‘الدهاء الشامي’ يكسر عزلة سورية
تنعقد اليوم في دمشق قمة رباعية تضم زعماء فرنسا وتركيا وقطر إلى جانب الرئيس السوري المضيف بشار الأسد لبحث قضايا اقليمية عديدة، من بينها المفاوضات السورية – الاسرائيلية غير المباشرة والمعادلة الدولية الجديدة في ظل أحداث جورجيا الأخيرة وعودة الحرب الباردة اثر صعود القوة الروسية مجدداً. زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لدمشق، والقمة الرباعية التي سيشارك فيها تشكلان انجازا مهماً للدبلوماسية السورية التي نجحت في كسر الحصار العربي والأمريكي المفروض على دمشق أولاً، وناورت بذكاء شديد لكسب أكبر قدر ممكن من الوقت لتجنب أي صدام مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فالحكم السوري واجه على مدى الاعوام الخمسة الماضية حالة من الحصار الخانق بسبب رفضه مساندة المشروع الأمريكي في العراق بالكامل، واحتضانه لحركات المقاومة الفلسطينية المعارضة للتسوية (حماس والجهاد)، ووقوفه بصلابة خلف ‘حزب الله’ اللبناني، وانضمامه إلى المحور الايراني في مواجهة محور الاعتدال العربي الذي يضم مصر والمملكة العربية السعودية والاردن ودول الخليج. وكان من المفترض ان تخف حدة هذا الحصار، والجانب العربي منه خاصة، بعد حدوث انفراج في الأزمة اللبنانية وانتخاب العماد ميشيل سليمان رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة، وتعاون الحكومة السورية بشكل فاعل لمنع تسلل المجاهدين إلى العراق واحكام اغلاق الحدود السورية – العراقية، وانخراط سورية في مفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل، ولكن ما حدث هو العكس تماماً، حيث استمرت القطيعة السورية مع دول محور الاعتدال، ومصر والسعودية بالذات. وتحفظت الادارة الأمريكية على المفاوضات السورية – الاسرائيلية برعاية تركية.
الرئيس الفرنسي لا يمكن ان يقدم على زيارته إلى دمشق دون الحصول على ضوء أخضر من واشنطن، أو عدم ممانعتها في الحد الأدنى، فهـو من أقرب الحلفاء إلى الادارة الأمريكية، ولا بد ان واشنطـن تسانـد الجهـود التي تريد ابعـاد سـورية عن ايــران، وربما روسيـا اذا تـأتى ذلـك، وان كـانت غيـر متـأكدة من فرص نجاحها.
المتغيرات في الساحة الدولية، وعودة الحرب الباردة، وارتباك المعسكر الغربي تجاه أزمة جورجيا، كلها عوامل تصب في مصلحة تعزيز الموقف السوري في مواجهة خصومه، وتجعل من دمشق ورقة صعبة في النظام العالمي الجديد الذي يتطور بسرعة حالياً، وستكون له انعكاساته في المنطقة العربية في الأعوام وربما الأشهر المقبلة. وهذا ما يفسر قلق بعض الأطراف اللبنانية غير الصديقة لسورية التي ابدت انزعاجاً ملحوظاً تجاه زيارة ساركوزي لدمشق.
القمة الرباعية التي تنعقد اليوم هي أول انعكاسات المتغيرات الاستراتيجية الجديدة في المنطقة العربية بعد أزمة جورجيا، وهزيمة المشروعين الأمريكيين في العراق وأفغانستان. فهي قمة تؤشر إلى خريطة جديدة للتحالفات الاقليمية، وعمق التنسيق السوري التركي على وجه التحديد تجاه الكثير من ملفات المنطقة.
خروج سورية من المثلث المصري – السعودي الذي انحشرت فيه ما يقرب العشرين عاماً على الأقل، بدأ يعطي ثماره، من حيث اعادة سورية إلى دورها الاستراتيجي الفاعل على صعيد السياسات الاقليمية والعالمية. صحيح ان بداية هذا الخروج جاءت صعبة ومكلفة، وهي امور متوقعة في كل مراحل التغيير الاستراتيجي الاقليمي المماثلة، وروسيا مرت بمرحلة انتقالية مماثلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مع الفارق في المقارنة، ولكن سورية تجاوزت المحنة، جزئياً على الأقل، وبدأت تخرج من عزلتها بطريقة تدريجية محسوبة بدقة، الأمر الذي يؤكد مجدداً ‘دهاء’ العقلية الشامية المعروفة.
القدس العربي