زيارة الرئيس الفرنسي لسورية… تجسيد للقطيعة مع الماضي أم محاولة للتطويع؟
توفيق المديني
«إذا كان من المستحيل القيام بالحرب في منطقة الشرق الوسط من دون مصر»، كما قالها ذات يوم وزير الخارجية الأميركيةالأسبق هنري كيسنجر، فإنه أيضا «من المستحيل تحقيق السلام في الشرق الأوسط من دون سورية».. تلك هي المعادلة الجيوبوليتيكية التي استوعبها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، على نقيض سلفه الرئيس جاك شيراك الذي طبق العزلة السياسية الدولية على سورية بالتوافق مع إدارة الرئيس بوش.
مضت الأعوام الماضية، من تمسك إدارة الرئيس بوش وقصر الإليزية بسياسة عزل سورية عن المجتمع الدولي، من دون أن تحقق النتائج المرجوة. فهاهو الرئيس السوري بشار الأسد يظهر في باريس ضيفا على الرئيس نيكولا ساركوزي، ويفرش له السجاد الأحمر، ويحضر قمة «الاتحاد من أجل المتوسط» التي عقدت في باريس يوم 13يوليو الماضي.
وفي تقرير حديث صادر عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، بالتعاون مع المعهد السلام الأميركي، وأعده كل من منى يعقوبيان وسكوت لاسنسكي الباحثين بالمعهد الأميركي للسلام، يرى التقرير أن نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تأثر بشكل كبير خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ويدلل التقرير على ذلك بثلاث مناسبات سياسية شهدتها المنطقة في الأشهر القليلة الماضية، أولاها الوساطة التركية في محادثات السلام غير المباشرة بين سورية وإسرائيل، مرورا باتفاق الدوحة الذي قامت برعايته دولة قطر والخاص بحل الأزمة اللبنانية، وانتهاء بالوساطة المصرية بين حماس وتل أبيب لإقرار الهدنة وفك الحصار عن غزة. (عزل سوريا أضر بمصالح أميركا في الشرق الأوسط..كلينتون أفضل الرؤساء الأميركيين في التعامل مع سورية، صحيفة الشرق القطرية، تاريخ النشر: يوم السبت 30 أغسطس 2008).
باريس وصناعة التاريخ
في فرنسا، جاء دور الرئيس نيكولا ساركوزي لكي ينكبّ على الريالبوليتيك، وينتهج سياسة مغايرة مع سورية، من خلال الزيارة التي سيقوم بها إلى دمشق في الثالث من سبتمبر الجاري، وهي أول زيارة لمسؤول فرنسي بهذا المستوى، بعد تجميد العلاقات بين البلدين لمدة أربع سنوات.وكان الرئيس ساركوزي اختار الاجتماع السنوي للسفراء الفرنسيين الذي عقد في 27 أغسطس الماضي، لكي يجسد ما يمكن تسميته بـ«خطاب القطيعة»، حين قال فيه : إن « خيارات القطيعة مع الماضي التي اقترحتها على الفرنسيين والتي دخلت حيز التنفيذ منذ 15 شهرا، قد أثبتت فاعليتها». وشدد ساركوزي على أن «فرنسا يجب أن تتبدل بعمق وبسرعة إذا ما أرادت أن تظل في مقدمة الأمم التي تصنع التاريخ بدلا من أن تخضع لأحداثه».
و المتابع للسياسة الفرنسية يلمس بوضوح أن هناك خمس محطات مهمة لآثار القطيعة هذه مع نهج سلفه شيراك التي كرسها ساركوزي في مجال السياسة الخارجية، وهي العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، وعودة فرنسا إلى القيادة المشتركة في حلف شمال الأطلسي، والموقف الفرنسي في الشرق الأوسط وتطور العلاقات مع سورية، والاتحاد الأوروبي، وإفريقيا.
وفق رؤية ساركوزي، بين خيار العزلة على دمشق المفضل من قبل الولايات المتحدة الأميركية وخصوم سورية من القوى السياسية اللبنانية، وبين خيار التصالح مع كل من له قابلية للتطور، آثر ساركوزي اتباع سياسة فرنسية تقوم على إعادة العلاقات بالدول التي تريد الاتجاه من جديد نحو الاعتدال، ومن ضمنها ليبيا وسورية.
من أجل المتوسط أم الشرق الأوسط
في اللقاء الذي تم بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والرئيس السوري بشار الأسد في 12يوليو الماضي، عشية انعقاد قمة «الاتحاد من أجل المتوسط»، يعتقد ساركوزي ان ذلك اللقاء جاء بعد تسجيل تقدمين جديدين، الأول، الإعلان الرسمي عن إقامة علاقات دبلوماسية للمرة الأولى منذ استقلال لبنان، بين دمشق وبيروت، وقرار سورية أن تكون هناك رعاية مشتركة فرنسية-أميركية لمفاوضات سورية-إسرائيلية مباشرة في الوقت المناسب، وأيضا رعاية مشتركة لتنفيذ اتفاق السلام الذي سيتمخض عن هذه المفاوضات، بما في ذلك الترتيبات الأمنية.
الرئيس ساركوزي كان يشترط لعودة العلاقات الفرنسية– السورية إلى حالتها الطبيعية، حل الأزمة اللبنانية. وقد تجسدت بوادر الحل هذه في انتخاب الرئيس ميشال سليمان، ثم في قمة دمشق الأخيرة التي جمعت بين الرئيسين السوري واللبناني، يومي 13و14 أغسطس الماضي، والتي شكلت خطوة مهمة في اتجاه تغيير مسار العلاقات بين البلدين، إذ إنها حسمت قضية الاعتراف السوري بالكيان اللبناني من خلال إعلان قرار تبادل التمثيل الدبلوماسي معه للمرة الأولى منذ استقلاله. وكان مجلس الوزراء اللبناني وافق على فتح سفارة في دمشق، وأن على البرلمان السوري أن يجتمع للموافقة على إقامة العلاقة الدبلوماسية مع لبنان. وتتوقع فرنسا تبادل السفراء قبل نهاية العام الحالي.
التقدم الحاصل عن طريق إعلان إقامة العلاقات الدبلوماسية بين سورية ولبنان يعتبر إنجازا مهما للسياسة الخارجية الفرنسية، لكن التطبيع الكامل بين سورية ولبنان لايزال مرتبطا بحل القضايا الجوهرية الأخرى العالقة بين البلدين، وأبرزها ما يتعلق بترسيم الحدود بين البلدين وحل مشكلة المفقودين اللبنانيين.. وتعلم فرنسا منذ الزيارة التي قام بها أمين عام الرئاسة الفرنسية كلود غيان قبل قمة «الاتحاد من أجل المتوسط» إلى دمشق، أن سورية ترفض تكريس لبنانية مزارع شبعا لأنها أرض سورية.. والحال هذه، فإن حل هذه المعضلة مرتبط باستعادة الجولان المحتل. من هنا تعتقد باريس أن قضية ترسيم الحدود بين سورية ولبنان سيأخذ وقتا طويلا.
لا بديل عن واشنطن
من أبرز القضايا التي سيناقشها الرئيس ساركوزي مع نظيره السوري بشار الأسد قضية المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل عن طريق الوسيط التركي.. فالرئيس ساركوزي مهتم بالمفاوضات السورية–الإسرائيلية، ويريد لفرنسا المشاركة إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية في مفاوضات سلام سورية–إسرائيلية مباشرة.
وتعلم سورية علم اليقين أن المفاوضات المباشرة مع إسرائيل من دون رعاية الولايات المتحدة الأميركية لها عديمة الجدوى. فلسورية مصالح واهتمام بالتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، لأسباب داخلية تتعلق بالوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد، والمستقبل القاتم مع نضوب مخزونها من النفط، وبسبب الضغوط السياسية والعقوبات القاسية التي تتعرض لها من جانب الغرب.
وتعلم سورية أيضا أن المجتمع الإسرائيلي يزداد تطرفا وتوغلا في الاستيطان، وبقدر ما هو يؤيد المفاوضات ما بين إسرائيل وسورية، فإنه يعارض التنازل عن هضبة الجولان في إطار اتفاق سلام معها. ولهذا السبب يصر الرئيس الأسد على مطالبته بمشاركة الولايات المتحدة الأميركية في المفاوضات مع إسرائيل. ولا تستطيع سورية تحسين وضعها من دون تغيير جوهري في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
هنا تدخل السياسات الإقليمية والدولية في إطار المقايضات.. فسورية تملك الآن أوراقا رابحة، منها صمود حزب الله، بل ربما انتصاره منذ حرب يوليو العام 2006، وتمكن «حماس» من السيطرة على قطاع غزة، بل وحتى تقييدها للسلطة الفلسطينية، والتحالف الاستراتيجي القائم بين سورية وإيران، ويشكل هؤلاء دعما استراتيجيا لسورية في مقاومة إسرائيل.
وفي المقابل، يشترط الغرب على سورية كي تحسن علاقاتها بصورية جذرية مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموما، فك علاقاتها مع إيران، لأن هذه الأخيرة لا تشكل بديلا من هذا كله.. فهل ينجح الرئيس ساركوزي في مهمته؟
كاتب من تونس