«قوة الحق» في الوعي السياسي العربي
د.رشيد الحاج صالح
تعاني الثقافة السياسية العربية – سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي- من عيوب وأوهام كثيرة عشعشت في الذهنية العربية، لدرجة أنها أصبحت من بديهيات النقاشات السياسية، حيث أصبح الإنسان العربي يؤمن بها إيماناً راسخاً جعله يسلم بها كمنطلق لتفكيره السياسي دون نقد أو تحليل.
ومن هذه الأفكار الوهمية التي تسيطر على المناقشات السياسية العفوية هناك فكرة «قوة الحق». إذ يؤمن الوعي السياسي العربي دائماً بأن: «الحق ينتصر في النهاية بشكل دائم» وأن «إحقاق الحق» هو أمر مفروغ منه ، فـ «الحق لا يموت»، و«قوة الحق ستنتصر على حق القوة». ولذلك نجد أن الثقافة السياسية العربية لا تستطيع أن تتخيل المستقبل إلا وفيه الحق منتصراً شامخاً، بطريقة تؤكد أن الحق يحمل بداخله قوة عادلة تجعله المنتصر في النهاية أياً كانت التحديات والمصاعب ..
الأمر الذي يجعل العربي يطمئن على حتمية انتصارنا على كل أعدائنا .. لأننا أصحاب حق وقضية عادلة. ولذلك ووفق تلك النظرية فلا داعي للقلق مهما زاد الفساد وتعثرت برامج التنمية وضاقت مساحة الحريات وارتفعت نسب البطالة .. فالمهم هو الإيمان بانتصار الحق وقوته.
إن المتأمل لشعارات السياسة العربية التي تمجد الحق وتعطيه قوة سرية يدرك بوضوح أنها شعارات ترضي «ثقافة الرغبة» والعاطفة العفوية للبسطاء، إذ ليس لها أي مكان في السياسة والواقع. فهناك حقوق عادلة لشعوب كثيرة ضاعت وسحقها التاريخ، وهناك عشرات الأمثلة التاريخية التي تؤكد أن القوة هي التي انتصرت في النهاية وليس الحق .. بل إن الحق هُزم شر هزيمة حيث نُكل بأصحابه وجُروا إلى مذابح التاريخ.
وبالرغم من أن الشعارات التي تمجد الحق تشحذ الهمم وتزيد من ثقة الأمة بنفسها حتى تستطيع مواجهة المصالح الوحشية الهاجمة على المنطقة بطريقة تترية، إلا أننا نرى أن مثل هذه الشعارات تعطينا شعورا مزيفا وخادعا -ولكنه جميل- بأن كل شيء سيكون في النهاية على ما يرام .. وكأن تعقيدات السياسة وتضارب المصالح وصراع النفوذ أشبه بفيلم عربي رومانسي يعود إلى سبعينيات القرن العشرين.
إن مشكلتنا مع مثل تلك الطريقة في التفكير أنها طريقة استسلامية تعجز عن مواجهة الواقع القاسي والصعب الذي يعيشه العربي اليوم .. ولذلك نجدها تهرب باتجاه خلق عالم جديد يتحول فيه الضعيف إلى أقوى الأقوياء والفقير إلى مليونير والجاهل إلى حكيم الحكماء. ولقد تمسكت الثقافة العربية بهذا العالم الجميل لدرجة أنها تتهم كل من يحاول المساس به أو تفسيره بالبله أو العمالة للغرب، وفي أحسن الأحوال غير مؤمن بالأمة وأهدافها.
أما السبب الرئيسي في انتشار ثقافة الشعارات البراقة فيعود إلى أن الأنظمة العربية أرادت إخفاء عيوبها وسلبياتها وشهوتها الجامحة للسلطة، فلجأت إلى نفخ الضمير العربي بمثل هذه الشعارات وتزييف الحياة السياسية، وذلك لكي تشعره بالأمان السياسي أولاً، ولكي تلهيه عن فسادها ثانياً، ولكي لا ينتبه إلى الهاوية والخراب اللذين ينتظرانه نتيجة سياساتها ثالثاً.
أما السبب الثاني في انتشار تلك الشعارات فيعود إلى البنى الاجتماعية التقليدية والمنظومة الأخلاقية السائدة، حيث تمجيد المعنوي إلى أقصى درجة واحتقار كل ما هو واقعي ومادي ليصار إلى تضخيم مفاهيم الكرامة والشموخ والعزة من خلال إفراغها من أي محتوى واقعي أو منطقي وتحميلها مضامين ومدلولات بطولية مزيفة ونرجسية ليس لها معنى واقعي أو سياسي مباشر.
يقول بورديو: «السياسة جوهريا هي كلمات» والكلمات عند فوكو هي التي تصنع الأشياء ويبدو أن الأنظمة السياسية العربية أكثر من يدرك هذه الحقيقية ويسخرها في عملية تشويه الوعي السياسي لدى المواطن العربي، فشعاراتها السياسية كلمات تثير في نفوس الناس الحماسة وتداعب أحلامهم السياسية بما أنها تصنع واقعا نفسيا بعيدا عن الواقع الحقيقي. ولعل هذا ما يفسر إعطاء هذه الأنظمة لشعاراتها طابع القداسة والتبجيل، فهذه الأنظمة تستمر في الحكم وتبني شرعيتها على مثل هذه الشعارات فإذا انكشف الستار عن زيف تلك الشعارات ووهميتها انكشف الستار عن زيف تلك الأنظمة وفسادها وفقدت تلك الأنظمة ركيزة أساسية من ركائز وجودها.
نقول مثل هذا الكلام اليوم لأن المتتبع للسياسة الدولية المعاصرة يلاحظ بسهولة أن القوة هي التي تصنع الحقوق وهي التي ترسم خرائط العالم وتبني أمجاد الأمم، أما الحق، وبالرغم من أخلاقيته، فإنه ليس له أي قدرة على فعل أي شيء دون قوة، وعلينا أن نصارح أنفسنا بهذه الحقيقة حتى نتحرر من خداع الشعارات وسحر الكلمات، حتى نعرف كيف ندافع عن حقوقنا.
كاتب من سورية