أنساق’ الإرهاب الدولي. ذلك النصّ يقول ما يلي في التعريفات:
ـ تعبير ‘الإرهاب’ يصف العنف المقصود مسبقاً، والذي تحرّكه دوافع سياسية، ضدّ أهداف ‘غير قتالية’، على يد منظمات محلية أو شبه محلية، أو عن طريق عملاء سريين، وذلك بقصد التأثير في الرأي العام.
ـ تعبير ‘الإرهاب الدولي’ يعني الإرهاب الذي يصيب المواطنين أو الأراضي في أكثر من بلد واحد.
ـ تعبير ‘المجموعة الإرهابية’ يفيد أية مجموعة رئيسية أو فرعية تمارس الإرهاب على نطاق محلي ودولي في آن معاً.
والحال أنه، استناداً إلى مثل هذه التعريفات، سوف يكون من المشروع أن تندرج في التعريفات أعلاه جميع أجهزة الإستخبارات الغربية، التي مارست في السابق عشرات عمليات الإغتيال الفردي، وتدبير الإنقلابات العسكرية، وزعزعة الإستقرار الداخلي للدول والأمم. ومن المنطقي، استطراداً، أن تتصدر اللائحة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية دون سواها، وبوصفها ‘أمّ الوكالات’ بلا منازع؛ وقد يليها جهاز الموساد الإسرائيلي، من حيث قذارة الأداء والأدوات؛ ثمّ الـ MI 5 البريطاني، والـ DST الفرنسي، والـ KGB الروسي، وما إلى ذلك من مختصرات متمدنة ذائعة الصيت.
على مستوى الأفراد، وليس المنظمات والأجهزة، هنالك مثال العميل الأمريكي ميلارد شيرلي، الذراع الضاربة للـ CIA، في عموم الأصقاع الأفريقية، طيلة عقود؛ كما فضحه الصحافي الأمريكي جيف شتاين، المختصّ بكشف سوءات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. بين أساليب ميلارد في العمل أنه اعتاد على دسّ حامض الـ’بروسيك’ في مشروبات ضحاياه، وهم غالباً من رجال المعارضة للأنظمة التي تساندها الـ CIA،الأمر الذي كان يتسبب في ذبحة قلبية فورية، ويجعل من المنطقي على أي طبيب أن يردّ الوفاة إلى أسباب طبيعية. وهذه، بالمناسبة، وصفة مدرجة في المقررات التدريسية (نعم، التدريسية!) لطلاب ‘مدرسة الأمريكتين’ في فورت بننغ ـ ولاية جورجيا، التي تديرها وزارة الدفاع الأمريكية، وتُعنى بتأهيل وتدريب الضباط الوافدين من دول أمريكية لاتينية.
تكنيك آخر هو دسّ موادّ كيميائية خاصة في أباريق الماء، وكان ميلارد يلجأ إلى هذا السلاح حين يتصل الأمر بتقصير أمد مفاوضات ما (مع ممثّلي النقابات، على سبيل المثال)، وإنهاك الخصم بحيث يضطر إلى الموافقة على أي شيء، لأسباب صحية قاهرة. حيلة ثالثة هي التسلل إلى صفوف المتظاهرين السود، والتبرّع بأكبر كمية ممكنة من قمصان الـ ‘تي ـ شيرت’ التي تحمل شارة وشعار ‘المؤتمر الوطني الأفريقي’، أو العبارات والرسوم المعادية للأبارتايد. قبل ذلك، يكون ميلارد قد نقع القمصان في محلول خاص يؤدي إلى حكّة شديدة والتهابات وحروق فورية في الجلد.
وأما أبرز إنجازاته فقد كانت الأناة والصبر في رصد تحركات نلسون مانديلا أثناء أطوار العمل السرّي، حتى جاءت اللحظة السانحة، فقاد رجال الأمن إلى مخبئه السري، وتمكنوا من إلقاء القبض عليه. بمعنى آخر، إذا نسيت قيادات ‘المؤتمر الوطني الأفريقي’، وعلى رأسهم نلسون مانديلا بالذات، أي شيء وكلّ شيء، فإنها لن تنسى حقيقة أن المخابرات المركزية الأمريكية هي التي اعتقلت مانديلا وليست سلطات جوهانسبرغ العنصرية. وبالطبع، الحمقى وحدهم يمكن أن يتساءلوا عن مصلحة الولايات المتحدة في اعتقال مانديلا.
ثمة، هنا، مفهوم نظير لـ’الإرهاب’، هو ‘الترهيب’، وفق البروفيسور وردلو، يزوّد المرء بأواليات نظرية لقراءة مقدار الإرهاب الذي تتضمنه العمليات السرّية غير المشروعة لمختلف أجهزة الإستخبارات الغربية، وهذا بمعزل عن أنساق مفضوحة جلية مثل سجن غوانتانامو، وما جرى في سجن أبو غريب، والسجون الطائرة، والمجازر من النوع الذي تعرّضت له باغرام الأفغانية، أو حديثة العراقية، أو غزّة الفلسطينية. ومن أجل تقييم أفضل لطبيعة الإرهاب، يساجل وردلو، تقتضي الضرورة تفحّص تعريفات الترهيب ومفاهيمه، وتدقيق علاقته ـ الغائمة عادة، أو الغامضة ـ مع أشكال العنف المدني والعسكري والسياسي الأخرى، ومع السلوك الإجرامي، لدى الأجهزة والمؤسسات.
ومن المعروف أنّ الإدارات الأمريكية، جمهورية كانت أم ديمقراطية، اسوة بوسائل الإعلام الأمريكية والغربية عموماً، اعتادت التشكيك (وأحياناً اعتمدت خيار تأثيم) دراسات رصينة تشدّد على العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والثقافية والإيديولوجية… وراء صعود العنف وانقلابه إلى إرهاب. وهي، كما تفعل دراسة وردلو، تشدّد على أنّ الإرهاب يهيمن ـ في ما يشبه الضرورة الحتمية، كما يتوجب القول ـ حين تجد المجموعة الأضعف أنها مضطرة إلى استخدام العنف ضدّ المجموعة الأقوى، في شروط من انعدام التكافؤ على صعيد موازين القوى… بافتراض وجود موازين اصلاً!
وأما حين تلجأ المجموعة الأقوى إلى استخدام المزيد من العنف ضدّ المجموعة الأضعف، كما فعلت القاذفات الأمريكية قبل أسابيع ضدّ قواعد الفرع اليمني لمنظمة ‘القاعدة’، وكما يهدّد أوباما اليوم؛ فإنها لا تضيف إلى إرهاب الدولة الرسمي صفة القمع المطلق العاري، فحسب، بل تستولد الأشدّ من العنف المضادّ، والمزيد من أمثال عمر فاروق عبد المطلب.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى