حوار شفاف الشرق الأوسط مع د. عبد الرزاق عيد في المنفى
س – أخيرا هل تعبت وقررت الهجرة؟
ج – المسألة ليست مسألة تعب، بل يمكن القول أنها (مسألة قرف واشمئزاز): نعم قرف من خصمك الذي ينحط إلى مستوى عصابات (الزعران) عندما يخطفك من الشارع ليهددك بقطع اللسان أو يهدد عائلتك وأولادك ويرهبهم ويروعهم، نعم الاشمئزاز، والقرف من خصم تافه وصغير وجبان يتخايل بأنه جبار، أي أنه كما يقول المثل العربي: قط يتصاول صولة الأسد. ففي احدى المقابلات مع الأسد الصغير (الابن) ضحك ضحكة جذلى وهو يتحدث عن اتهامه من قبل المعارضة والصحافة الغربية بأنه (ديكتاتور)، يتحدث عن ذلك بسعادة غامرة وجزل صبياني، إذ هو يتمنى أن ينضم- وفق توهماته وتمثلاته – إلى نادي الديكتاتورية. إنه يتوق لأن يوصف بالدكتاتورية لأن مخياله الثقافي البيئي والعائلي يهيئ له أن العظمة تكمن في الديكتاتورية كما كان أبوه يعتقد ويبرهن… !
س – هل كان أبوه ديكتاتورا؟ سمعتك مرة في لقاء على قناة الجزيرة (الاتجاه المعاكس) تستكثر حتى على أبيه أن يكون ديكتاتورا، وذكرت بأن الوحيد الذي يستحق لقب الديكتاتور هو جمال عبد الناصر؟
ج – نعم هذا رأيي، لأن الديكتاتور يعتبرأن بلاده بكليتها ملكه، ومن ثم فهو يرى أن من حقه أن يتصرف بها كما يشاء. وهو إذ يتماهى معها يعتقد أنه الوحيد الذي يمثل مصالحها، فلا يقبل الرأي الآخر. ولأنه يتوهم ذلك فهو يعتقد أن الوطن كله ملكية خاصة، لذلك فهو لا يسرقه. وهكذا مات عبد الناصر نظيف الكف. لم يسرق مصر، كما فعل تلاميذ مدرسته لانقلابية (الأسد – القذافي – صدام حسين… الخ ) الذين لايستحقون الوصف بأكثر من قراصنة، وقادة عصابات مسلحة…
س -هل تعتقد أن الأسد الأب كان قرصانا، وسرق سوريا؟
ج – لا لم يسرق سوريا، بل سرق من سوريا، وهذا هو الفرق بين الديكتاتور والقرصان. وذلك ليس تقوّلا أو إتهاما جزافا بهدف الهجاء، بل هو اقرار صريح على لسان أحد كبار العصابة التي تحكم سوريا (رئيس احدى دوائر لمخابرات) إذ قال مرة بأننا نبالغ- كمعارضة- في الحديث عن حجم النهب الأسدي لسوريا عندما نتحدث عن ايرادات النفط التي يدخل الحديث عنها في اطار المحرمات، ليقول لنا أن ثروة (لأسد) الأب لا تتجاوز الثمانية مليارات دولار فقط…
طبعا كان يتحدث عن الأب، ولم يتحدث عن الابن (باسل) الذي كان على الأب أن يرسل رئيس وزرائه (الزعبي) ليتابع مليارات (باسل) في أوربا بعد مقتله. ويبدو أن هذا الزعبي المسكين كان عليه أن يدفع ضريبة معرفته بأموال العائلة، فكان لابد من التخلص منه بنحره أو بأمره بالانتحار…!
ولعل مثل هذه التصريحات لهذا المسؤؤل الأمني الكبير هي التي تقف وراء تهميشه ووضعه في الظل منذ سنوات.
س – نعود الى نقطة البداية، منذ اصداركم لما سمي بـ”وثيقة الألف” التأسيسية لـ”لجان إحياء المجتمع المدني”، وأنت تعتبر من كتاب حافة الهاوية، هل شعرت بأنك سقطت أخيرا فيها؟
ج – ليس هناك هاوية نسقط فيها أكثر من هاوية الواقع المعاش. لقد قال أحد المسؤواين الأمنيين ممننا لي بأنهم يحترموني لدرجة أن التسامح معي يبلغ حد أن هناك مئات المساجين والمعتقلين الذين لم يقولوا أكثر من %10 مما أقوله وأكتبه….
لكن قرفي بلغ ذروته عندما راحوا يستأسدون على عائلتي: زوجتي وأطفالي كما ذكرت. يرسلون استدعاءات أمنية لإبني الذين يعرفون أنهم طفّشوه من جامعة حلب الى الجامعة اللبنانية الأمريكية، أي يعرفون أنه ليس في البيت، فهم يستدعونه إذن لارهاب العائلة بوصفه من جماعة (الموالاة) على حد تعبيرهم… تصور أنهم بعد محاولتهم تحطيمه ودفعه للإنتحار عندما راحوا يعطونه الأصفار وترسيبه لسنتين متواليتين في جامعة حلب، تصور هذا الطالب الذي يرسب بالأصفار في جامعة وطنه، انه يكرم في الجامعة الأمريكية – اللبنانية، بوصفه من الأوائل ويحصل على منحة كاملة لدراسة الماجستير. تصور أن عليه أن لا يكون مع الموالاة وأن يكون مع حزب الله الذي لا يرى في وطنه سوريا سوى (سوريا الأسد)، وأن يكون مع حلفاء حزب الله الصغار من أيتام المخابرات السورية.
تصور أن أستاذا جامعيا في الرياضيات، ورئيسا للنقابة في الجامعة، يستدعي زوجتي ليبلغها رسائل المخابرات وتهديداتهم، ويذكرها بأيام عز ارهاب النظام ومجازره في حماة وحلب، وكيف سحل الناس وسحلت عيونهم ودمرت المنازل فوق رؤؤسهم في حماه، وكيف أن عشرات الآلاف دخلوا إلى السجون على الشبهة لا يزالون مفقودين الى اليوم. والنتيجة المترتبة على هذه المقدمات أن زوجها سيعرض العائلة إلى مصير مشابه بعد أن ورط ابنه في أن يكون مع الموالاة في لبنان، ولهذا فمن أجل حماية العائلة من زوجها فقد رسبوا ابنتها في الجامعة، معلنين أن الأمر يمكن معالجته إذا تم استيعاب الرسالة. فموضوع النجاح أو الرسوب أمر هين وما هو على المخابرات بعسير، وأن هناك تقارير سيكتبها رقباء سيراقبون سلوكها وتحركاتها وتصرفاتها من اجل ان يكتبوا تقريرا جيدا بها يحميها ويحمي عائلتها من المصير الأسود الذي سينتظرها، وأن ترسيب ابنتها ليس إلا لتنبيهها بعدم سلوك طريق أبيها…!
تصور أن استاذا جامعيا يفخر بأداء دور محقق مخابراتي. تصور منظومة المثل العليا التي أنتجها البعث خلال مايقارب نصف قرن، وهي أن يغدو المخبر (رجل الأمن) المثل الأعلى للمجتمع السوري الذي يتشهى ويتشوف الى موقعه حتى الأستاذ الجامعي في جامعات البعث…
تصور حالة التسفّل الذي يراد للمجتمع السوري أن ينحط لها، وذلك عن سابق تصميم واصرار، ليس لتدمير القيم الأخلاقية والوطنية فقط بل والعلمية عندما أوفدوا ستة آلاف خريج جامعة على أسس أمنية ودورات شبيبية ومظلية، قبل انهيار مثلهم الأعلى (شاوشيسكو)، وعاد هؤلاء ليكونوا اليوم هم غالبية اساتذة الجامعة في سوريا التي انحطت الى ما دون ماكانت عليه جامعات (شاوسيسكو) حيث لم يبق استاذ جامعي لاينصاع لأوامر رقباء وعرفاء المخابرات في كتابة التقارير التي غدت هي المهمة النضالية الوحيدة للبعثيين.
وبالمحصلة لم يبق هناك بعثي واحد في سوريا ليس مخبراً. وهذا الأمر ليس تهمة، بل هو أمر اجرائي وظيفي للحصول على عمل، وحمائي لكي لا يساءل الموظف عن الفساد. أي لا بد له من الاندماج العضوي في منظومة الفساد البعثي لكي يحافظ على وظيفته. ولنتصور أية منظومة للقيم يؤسس عليها هذا النظام من أجل (الممانعة) والصمود والتصدي في مواجهة المخططات الامبريالية والصهيونية…!
س – لكني التقيتك السنة الماضية في باريس حين شاركت في لقاء إشهار “رابطة العقلانيين العرب”، وقد فهمنا حينها بأن المخابرات في أمن الدولة راحوا يهددونك بالاغتيال عن طريق أتباع (ابو القعقاع) بعد أن صفوه غبّ انتهاء مهمته، بما وصفته في حينها أن النظام كان يريد تهديد المعارضة بأصولية مخترعة من صنع يديه كما يفعل في لبنان! وفهمنا منك في حينها أنك تريد أن تهدئ الأجواء حولك بعد تصعيدهم بالتهديد بالقتل، وذلك بعد أن اختطفوك لأنك انتقدت حليفهم حزب الله في مقالاتك المنشورة بجريدة “السفير” اللبنانية، وكشفت عن أنه صنولهم وامتداد غوغائي لبنيتهم التكوينية الرعاعية البعثية، وذلك قبل سطوه المسلح الأخير على بيروت المدينة والثقافة والحرية والجمال.
ج – نعم، كان رأي الجميع أن هذه العصابة المسلحة الحاكمة لن تتورع عن القيام بأي عمل سيما وسبق لها أن اختطفتني ليلا، ورفضت العصابة الأمنية التي أرسلوها لتنفيذ الخطف أن تعرفني على نفسها بأنها من عصابات (أمن الدولة)، وكانوا خلال الطريق وهم يطوقوني يتحدثون مع رئيسهم قائلين: إن الهدف رقم كذا… قد تم السيطرة عليه سيدي… ولم يكن هذا الهدف المسلح والمدرع سوى كهل في بيجاما النوم خرج قاصدا البقال المجاور لبيته… وليقوم بعدها رئيس عصابة الفرع في حلب بتهديدي بقطع لساني ودهسه بجزمته اللماعة. وبهذه المناسبة يجدر الاشارة إلى تلك الملاحظة (البسيكو-سوسيولوجية) أن كل ضباط المخابرات الذين عرفتهم في حياتي من خلال الاستدعاءات خلال ثلاثين سنة يتميزون بسمة واحدة تميزهم وهي جزماتهم. فأول ما يلفت نظرك نحو ضباط الأمن هو جزماتهم الأنيقة اللماعة ذات الكعب (النقار)، وبذلك يمكن للباحثين السوريين في علم النفس الاجتماعي – ولا أعرف إذا كانت هذه ظاهرة قومية عربية- إذا أرادوا أن يقوموا بدراسة سوسيو-بسيكولوجية لشريحة المخابرات والعسكر في سوريا، أن تكون الجزمة أو بتعبيرهم (البوط) مدخلا لشخصيتهم عبر تقصي مغزى المشترك الدلالي لـ (البوط) في وعيهم ولاوعيهم…!
س- هل هناك دلالة للجزمة اللماعة (النقارة) سوى دلالة العنف والاستعراض؟
ج- هناك دلالة العنف التي تقول لك أن الجنرلات يمارسون العنف بأنفسهم، سيما عندما ترى هذه الجزمات ذات مقدمات مدببة ورفيعة، أي لايكلفون به الجلادين فقط، بل هم يتمتعون بممارسته. ولقد حدثني الكثيرون من الأصدقاء المعتقلين عن جنرالات شهيرين جدا كانوا يمارسون التعذيب بسادية فظيعة، وقد توقف بعضهم عند تصوير هذه الجزمات التي كانوا يلمحونها من تحت أطراف (الطماشات) التي توضع على العيون، وهم يستشعرون التهديد الذي تمثله عندما ستنقض (رفسا ولبطا) على الرأس وبين الأفخاذ ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن ما يلفت النظر بـ(عقدة الجزمة)، بأنها ليست تعبيرا مضخما يرد على تاريخهم عندما كانوا (حفاة) فحسب، بل هي ذات أشكال وزركشات تناسب عمر الشباب اليافعين يحتذيها جنرالات ستينيون، فتتبدى وراء كل هذا العنف الخارجي رخاوة صبيانية، بل وغنج ودلع يشي بالتخنث والتسفل الحسي لشدة انسحاقهم أمام سادتهم المهووسين بعلاقات تراتبية دورانية تدخل الجميع بمتاهة اذلال متبادل متواصل يبلغ حد ايقاع الاذلال بالنفس التي تشيأت ماسوشيا بدورها في صورة موازية ومناظرة – في آن واحد- لحالة استلاب سادي مضاد في صيغة ما وصفناه ذات مرة بـ (العلاقة القضيبية بالعالم).
س- هل هذه تغريبة أدبية؟ أم أنك تقصد -فعلا- تقديم توصيف علمي لظاهرة الأمن والعسكر…؟
ج- طبعا، إن شكل الصياغة لا يخلو من المسحة الأدبية الساخرة. لكن لا بد من أن نطرح ظاهرة العنف السلطوي في سوريا بمنتهى الجدية والألم الذي تحول إلى سلوك عصابي مرضي يعكس هلعا هذيانيا من المجتمع الذي تنصب عليه ردود فعل وحشية يستحيل لكائنات طبيعية سوية أن تقوم بها نحو بني جلدتها. حتي اضطررنا لتقديم اقتراح توصيف علاقة السلطة بالمجتمع السوري بأنها علاقة استيطان. لكن العنف الاستيطاني الاسرائيلي -مع ذلك- لم يبلغ في تغربه الاستيطاني عن المجتمع الفلسطيني درجة عنف السلطة السورية مع مجتمعها، لأن في حدود معرفتي للتاريخ السوري، لا أظن أنه قد أتى حين من الدهر على سوريا كان العنف على هذه الدرجة من الوحشية المصدرة للمجتمع عبر شرائح منه أي من أبنائه. طبعا لا أتحدث هنا فقط عن المجازر ضد الشعب الأعزل: مجازر سجناء تدمر- حماة -جسر الشغور -حلب وأخيرا القامشلي، بل أتحدث اليوم عن هذا الفيض من العدوانية المرضية التي تبلغ حد أن يسجن رجل (رياض سيف) يحمل مرض السرطان الموصوف والمحقق، ويرفض النظام تدخلاً دولياً – خارجياً أكثر رحمة من الأهل- لعلاجه واعادته إلى مخالبهم، أو أن يتم اعتقال سيدة طبيبة محترمة كفداء حوراني عضوة المؤتمرات القومية التي يرعونها، لكن سوء حظها أن عقلها لم يعد يثق بمشروع قومي بدون الديموقراطية واطلاق الحريات السياسية والتعبيرية، أوأن يدفع خبير اقتصادي كعارف دليلة سبع سنوات من عمره المنتج ثمنا لعمرهم اللصوصي، لأنه استجاب لضميره المهني وأبدى أراء مهنية بالاقتصاد السوري…!
ولذلك فالحديث عن الأمراض النفسية العدوانية لطغم السلطة ليس ترفا أدبيا، بل هو ضرورة حياتية للمجتمع السوري ليقاوم ما يستيطع داءه الكامن في حكامه، حيث وثنية السلطة الطغيانية هي مصدر كل الشرور والانحطاط منذ تشخيص الكواكبي له منذ أكثر من قرن، لكن الداء الانكشاري منذ نصف قرن كان يسمح للكواكبي بإصدارالجرائد واللجوء إلى القانون. لقد كان في ذلك الزمن الانكشاري ثمة محاكم تبريء كما كان قد حوكم وبريء الكواكبي نفسه…!
ولذلك نحن تجاه ظاهرة مرضية علينا أن نجتهد لاكتشاف بواباتها لولوجها، وربما تكون عقدة الجزمة بوصفها معادلا للـ(الرفس)، مدخلا مناسبا للحفرعن دلالة الهوس بها منذ الطفولة البائسة لرجل الأمن ابن الريف الرعاعي المعدم أو ابن حثالات المدن المنبوذ الذي لا يتيح له ذكاؤه المتوسط أن يلتحق بالجامعة فيلتحق بالصف الخاص للتعليم الابتدائي أوبالكلية الحربية التي تتيح له (جزمة) متينة تنسيه تاريخ البرد القارس الذي كان يفترس أقدامه عندما كان يذهب إلى المدرسة من القرية إلى البلدة أو عند الذهاب إلى وسط المدينة بالنسبة للحثالات الذين يعيشون على أطراف المدينة اعتمادا على التهريب والجريمة، حيث غدوا اليوم هم ممثلي المدن في ما يسمى بـ(البرلمان) مجلس الشعب السوري، أوفي حزب البعث الحاكم، بينما احتكر رعاع الريف قطاعي العنف: (المخابرت والجيش)، لتغدوا الحثالات المدينية هذه موظفة في خدمة السلطة الأمنية، وبالاضافة لحثالات الأطراف التي هبطت من مستوى الشريك الثاني إلى مستوى القاعدة المتنفعة الملحقة والمستتبعة، بالاضافة إلى هذين الشريكين (الرعاع والحثالات) لجأت السلطة الأمنية الطائفية إلى اختيار نماذج من المثقف المديني (الديوث)، والديوث نموذج للمريض الشاذ جنسيا الذي يستمتع بمشاهدة أنثاه تحت رجل آخر، وهؤلاء راحت الأجهزة الأمنية الحاكمة تعتمدهم كوزراء ومدراء عامين، وفي الآونة الأخيرة كمفاوضين، إذ تكون أغلبية الوفود لمفاوضة -خاصة فيما يمكن أن يوصف بالخيانة وفق مصطلحاتهم – تكون منهم، ويكون مندوب الأمن هو الشخصية الرئيسية المضمرة ولكن الفاعلة، الغائبة الحاضرة، لأنه هو من سيكتب التقرير بسلوك وأداء الجميع ودرجة الاخلاص بتنفيذ دور لخيانة المناط بهم دون أن تلحقه ومعلميه الطائفيين هذه السمعة، سمعة التفاوض مع اسرائيل بدون أي ميزان قوى، حيث أن تفاوضا بدون ميزان قوى، لن يترك للمفاوض الضعيف أية فرصة سوى (الخيانة)، هذه هي الفرص التي تترك لمثقفي المدينة (الدواويث)، لكنهم -في الآن ذاته- المفترض أنهم أبناء عوائل مدينية محترمة، إنها فرصة تحمل سمعة الخيانة بالنيابة عن عصابات المخابرات الطائفية والجيش الذي انحل إلى مستوى حرس جمهوري،هؤلاء الذين قادوا البلاد إلى هذا الحضيض يدفعون أبناء العوائل المدينية الذين يفترض أنهم (أبناء ناس) إلى افتداء سمعة من يباضعون أمهاتهم سفاحا استجابة لأمراضهم الماسوشية التي عبرنا عنها بصيغة (المثقف الديوث).
س- هل تعتبر أن خيار السلام والتفاوض مع اسرائيل خيانة؟
ج- لا أبدا، لو أن هذا خيار المجتمع السوري ولو أن هؤلاء المفاوضين يمثلون شرعيا المجتمع السوري، ولو أن المجتمع السوري هو المسؤول فعلا عن هزائم لصوصه. بينما المجتمع السوري مغيب وغائب عن أي دور أوأية فعالية حتى فيما يريده لنفسه ولو على مستوى حقوق الأفراد. وبالتالي، فإن نظاما معزولا عن شعبه لا يملك أية شرعية تمثيلية سياسية أو اجتماعية، وهو في الآن ذاته لا يحوز على أي موازين قوى لا في الحرب ولا في السلم. فكل موازين قواه العسكرية موجهة ضد شعبه. ولذا فإن نظاما من هذا النوع لا يمتلك أمام اسرائيل إلا أوراق الخنوع والاستسلام ومن ثم الخيانة وفق صياغاته وخطابه الشعاراتي الديماغوج.
لقد تمكن النظام وفق آليات نظام فساده من أن يستقطب نماذج مدنية مخنثة، نغلة وخلاسية (المثقف الديوث) كما نوهنا، لكي يعبئها ويلحقها في جبهته المعادية لمجتمعها، من خلال استثماره لشهوتها للسلطة، لكنها السلطة الملحقة والذليلة المستجيبة سيكولوجيا لضغوط ماسوشيتها تجاه فحولته السادية العنفية المرموز لها بـ(البوط -الرفس)، ليحل هؤلاء المثقفون المدنيون المخنثون بالتحالف مع الرعاع الريفيون والحثالات المدينية الطرفية محل البورجوازية المدينية الوطنية السورية التي قادت معركة الاستقلال السوري، والتي لم يسجل التاريخ السياسي السوري اسم أي سجين سياسي أو سجين رأي في ظل قيادتها للبلاد، وذلك قبل أن ينقلب عليها العسكر الذين استغلوا النبل والتسامي الوطني لهذه النخب التي فتحت لهم أبواب الجيش للدفاع عن الوطن. فبدلا من الدفاع عن الوطن احتلوا الوطن بعد أن دفعوا ثمن ذلك تقديم- ارادة أو ارغاما- أجزاء منه للأعداء (الجولان – لواء اسكندرون)، وبعد أن أجهزوا على هذا الوطن بتمزيقه طائفيا ومن ثم تدميره كليا بتدمير معنى (المواطنة) بوصفها معادلا للشرعية الدستورية والعقد الاجتماعي.
س- نعود إلى موضوع تهديدك بأنصار (أبو القعقاع)، وما سميته -حينها- بممكنات نقل سيناريو استخدام الأصولية في لبنان في تصفية المعارضين اللبنانيين إلى سوريا، أي نقل هذه التقنية من لبنان إلى سوريا، ومن ثم قرارك الغياب عن الوجه…!
ج- نعم لقد صدر بيان عن اعلان دمشق يحذر وينبه من لجوء السلطة إلى هذه الأساليب، ومن ثم كانت نصيحة الأصدقاء بالابتعاد عن الوجه واعلان هدنة مؤقتة، سيما وأني كنت خارجا من سوريا بطبيعة الحال الى باريس لحضور اللقاء الاشهاري لرابطة العقلانيين العرب.
لكن الحملة التي شنتها قوى أمن الدولة ضد أصدقائي في “اعلان دمشق” أخرجتني عن طوري الذي كان يفترض الميل للتهدئة. نعم خرجت عن طور التهدئة بعد اعتقالهم للدكتورة فداء حوراني والاحتفاظ بها. لقد شعرت حينها أن المجتمع السوري مهدد برجولته، وأن الصمت يعني الاستسلام لانتهاك الشرف بل وحتى العرض بالمعنى التقليدي للكلمة، أمام همجية هذه الطغم النغلة التي راحت تتبدى عن حضور استيطاني في -ما يفترض أنه – مجتمعها. لكن تحدرها من أوساط رعاعية معدمة يجعلها لا تملك أية منظومات قيمية عن معنى الشرف والعرض. وقد أبرز أدب السجن في سوريا هذه المعاني من خلال نقلهم لسوقية وسفالة الاعتداء اللفظي اليومي على شرف السجناء العائلي: الأم والأخت والزوجة والبنت بالتوازي والتناظر مع اهانة المقدسات الثقافية والدينية للسجين التي تدفع بالبطل المسيحي (الملحد) عند مصطفي خليفة في روايته ملحمة الرعب:(القوقعة) ذات الميثاق المرجعي التسجيلي المبدع والموهوب، إلى أن يقرأ الفاتحة ويصلي صلاة الجنازة الاسلامية على قبر والديه المسيحيين بعد خروجه من السج..
لقد شعرت أن استمرار صمت المجتمع على الانتهاك الرمزي لشرف حرائره -وفداء حوراني سيدة الحرائر- سيشجع هؤلاء الرعاع ليس على الانتهاك القيمي والأخلاقي لكرامة الناس بل وعلى الانتهاك الحسي لشرف المجتمع، أي الولوج الى غرف نومه، فلا تبقى حرمة لأم أو لأخت أو لزوجة أو ابنة. انهم لايعرفون معنى لهذه القيم التي تشكل عنصرا أساسيا في بناء الهوية الثقافية الوطنية للشعب السوري عندما يتجرأون على سبي فداء حوراني ابنة محررهم من الرق والقنانة والعبودية أكرم الحوراني..
هذا الانحطاط القيمي والأخلاقي هو الذي يفسر معنى عدم خجلهم من العالم والمجتمع الدولي عندما يحكمون بالاعدام البطئ على أنبل رمز وطني في سوريا، وهو رياض سيف الذي ترك متاع دنيا عبوديتهم للمال والثروة واختار طريق الجلجلة إلى الحرية. لم يخجلوا أمام العالم الذي عرض عليهم علاجه واعادته -مع ذلك- الى مخالبهم الوحشية. ومع ذلك فهذا العالم راح يخشى شراسة ارهاب سياساتهم المنفلتة العقال، فراح يقدم التنازلات أمام حالة الأمر الواقع الذي راحوا يفرضونه على العالم (مافيويا) من خلال جعلهم المجتمع السوري واللبناني بل والفلسطيني رهائن في أيديهم، مما أدى إلى سكوت العالم على مد يد اسرائيل لانقاذهم باسم المفاوضات، تأسيا بالحكمة الاسلامية ذاتها المعبر عنها بالحيث الشريف : “داروا سفهاءكم”…!
س- بمناسب الحديث عن زيارتك السابقة المشار لها للمشاركة بمؤتمر اشهار رابطة العقلانيين العرب في باريس، أين أنت من هذا المشروع الآن، سيما أننا لم نعد نرى لك مشاركات في موقع الأوان، المعبرعن الخط الفكري للرابطة ؟
ج- انني بعيد عنه اليوم بدرجة ابتعاده عن تبني مسألة الديموقراطية بوصفها أولوية في مصفوفة تجديد المشروع النهضوي والتنويري العربي.
لقد بدا هذا المشروع منذ سنوات في بيروت وفق متوالية هذه الأولوية،حيث كانت اطروحتنا المركزية تتهيكل في اطار تجديد اشكالية الكواكبي القائلة: إن شربلية انحطاط الأمم تعود إلى الاستبداد، وليس إلى الدين والبعد عنه أو الاقتراب منه. فكما أن السياسة ليست كلها استبدادا فكذلك الدين ليس كله استبدادا، بل هناك استبداد واحد يشمل السياسة والدين، وهما صنوان على حد تعبير الجد الكواكبي الأكثر عقلانية ورشادا، وعلى هذا فإن معركة الحريات والحداثة هي معركة الحرية ضد الاستبداد السياسي والديني معا، الذي يفترض أن تكون الديموقراطية “الحريات السياسية” صنو لـ(العلمانية) “الحريات الدينية”.
لكن المفاجأة بدت في ظهور أطروحة تم التحضير لها انقلابيا، وهي أننا بحاجة إلى العلمانية ولسنا بحاجة للديموقراطية، لأن الأخيرة ستقود إلى سيطرة الاسلاميين الأصوليين، متناسين أننا كعقلانيين لن نتنازل عن العلمانية بوصفها شرطا للمواطنة وأن لا ديموقراطية بلا شرط المواطنة التي تعني تساوي الجميع (ديانات وطوائف واثنيات وقوميات) أمام القانون في الحقوق والواجبات، وأن ثمة تيارات اسلامية بدأت تقترب وتشترك مع هذه المقاربة، والنموذج التركي جدير بالاهتمام والانتباه في هذا السياق، لكن هذه المقاربة مرفوضة من قبل نظامين عربيين يزعمان العلمنة، وكانت بلداهما صاحبة الحضور الأكبر من حيث التمثيل (تونس – سوريا)، وقد نبهنا إلى أن علمانية من هذ النوع ليست إلا وجها آخر للستالينية التي هي أكثر علمانية من علمانية أصدقائنا العرب الذين ينحاز بعضهم ضد الديموقراطية من موقع أقلوي طائفي في خدمة الأنظمة الطغيانية، مع أن المراهن على الطائفة المسيحية العربية ان تكون استمرارا ومواصلة للمشروع النهضوي التنويري التحديثي الدستوري التعاقدي العربي بوصفها حاملة المثل والقيم الديموقراطية الغربية،لا أن تتخندق مع انظمة زائفة وديماغوجية في مواجهة شعوبها التواقة إلى الحرية، وأن علمانية بلا ديموقراطية لن تكون ألا في خدمة تغطية طائفية النظام الديكتاتوري السوري واوتوقرطية النظام الديكتاتوري التونسي: توأم النظام السوري وصنوه، وإن كان أكثر مصداقية على مستولى المشروع التحديثي والحداثي، وأظن أن حضور النظامين من خلال بعض الممثلين والمتعاونين في ادارة المشروع ذاته، كان له التأثير الكبير على أعادة بناء ادارة موقع (الأوان)، سيما فيما يتصل بالتمثيل السوري فيه، فقد كان ثمة انقلاب إن لم نقل بوحي النظام السوري فهو على الأقل يسعى إلى مرضاته…!
س- هل لهذا السبب لم نعد نجد لك مشاركات في موقع (الأوان) بينما كنت من كتابه النشطاء؟
ج- نعم هذا هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى تباعد داخلي، سيما عندما تم الحديث عن ضرورة تجنب نقد النظام السوري ومن ثم اتهام صالح بشير بأنه شجع على نقد النظام، وأن ياسين الحاج صالح شجع على الانفتاح على الاسلاميين، فشعرت حينها بأننا تجاه علمانية ستالينية حقيقية تطرد وتبعد وتدين وتشتم، ويجدر التنويه بأن هذا المنحى لم يكن يمثله الأخ الدكتور محمد الهوني، بل صدر عن صديق سوري مفكر محترم شكل لنا صدمة حقيقية بمواقفه الفكرية والسلوكية… أما السبب المباشر لتوقفي عن الكتابة لموقع (الأوان)، فهي الطريقة (الدكنجية -البازارية) التي تم فيها الحديث عن شروط الكتابة في الموقع: من حيث عدد المقالات التي ينبغي أن لا تتجاوز المقالين، ومن ثم فأنهم لا يمكن أن يدفعوا أكثر من كذا وكذا…الخ، بطريقة لم نسمعها من قبل حتى من ناشرين تجار، فكيف لك أن تسمعها من أصدقاء تثق بقدراتهم وملكاتهم وعطاءاتهم ويجمعك بهم مشروع واحد، علما أننا -للانصاف- لم نسمع هذه التوصيات السوقية من صاحب التمويل الدكتور الهوني ذاته.. وهذا سؤال برسم تأمل الصديق الهوني والصديق السوري ذاته إن كان يتناسب دوره المشارله هذا في الرابطة مع أدائه الفكري المميز…أي هل تستأهل الأمور الصغيرة هذه خسارة الأصدقاء !؟
س – نعود إلى حديثنا الأساسي المتصل بالممارسات الديكتاتورية للنظام السوري، متسائلين : لماذا كانت ردة فعلهم بهذه الوحشية على انعقاد “مجلس اعلان دمشق”؟
ج – السبب الأساسي يكمن في أن انعقاد هذا المجلس كان ردا ملموسا وعيانيا على كذبة النظام الديماغوجية التي يسوّقها عالميا في أنه لا بديل عنه سوى الفوضى أو الأصولية، فأتى انعقاد المجلس لبيرهن أن ثمة قوة ثالثة خارج وحشية النظام وخارج خيار العنف الأصولي، وخارج ما يترتب على هذين الخيارين من فوضى، إنها قوة الحياة في المجتمع السوري التي لم تتوقف عن التدفق لانتزاع الحرية رغم موجات الاعتقالات التي لم تتوقف منذ بداية ربيع دمشق حتى اليوم الذي يخرج فيه أحد أهم أركان هذا الربيع وهو العزيز عارف دليلة، لقد كانت ردة فعل النظام هستيرية لأن مجلس اعلان دمشق استطاع أن يعبر عن نفسه وعن هويته من خلال حضوركافة تيارات المجتمع السوري: اليسارية والقومية والاسلامية وتعبيراته الاثنية والقومية والطائفية التي احتضنها فضاء ثقافي ليبرالي خفف من ثقل التركة الشمولية لدى هذه التيارات وساعد على ممارسة مبدأ الاعتراف بالآخر وقبول التعدد والاختلاف والتغاير، لكن يبدو أن ثقل الميراث الشمولي والشعاري لدى بعض الأطراف القومية – خاصة الناصرية – لم يساعدها على مواكبة هذه الانعطافة نحو الديمقراطية فعلا وممارسة وسلوكا وليس شعارا مناسباتيا للعرض والاستعراض.
ولعل خروج الجناح الناصري زاد من عدوانية القوى الأمنية التي كانت تراهن على بعض العناصر الانتهازية القيادية في الحركة الناصرية كأداة لتعطيل الحراك الديموقراطي، ومن ثم تفشيل حراك اعلان دمشق باسم شعارات مستهلكة بائتة وبائدة عن أخطار خارجية مزعومة تهدد سوريا وتعطي الحق لنظامها أن يبيد الحياة السياسية في البلاد لكي يتمكن من التصدي للمؤامرات الاستعمارية…! في حين أن الشعب السوري أصبح على وعي ببديهية أن هذا النظام محمية اسرائيلية ضد تحرر الشعب السوري وانطلاقته الديموقراطية في سبيل حرياته السياسية التي غدت مدخلال لابد منه لاستعادة سيادته على أراضية في الجولان التي سكت ويسكت عنها هذا النظام مقابل بقائه في الحكم من جهة، ومقابل جائزة ترضية كانت الوصاية عللى لبنان من جهة أخرى، وهذا ما يردده القادة الاسرئيليون بلا حرج أو مواربة، وهو ما يسلكه النظام على الأرض من خلال تشبثه المرضي بلبنان حتى ولو على حطامه نظرا لما يمثله لبنان من جاذبية استثمارية غريزية تناسب مقدراتهم الانتاجية :(الحشيش -السلاح -البنوك- الكبريهات والكازينوهات وتهريب كل شيء… )، ومن ثم سكوته المؤبد والمخزي نحو الجولان الذي ليس فيه سوى المياه (بحيرة طبريا) وتللك مصلحة وطنية عامة تخدم الشعب السوري لكنها لا تخدم النظام الذي لم يعد تتطابق مصالحه مع مصالح وطنه أبدا، فعودة الجولان لا تصب- مباشرة- في جيوب مافيات النظام مباشرة، فطبريا لا تعنيه حتى اكتشف لهم الاسرائيليون -مصالح تخصهم- من خلال الاتفاق على تحويل هضبة الجولان إلى مناطق استثمار سياحي فقامت قومتهم السلمية اليوم فأرسلوا مندوبيهم للتفاوض على الشراكة…! لقد غدا من المسلمات للحركة الوطنية الديموقراطية أن المعركة مع اسرائيل يجب أن تبدأ من لمعركة من أجل الديموقراطية مع النظام الذي يلغي مجتمعه وناسه وبشره، وهذا ما يطابق المصلحة الاستراتيجية لاسرائيل، وهي أن تخوض مواجهات مع شعارات وليس مع شعوب، مع نظام معزول ومحاصر بمصالحه الكلبية الدنيئة التي تتعارض مع مصالح شعبه بالضرورة ، وليس مع الشعب السوري الحاضن لكل المعاني والقيم الوطنية والسيادية والروحية والأخلاقية والوجدانية.
اسرائيل تعرف أن الخطر عليها لا يتأتى من الأنظمة الديماغوجية -الشعارية-الهتافية -الخطابية -الانشائية…الخ، التي تستخدم حزمة الشعارات هذه لأخراس شعوبها ليس للتداعي للحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل التداعي للحقوق الوطنية والسيادية التي لا تتيح للطاغية الأب أو الأبناء أن يشتروا نظامهم بالصمت عن الجولان أو التنازل بمهانة ونذالة عن لواء اسكندرون…إن ما تخشاه اسرائيل هو حريات الشعب السوري والعربي عموما، أي أنها تخشى الديموقراطية بذات الدرجة التي تخشاها عصابات النظام، لأن الديموقراطية بالنسبة لها هو سر تفوقها على محيطها الاستبدادي الذي يكبل شعوبها بأكثر مما تستطيع فعله بيديها، إذن فالطرفان (اسرائيل والنظام السوري المعزول ) لهما مصلحة مشتركة في تهميش وتغييب وطرد الشعب السوري من ساحة السياسة، ويضيف النظام السوري على المصلحة المشتركة المشار إليها، نزوعاته الثأرية الانتقامية السادية من الشعب السوري الذي لم يستطع ابادة ارادته خلال أربعين سنة، حيث يستطيع هذا الشعب رغم كل الجرائم التي ارتكبت ضده أن يعقد مجلس اعلان دمشق التاريخي كما كان يحب أن يسميه ويعبرعنه رياض سيف بتفاؤله المخلص والطيب، المجلس الذي جمع 163 نمرا من فلذات أكباد المجتمع السوري، فأرعبوا الضباع والذئاب والكلاب وأبناء آوى الذين حولوا وطنهم إلى جثة للقضم والنهش.
س – لكن ما تسميه خيارا ثالثا بين عنف النظام الديكتاتوري من جهة، وعنف الخيارات الأصولية أوالفوضى ليس خيارا جديدا على الحياة السياسية في سوريا، فقد قام التجمع الوطني الديوقراطي من (عدة أحزاب قومية ويسارية) منذ سنة 1978 تأسيسا على مبدأ التغيير الديوقراطي السلمي ونبذ المفاهيم الانقلابية… فما الجديد النوعي في انعقاد المجلس الوطني لاعلان دمشق ؟
ج – في الحقيقة أن مأسسة اعلان دمشق من خلال انعقاد مجلسه الوطني كان يشكل انعطافة نوعية في تاريخ الحياة السياسية في سوريا، اذ هو اعادة انتاج نوعي لصيغة التجمع الوطني الديموقراطي الذي كان لايزال محكوما بأولوية مبدأ التناقض الخارجي، أي المعركة مع الامبريالية المفترضة : الحقيقية أو المتوهمة ايديولوجيا لدواعي التحشيد والتجييش، وهي معركة تفترض أنها معركة الجميع في الداخل : السلطة والمعارضة ضد الخارج، على اعتبار أن النظام وطني معادي للامبريالية، وفق الصياغات اليسارية البيروقراطية التي أنتجتها السياسة الخارجية السوفياتية كامتداد لأولويات حلف وارسو. فأتى انعقاد المجلس بمثابة اعلان موت هذه الشعارات الشائخة والبائدة التي كان يتعيش عليها النظام خلال نصف قرن، وذلك من خلال انطلاق اعلان دمشق من مبدأ استحالة التحرر الوطني بدون التحرر السياسي، أي بدون الحريات السياسية والديموقراطية فليس ثمة تحرر وطني أو قومي، وأن النظام وفق فقه الأولويات الجديدة للخطاب الديموقراطي لاعلان دمشق لايمكن أن يكون نظاما وطنيا، لأن الوطنية – وفق فقه الأولويات الشرعية الدستورية الجديد – غدت معادلا للمواطنة التي لايمكن أن تتحقق الا في اطر نظام ديمقراطي برلماني مؤسس على الشرعية الدستورية التعاقدية البرلمانية.
س – اذا كانت قوى التجمع الوطني الديموقراطي هي التي تشكل مكونات هذا المجلس، فهل يمكن لهذه القوى نفسها أن تعلن موت شعاراتها؟ وهل يمكن لمنظوماتها العقائدية السالفة أن يتيح لها مثل هذا الانقلاب الذي تتحدث عنه ؟ فما هو الجديد في الأمر؟
ج – الجديد هو عيش هذه القوى في فضاءات اتسمت بالانفتاح والمراجعة النقدية تأسيسا على ليبرالية ثقافية مستنيرة وجدوا فيها مقدمات ضرورية لابد منها لخياراتهم الايديولوجية القومية واليسارية بل وحتى الاسلامية.
هذه الليبرالية العقلانية النقدية المدنية أتاحت تفجير الكثير من المنظومات الرجعية المغلقة، وقد بدأها الحزب الشيوعي ( المكتب السياسي – رياض الترك ) الذي أصبح اسمه اليوم ( حزب الشعب الديموقراطي )، حيث لأول مرة في تاريخ الحياة لسياسية في سوريا يترك قائد حزب ( رياض الترك ) قيادة حزبه، لتكسبه الحركة الديموقراطية السورية بوصفه الوجه الأبرز لها داخليا وعالميا. إذ مع انعقاد مؤتمر حزب الشعب بدأت اطروحاتنا كمثقفين مؤسسين لجان احياء المجتمع المدني، الذين اطلقنا البيان التأسيسي بيان 99 مثقفا : كتابا وفنانين ومفكرين، نقول: منذ انعقاد مؤتمر حزب الشعب الديموقراطي غدت اطروحاتنا المعبر عنها في الوثيقتين السابقتين، هي أطروحات الحركة الديموقراطية وليست اطروحات نخبوية يتبناها مجموعة قليلة من المثقفين.
هذه الانعطافة للحزب كانت نتاج تطور نوعي في وعي الكثير من كوادره من جهة، ونتاج عذابات وآلام طالت كل أعضائه خلال أكثر من عشرين سنة في زنازين النظام المتوحش، حيث غدت الديمقراطية هي الملاذ الوطني والتحرري والانساني والاخلاقي لكل أولئك الذين دفعوا حياتهم ضريبة غيابها.
هذه الانعطافة نحو أولوية الديموقراطية لدى الفصيل اليساري الأكثر راديكالية، كان يوازيها انعطافة لدى الأخوان المسلمين لتتوج – ولأول مرة – في صيغة اعلان دمشق الذي ضم الفصيلين الأكثر راديكالية في تاريخ الحياة السياسية في سوريا (الأخوان المسلمون بعد مراجعتهم لخطابهم القديم وحزب الشعب بعد مراجعته لخطابه الشيوعي القديم )، وعلى هذا فإن حملة عصابات النظام ضد اعلان دمشق كانت قد ضمت أشرف وأنبل الضمائر الديمقراطية من كلا الفصيلين ( اليساري والاسلامي )، والمستقلين الليبراليين الذين أشاعوا مناخا ثقافيا نقديا شفافا ورفيعا.
هذه الفضاءات المتسمة بالحرية والحوار والشجاعة العقلية النقدية أتاحت لأن يكون الديمقراطيون المستقلون هم القوة الراجحة في المجلس، ولايمكن اغفال العامل الحاسم في تقديم هؤلاء المستقلين متمثلا بدور الرياضين: (رياض الترك ورياض سيف) بعد أن ارتقى الاثنان من مستوى تمثيلهما السياسي: اليساري (الترك) والليبرالي (سيف) الى مستوى التمثيل الوطني الديمقراطي لمجوع الحراك الوطني السوري.
س – لكن الأمور لم تسر بهذه السلاسة التي تتحدث عنها، فقد شهد المؤتمر انشقاقا، ومن ثم اعلان بعض الأطراف تجميد دورها والبعض الآخر انسحابه…
ج – بلى لقد سارت الأمور بهذه السلاسة على حد تعبيرك، إذ لا يعقل لهذا التجمع الوطني الديموقراطي الذي عاش حوالي الأربعين سنة في اطار من الثوابت المتعفنة أن ينتقل في موشور رؤيته من أولوية مواجهة الخارج الى أولوية مواجهة الذات بوصفها هي المسؤولة عن كل ما كسبت يداها وما كان “ربك بظلام للعبيد”، وأنه لا مناص لهذه الذات من اطلاق يديها داخليا حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها خارجيا، فهي المسؤولة أولا وأخيرا عن تقدمها أو تأخرها، ويكفي هذه الأمة ترديا واحتضارا وانحطاطا تحت زعم أن الآخر هو الذي يدفعنا الى هذا الحضيض الذي نتردى فيه، وذلك عبر آلية نفسية هي الأكثر غرابة في التاريخ، فنحن العرب والمسلمين أكثر شعوب الأرض رضا (ذهانيا) عن الذات وتبرئة لها من المسؤولية ورميها على الآخر، هذا الذهان المرضي يبدأ بالشيطان الرجيم الذي يبدو أنه متفرغ خصوصي دنيويا لنا (العرب والمسلمين) فقط لافساد ضمائرنا وأخلاقنا ومن ثم دفعنا نحو الحضيض وصولا الى الشيطان الأكبر (الغرب الاستعماري) الذي لا شاغل له علميا واقتصاديا وتقنيا وعسكريا سوى التآمر علينا لالحاق الهزيمة والعار والشنار بنا عربا ومسلمين…!؟
ولهذا كان لا بد من أن يكون بين قوى التجمع الديموقراطي – قوم يؤمنون بثوابت الأمة- القائمة على شيطنة الآخر (الخارجي) ليكون مصدر كل الشرور، ليقدموا بذلك خدمة لقوى عصابات النظام التي تعيث قتلا وارهابا وفسادا بمثابتها غير مسؤولة عنه، بل هي مسؤولية الامبريالية والصهيونية…!
من الطبيعي أن لايتمكن الجميع من التساوق مع هذه الإنعطافة النوعية على مستوى الرؤية والنظر والفهم للانتقال من تخارج الذات مع الخارج إلى تذاوت الذات مع الموضوع (الداخل)، بل ولو لم يحدث ما حدث لكان هناك ثمة تساؤل حول مصداقية هذه الانعطافة وحقيقة أن يتمكن الجميع من الانتقال الى مواقع الديموقراطية بهذه السلاسة، رغم تاريخ هذه القوى السياسي الشمولي والمعتقدوي. في هذه المناخات الحوارية كان يتبرعم وعي جديد (ربيع دمشق)، عنوانه : الانتظام في سلسلة النسق الديموقراطي الذي عرفته سوريا قبل انقلاب البعث واستيلائه على سوريا، مما أشاع روحا تعدديا وقبولا بالآخر المختلف، فإذا كان اليسار انتقل باشكاليته الفلسفية المركزية من أولوية المادة إلى أولوية الانسان مما سيساعد على قبول الآخر الاسلامي، فإن الاسلاميين سينتقلون من أولوية النص الشرعي -أسبقية النقل على العقل- إلى أولوية مقاصدالشرع (أولوية الانسان المستخلف في الأرض ) حيث “ما يراه الناس حسنا فهو عند الله حسن “،كل ذلك سيساعد الجميع على الانتقال إلى ساحة واحدة، وهي أولوية الانساني وحقوقه في الولاية على نفسه وبدنه وعقله، وسيترتب على ذلك تكشف وجه النظام البشع المعادي للانسان وحقوقه في الحرية والعدالة والكرامة.
إذ في هذه المناخات راحت سوريا تستعيد ينابيع عذوبتها الأولى في خمسينات القرن العشرين، حيث تستعيد عافية تنوعها وتعددها على طريق الانتقال من ا(لاختلاف مع الآخر إلى الاختلاف مع الذات) لتجاوز ذاتيتها الأحادية، وذلك هو المدخل لمبدأ التسامح بما فيها مع عصابات النظام الارهابية العدوانية الشرسة، وذلك من خلال اعلان الجميع القطع مع العنف واختيار الطريق السلمي الديموقراطي للتغيير، فإذا كان النائب المنشق رياض سيف اختارأن يمثل تيار الديمقراطية الليبرالية الحديثة، فان النائب المنشق الآخر مأمون الحمصي اختار أن يعلن عن نفسه بوصفه ديموقراطيا محافظا ممثلا للأكثرية الشعبية الدمشقية المحافظة، حيث غدت هذه التعبيرات المتنوعة بمثابة إعلان عن ولادة سوريا الجديدة التي تخرج من قوقعاتها الايديولوجية الشمولية، بما يتعارض مع مصلحة فريق واحد في البلد وهو الطغمة المافيوية الطائفية والعائلية الحاكمة !
س – لكنكم في إعلان دمشق لم تعترفوا بالأخير (مأمون حمصي)، وأخيرا أدنتم بيانه المتضامن مع أهل السنة في بيروت في مواجهة الهجمة الطائفية لحزب الله فأين أنت من هذه المسألة؟
ج – أنا لا أنطق باسم اعلان دمشق، بل كنت منذ البداية مع الاعلان من خلال موقعي الفكري والثقافي، إذ وقعت بصفة فردية مع بعض الشخصيات الوطنية على الوثيقة التأسيسية، وكان وجودي في الأمانة العامة وجودا أدبيا ومعنويا، فلم أحضر سوى اجتماع واحد وذلك بمعرفة وموافقة وتفهم الأخوة جميعا في الأمانة العامة، وذلك لأني منذ مشاركتي التأسيسية في لجان احياء المجتمع المدني قررت أن أخوض معركتي مع مافيات النظام من موقع فكري يتركز ويتمركز على الحفر وراء تشكل النويات الأولى لظاهرته السرطانية المرعبة، أي أردت أن أتفرغ له بعيدا عن الانخراط في العمل اليومي.
ولذا فإن هذه المسافة تتيح لي أن أعلن بأني لست موافقا على بيان اعلان دمشق الذي لم ير الطائفية إلا في خطاب مأمون حمصي الاحتجاجي، وتجاهل واقع ممارسات طائفية تشكل عنصرا تكوينيا في البنية الجوهرية للنظام الطائفي العائلي الأسدي، وربما كان ذلك تحت ضغط بعض الأقلام اليسارية من أوساط الطائفة العلوية الكريمة التي راحت تطالب قيادة الاعلان بادانة بيان مأمون حمصي، في حين لم نسمع من هؤلاء الأصدقاء موقفا مميزا من قبلهم تجاه طائفية النظام التي يرتفع بها إلى مستوى الهوية والكينونة، وهي طائفية ممنهجة – أي ليست عفوية- تسعى إلى توريط الطائفة العلوية في المواجهة الأهلية مع مجتمعها عبر الأخدود الذي حفره النظام مع مجتمعه، فأراد للطائفة أن تكون قاعدته في طرفه الأخدودي المعزول مجتمعيا وعربيا ودوليا، تماما كما ورطوا الطائفة الشيعية اللبنانية في مواجهة مجتمعها من خلال صنيعتهم الطائفية حزب الله.
نضيف لذلك فتحهم الأبواب الطائفية لهذه الجائحة الايرانية الخبيثة في شراء دين الناس وذممهم عبر تشييعهم، ومن ثم إعادتنا إلى اصطفافات صراع مر عليه أكثر من أربعة عشر قرنا عندما انشقت قريش إلى بيتين: بيت بني هاشم وبيت بني أمية في حرب هي الأطول والأغبى في تاريخ البشرية، لياتينا منقذ الأمة الاسلامية حسن نصر الله لينقذنا من أضاليل أبي سفيان مشككا بصحة اسلامه -رغم أن اسلام العباس لم يكن أعمق أوأصح من ايمان أبي سفيان على ذمة تاريخ البيتين الهاشمي والأموي- وليهاجم السيد حسن الأمويين مؤسسي الامبراطوية العربية الاسلامية التي لم ولن يرضى عنها الفرس المنحازون -كيديا – للبيت الهاشمي، ويتقدم حسن نصر الله الصفوف رافعا راية (يا لثارات الحسين) في وجه يزيد والأمويين الذين أقاموا امبراطوريتهم تحت راية (الله أكبر)، ولا نعرف ألى أين ستقودنا رايات (ثارات الحسين)؟ ولا نعرف إن كانت غزوة حزب الله الأخيرة ضد بيروت تأتي في هذا النسق المجدد لحروب صفين والجمل؟
س- إذا كان حزب الله حزبا دينيا (طائفيا) فهل يشرع ذلك الرد عليه بطريقة دينية (طائفية)، كما فعل مأمون حمصي؟
ج- هل تنتظر من رجل يقدم نفسه كليبرالي محافظ يمثل البيئة الدمشقية المحافظة أن يكون رده على حرب حزب الله الطائفية على بيروت ردا علمانيا حداثيا، هذا ما اختلف به مع الأخوة في اعلان دمشق الذين صدروا بيان التنديد، لأنهم بذلك يصادرون على حقوق التعبير الأخرى التي لا تنطلق من منظور علماني، وإلا لكان عليهم أن يردوا بذات الطريقة على طائفية خطاب وممارسات حزب الله والنظام الداعم للحزب والمنصاع لسياسات و توجهات العقل الايراني الملتاث بالماضي الطائفي الكريه في خدمة مطامح قومية فارسية ضيقة الأفق لا تزال تفكر بعقلية القرون الوسطى الثأرية من العرب، مستخدمة -مع الأسف- وكيل ولي فقيها (حسن نصرالله) لدفعه للانخراط والتورط في معمعان العداء لعروبته وعروبة الشيعة الأصيلة في اللبنان.
بل إن عصابات المافيا المستوطنة دمشق اليوم تسجن وتحاكم أنبل مثقفي سوريا العلمانيين الديموقراطيين بتهمة الطائفية، دون أن نسمع صوتا ثقافيا داخليا، أي من داخل الطائفة العلوية الكريمة ذاتها يتبرأ من السلوك والممارسات الطائفية لعصابات نهب وسلب وقتل تريد أن تجعل من طائفتها دريئة لجرائمها، جرائم لا تندي جبين الطائفة خجلا وعارا فحسب بل جبين المجتمع السوري بكل طوائفه واثنياته وشرائحه أمام العالم أجمع…إذ كيف يمكن أن يخرج من صلب هذا المجتمع مثل هذه الكائنات اللوياثانية الغريبة المشوهة والممسوخة، التي لاتخجل -أمام صحافة العالم- من الحديث عن أنه ليس لدينا في سوريا معتقلوا رأي، بل لدينا سجناء (ارهابيون)، هكذا يتحدث سليل مدرسة أبيه وعمه البعثية صدام حسين الذي كان قد أعلن بدوره قبل رميه في سلة مهملات التاريخ بأنه لم يكن لديه في العراق معارضون سياسيون بل لديه خونة، وهكذا يظن طبيب العيون الشاب (الانفورماتيكي) واهما بأنه داهية زمانه في حنكته في علوم السياسة عندما يعدل صيغة عمه صدام : من صيغة عندنا خونة…إلى صيغة عندنا ارهابيون، وكان قد سبق له أن تفوه بمثل (دهاءت ) عمه صدام -عن الخيانة- أمام وفد أوربي طالبه بالأفراج عن المعتقلين، فقال وسط ذهول الأوربيين : إذا اعترفوا بخيانتهم فإنه سيفرج عنهم..
نقل لنا الأوربيون هذه الاجابة اللوذعية وهم يشيرون بأصابعهم إلى رؤوسهم بما ترجمته العربية “اللهم احفظ علينا نعمة العقل…”
إذن وفق خطاب الدهاء التراجي-كوميدي للشاب الانفورماتيكي علينا أن نتصور : أن د. فداء حوراني ارهابية، وإن عارف دليلة قضى أكثر من سبع سنوات في السجن لأنه ارهابي : لأنه -فيما يبدو- أرهب الحاشية من افتضاح أمر استيلائها على صفقة (الموبايلات) الشهيرة مما كان سيخسرها ثمانين مليون ليرة سورية يوميا… وأن رياض سيف الذي يمنعونه من العلاج من السرطان هو الارهابي…! وأن أنبل وأشرف أقلام سوريا (علي العبد الله- -أكرم البني- فايز سارة، ميشيل كيلو،أسامة قريو والشاب الشاعر الشفاف فراس سعد…) د.كمال لبواني، جبر الشوفي، د.وليد البني، أنور البني، نزرا رستناوي، رياض درار -، محمود عيسى، الفنان طلال أبودان ، محمد حاجي درويش، د. كمال مويل، ياسر العيتي، مروان العش،، د. أحمد طعمة وأخيرا حبيس العمر أسامة عاشور الذي دخل السجن فتى وخرج كهلا …! أيقونات سوريا هؤلاء هم الارهابيون…
أما الذين أبادوا عشرات الألوف من الشعب السوري والجلادون وقتلة رفيق الحريري وخيرة سياسيي ومثقفي الشعب اللبناني، علينا أن نرى بهم تمثيل الشرعية الحقوقية والقانونية والدستورية! وليسوا هم من تنتظرهم المحكمة الدولية على جرائمهم والذين لا ينامون الليل خوفا مما ينتظرهم، فيلوذون باسرائيل وحوارها عسى أن تكون مدخلا لكسب رضى (الامبريالية) الأمريكية لتخفيض سقف رتبة المطلوبين…الذين يُنتظر كل يوم أن نسمع انباء انتحارهم على طريقة انتحار من سبقهم ( الزعبي -كنعان…) وليس آخرهم المستشار العسكري (سليمان)، لأن (سيناريوهات) سيرة (المافيات) واحدة..فهم يقتلون ويقتلون ويقتلون، وبعد أن يحترفوا القتل، تستقل آلته عن سيطرة آلة وعيهم، فتشتغل آليته عبر لاوعيهم استجابة إلى نزعة التدمير الذاتي الغريزية، قوة الفناء الذاتي (غريزة الموت -التاناتوس)، فتتغلب غريزة التعطش للموت على غريزة قوة الحياة عندما تغدو الحياة في ذاتها فعل قتل وجريمة، عندها يتوج القتل نفسه بقتل الحياة كخيار أخير.
من الصعب سرد أسماء كل المعتقلين السياسيين سيما أسماء الشجعان الكرد الذين لم تتوقف قوافل المعتقلين منهم يوما، بل حتى أبناؤنا الأحباء من طلبة الجامعات وآخرهم حسن القاسم الذين لم يكتفوا باعتقاله لأسابيع، بل أرادوا الاساءة إلى سمعته اجتماعيا وسياسيا، لكنهم أحط وأخس من أن من أن ينالوا من سمعة شاب يكفيه شرفا وطنيا وأخلاقيا أنه رفع صوته في وجه انحطاطهم وفسادهم وجرائمهم… لنتصور أن هؤلاء الأفاضل نجباء الوطنية السورية هم الارهابيون في عيون طبيب العيون…!؟
س- هل تعتقد فعلا أنهم لم ينالوا من سمعته وكرامته، وهم يخترعون صورا له إذ هو يوقع على انسحابه من اعلان دمشق؟
ج- لا أبدا، لأن الشعب السوري ينظر بعين الاكرام والتقدير لكل أصحاب العيون التي تقاوم مخارزهم، بل إن أي مواطن سوري من العشرين مليون قادر على كسب معركة الرئاسة مادامت تخاض ضد هكذا رئاسة…وذلك إذا أتت ظروف تفرض أن تكون الانتخابات حرة، اعتمادا على رصيد وحيد وهو رصيد كره الشعب لنظامه، وأن منافسه ليس إلا رئيس وريث لأبشع طاغية مغتصب للسلطة عرفه التاريخ السوري، ومن ثم فإن رصيد المنافس الوحيد -الدائم- ليس إلا رصيد رئيس (عصابة مافيا) تعريفا وليس هجاء مشاعريا كما يحب الكثيرون من الأصدقاء الكتاب في سوريا أن يتعاملوا بجدية شديدة ورصانة نظرية عليا مع موضوعات حوشية مبتذلة مثل موضوعة : واقع حقيقة أن من يحكم سوريا هم عصابات مافيا تتشكل سوسيولوجيا- فيما وصفناه سابقا- من رعاع الريف وحثالات المدن، فنقول : إن هذا الأمر ليس بحاجة للدهاء النظري أو المكر السياسي للقبض على شيطانية الواقع السوري، فالناس بتجربتهم اليومية المعاشة قادرون على رواية عشرات الوقائع والأحداث عن حالات من الفساد والافساد في كل قطاعات الحياة المعاشية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والقانونية والقضائية أو الطبية والصحية والتعليمية، مما ليس بحاجة لأي برهان…
لو أن أحدا ما طرح مشكلة قضائية أو ادارية أو طبية…الخ في سهرة عائلية بين أصدقاء فسنجد لدى كل فرد من المشكلات مالا حاجة به لقراءة الدراسات والأبحاث المعمقة أو المبسطة، فالوضع على درجة من الابتذال والانحطاط مالا يحتاج إلى تقعيد أو تنظير، ولذا كنت دائما أنظر بعين اللامبالاة نحو التتفسيرات التي تعزو أزمة المعارضة السورية تارة إلى خطابها وتارة إلى برنامجها… وأستغرب حماس البعض من الأصدقاء -وخاصة المحامين- في تناول الوضع في سوريا وكأنه ثمرة حالة الطواريء، وكأن كل جرائم النظام مقوننة ومستندة إلى حالة الطاريء والأحكام الاستثنائية، وإن الغاء هذه الحالة سيلغي حالة ابادة الحياة السياسية استطرادا واستتباعا لالغاء حالة الطوارئ منطقيا، وهذا القول يشابه الحديث على أن احلال السلام مع اسرائيل سينزع ذرائع النظام نحو استخدام القمع… أو ما يحاول النظام اليوم أن يكذب فيه على المجتمع الدولي في مسألة علاقته في لبنان، حيث يظهر الاعتراف باستقلاله وتبادل التمثيل الدبلوماسي وافتتاح السفارات معه..أو…أو… الخ كأن ذلك سينقذ لبنان من براثنهم، وكأن الاتفاقات أو المعاهدات يمكن أن تشل اليد الاجرامية للنظام ، وكأن النظام كان يستند في تسلطه على لبنان بسبب عدم وجود روادع قانونية تحمي لبنان من اجرامهم… إن هذه أوهام في أوهام، لأن المجرم يقوم بجريمته-عادة- مع أنه يعرف أن كل قوانين العالم المدنية والدينية تحظر الاجرام.. بل إن كل من يعتقد- خاصة الأوربيون- أن النظام سيذعن للقبول بالاتفاق مع لبنان في سبيل رفع الحصار عن سوريا، فهذا وهم أيضا لأن أمر دخول سوريا السوق الأوربية لايعني الطغم المتسلطة لأنها تكشف شبكة لصوصيتهم، وهم يفضلون الحصار والعزلة لأنه يتيح لهم التفرد بشعبهم الأعزل قهرا وتنكيلا، والأوربيون واهمون عندما يعتقدون أنهم معنيون بالانضمام للسوق الأوربية، لأن دخولهم في السوق الأورية سيضع قطاعات واسعة من الاقتصاد السوري تحت الشفافية العلنية والرقابة الأوربية، وعلى هذا ما يظنه الأوربيون أنه مكسب وطني لسوريا فإنه يعكس فهمهم للمسألة الوطنية وليس فهم النظام، لأن فهم المصلحة الوطنية لسوريا يدخل دائما في حالة تناقض مع مصلحة النظام، وذلك لأن النظام عصابة وليس دولة.
س- ما هو دافعهم إذن؟
ج- هاجس الرعب من المحكمة الدولية،علينا وعلى لبنانيين أن نفهم أن هذا النظام منذ مؤسسه الأول لا يحترم أي مواثيق سوى ميثاق القوة، ولهذا فهو لا يحترم أي اتفاق سوى اتفاقاته مع اسرائيل، وذلك لأن لاسرائيل يدا- دائما- هي على الزناد، وعلى هذا فهو يستخف بكل من لايعزز كلامه بالجزمة، أي بالقوة، لكن القوة بالمعنى الحسي الوضيع والغريزي العاري للقوة الحسية الجسمانية : ارهاب، اغتيالات، خطف، أي القوة ليس بمفهوم ميزان القوى بالمعنى الحضاري والمدني الدولي الذي يتشكل بدوره ليس من الميزان لعسكري فحسب، بل الاقتصادي والسياسي والثقافي والبشري…الخ، لذا فهم لا يفكرون إلا بقوة اسرائيل العسكرية ومن ثم بطبيعة الحال الأمريكي، فما كان أبسط عليهم أن يخزلوا صديقهم جاك شيراك الذي آواهم وعمدهم رئاسيا لينقلوا توقيع عقد اتفاقية استثمار النفط من فرنسا إلى أمريكا لأن شيراك ليست يده على الزناد كبوش، وأظن أن ساركوزي لن يكون مصيره أفضل عندما يتأكدون أنه لن يستطيع أن ينقذهم من مصيرهم الحتمي أمام المحكمة الدولية، وهم الآن يوافقون على كل ما يطلب منهم في الاتفاق مع لبنان لأنه لايكلفهم سوى الكلام، بينما هم يتوقفون عند الحديث عن مزارع شبعا مترددين، لأن الأمرهنا يتعلق باسرائيل فلا مجال للكذب والشطارة في المراوغة والديماغوجية مع اسرائيل، ولهذا لم يترددوا في المسايرة على كل المسائل إلا على مسألة مزارع شبعا، لأن الأمر-مع اسرائيل- جاد ولا يحتمل (الزعبرة)، فهم عند ما يجد الجد لا يحرجهم أن يتفرجوا على لبنان يتدمر بسبب أوامرهم في توريط حزب الله، دون أن يتجرأوا أن يرفواجفنا بل وحتى إذا زأرت الطائرات الاسرائلية فوق عرين أسدهم ليس الصغير فحسب، بل وحتى الكبير عندما هددت تركيا ولوحت بالعصا وخصت مطارات القرداحة بالتهديد بالقصف لاستضافتهم الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، فراح مؤسس مملكة الخوف والرعب في سوريا يتوسل حسني مبارك أن يتدخل رغم أن مبارك كان يقول له : أنت كذاب ياحافظ..! لكنه صدق ووفى في هذا الأمر، فسلم أوجلان لتركيا بل وتنازل عن لواء اسكندرون…!
إن ثقافتهم الريفية التي تمجد القوة الجسدية سمحت لمصطفى طلاس أن يتقرب من سيده ليتحدث باعجاب عن معلمه الأسد بوصفه مصارعا ونطاحا وهو يعلم أن هذا الحديث سيسر قلب (الأب القائد). ولهذا فإن ثقافة القوة الجسدية هي التي ستغدو المعيارالقيمي للجيش والمخابرات، وستغدو اسرائيل وفق هذا المنظور قوة مرهوبة الجانب، وحيث سيشكل القادة الاسرائيليون تحديا (نطحيا) للأب ولجيشه ومخابراته، ولوأنهم كانوا يفكرون بقوة اسرائيل وفق معايير التحدي الحضاري : العلمي التقني والثقافي والسياسي والمدني، أي بمعاير القوة البشرية الحضارية والمدنية وليس الجسدية (المصارعة والنطح) لما كان ميزان قوى سوريا مع اسرائيل على هذه الدرجة من الفضائحية.
إن كل القراءات التي تراهن على ممكنات اعادة تأهيل عصابات النظام وترشيدها لكي تنتظم في منظومة المجتمع الدولي إنما هي قراءات تستند إلى بطر استنتاجي منطقي مجرد لا يأبه أو ينتبه إلى واقع متعين ومشخص بالبداهة، وهو بداهة أن هذا البلد محكوم بالمزاجية الاعتباطية الغريزية لعصابة (مكتب الأمن القومي المشكل من مجموعة جنرلات أمن وعسكر) التي تأخذ قراراتها الأمنية بدون الاستناد غلى أية مرجعية قانونية أو تشريعية أو قضائية عادية أو استثنائية أو طارئة تماما كما كانوا يقررون اعدام العشرات يوميا في سجن تدمر، بل وربما تدخل الحظ أو السهو أو الملل في طبيعة النطق بالحكم … بل حدثنا بعض نزلاء تدمر عن حوادث من نوع أنهم أرادوا أن ينفذوا حكم الاعدام بمجموعة ما، وفي اللحظة الأخيرة عند التنفيذ غامر أحد المحكومين منبها أنهم ليسوا هم المقصودون!
لقد قال لنا أحد أركان هذا المكتب: إما أن نوافق على اقتراحاته أو سـ”يلجأ إلى القانون”، فيغدو القانون في عرف الجنرالات هو الاعتقال والسجن لا غير، بينما هو شخصيا ممثل العفو وضمان عدم الحبس، وقد تفضل علي ذات الجنرال بارسال رسالة تطمينية شفوية مع أحد المقربين من أصدقائنا، يبلغني بأنهم لن يستجيبوا لدعوة منذر الموصللي باسم الشعب لحبسي بعد مقالي التضامني مع عارف دليلة، طبعا: إن هدف الرسالة واضح وهو أن أقدرها له فلا أعيدها…
وعندما أعدتها أحلت بالسهولة ذاتها للمحكمة العسكرية. وبذات السهولة قرروا تبرئتي بسبب قرار عفو رئاسي يشمل المهربين فشملني العطف الرئاسي على التهريب (تهريب الفكر).. فلم أحبس! بل لقد قالوا لأحد الأصدقاء الكتاب بعد سجن شهر عند أمن الدولة، بأن عليه أن يقنع أصدقاءه خارج السجن بفوائد حالة الطواريء، لأنها أتاحت لهم الافراج عنه، وإلا فإن القوانين القضائية للمحاكم العادية كانت ستحبسه،وذلك لأنه تناول مشكلة الفقر في إحدى أقاصيصه… لقد تم تقويض الأنا القانونية في داخل الانسان السوري على مدى نصف قرن من التسلط الأمني البعثي الارهابي بداهة وطبيعة وكينونة وفطرة… فالبعث ارهاب بالفطرة، وإلا ما سر هذا التشابه والتماثل إلى حد التناسخ بين البعثين: العراقي والسوري…!؟
س- كيف يتجلى هذا التماثل المتناسخ بين البعثين السوري والعراقي؟
ج- سأعطيك أمثلة أخرى تؤكد ما نذهب إليه من أن النظام في سوريا فاسد على الفطرة ولسنا بحاجة للبرهان على هذه البداهة الفطرية عبر الدراسات والبحوث النظرية والفكرية الجادة والموضوعية، وآية ذلك أنه قد جرى -ذات مرة- نقاش من هذا النوع التلقائي اليومي بين بضعة محامين في حلب حول وضع القضاء الذي أصبحت مرجعيته ليس المدونات القضائية والحقوقية التي اشتغلت عليها الانسانية ألاف السنين، بل هي مرجعية (نضالية) حزبية بعثية أي: (مخابرايتة ). فكانت محصلة النقاش هو الوصول على أنه ليس ثمة قضاة في حلب لا يرتشون سوى سبعة، واختلفوا على سابعهم، وهذا الحديث مر عليه بضعة سنوات أظن أن هؤلا الستة أو السبعة قد توفوا أو ربماعزلوا بأوامر أمنية ، بتهمة أنهم عرقلة إيقاع الحياة البعثي والتهديد لمهابة النفوذ الأمني على البلاد المهددة من قبل الامبريالية، بسبب عدم قدرتهم على تطوير أنفسهم وتأهيلها لتتكيف مع القيم النضالية الثورية لحزب البعث…! وهذه ليست سخرية عابرة بل هي محاكاة ساخرة لواقع تسلط مملوكي -لا يرتقي للشرف الفروسي للماليك- عبر عنه ضابط ذو (جزمة لماعة بكعب نقار) عندما رفس أحد أساتذة الجامعة لأنه لم يستجب لأمره بتنجيح أو ترسيب أحد الطلاب، قائلا له: أن هذه الرفسات (الدرس) ليست من أجل الطالب فلان، بل لتتعلم كيف تطيع سادتك!
هناك صور لكل مناحي الحياة في ذهن المواطن السوري تؤكد له أن من يحكمه هم طغاة صغار وعصابات مسلحة وطغم لصوصية سوقية تبيع ضميرها ووطنها للشيطان مقابل حفنة من الليرات تبلغ حد أن محافظا لحلب كان يقتسم (البخشيش) مع سائقه إذا أرسله لتوصيل أحد عملائه…
وتفسيره لطمعه هذا أنه يريد أن يدفع لمعلميه الأعلى ثمن توليته: (المحافظة-الولاية)…! هكذا كانت تحثنا كتب المدارس عن حالة الفساد السياسي في زمن السلطنة العثمانية. وأظن أن المناهج المدرسية للبعث -على درجة من الوقاحة، حيث لا تخجل من تردادها، بل ارتقت بهذه الممارسات إلى درجة اضفاء القداسة عليها من خلال صناعة رب لها: (رب أرباب الفساد هبل الأسد الأكبر) الذي قال عنه صديقه باتريك سيل بأن من حقه على الطائفة العلوية أن يكون لها نبيا وذلك في كتابه عنه المعنون باسمه… وحديثنا هذا ليس ضربا من المشاعرية الهجائية، بل يمكن للمرء أن يتأكد من ذلك من خلال أحد نماذج الأسئلة الجامعية لمقرر ما يسمى (الثقافة القومية) حيث يصاغ السؤال وفق المثال التالي، قال الأب القائد…الخ في إحدى خطاباته القومية: “إن…… الخ” أكمل نص الخطاب حتى كلمة كذا…، طبعا هذه الصياغة للأسئلة هي على على غرار أسئلة مادة التربية الدينية، وذلك عندما يسأل الطالب أن يكمل نص إحدى الأيات القرآنية الكريمة. لكن الفرق في درجة القداسة ستذهب لصالح (آيات مسيلمة البعثي)، وذلك لأن مادة التربية الدينية ليست مرسبة للطالب على عكس (آيات مسيلمة) التي تقرر مصير حياة الطالب العلمية، بالاضافة إلى أن مادة الديانة لم تعد مقررة في الجامعات…
نستطيع القول: إن هذه المسائل برهانها في بداهتها اليومية، حتى أن مواطنا فرنسيا مهتما بالشأن السوري، لا يستطيع أن يصف ويدعو النظام السوري سوى (نظام المافيا) وبسلاسة شديدة دون الشعور بأن رأيه هذا محكوم بالمشاعرية، وقد كان شديد الغضب -أكثر من كثير من السوريين الذين لم يتذوقوا مثله طعم الحرية- لاستقبال رئيسه ساركوزي لما كان يسميه برئيس المافيا السورية، ولم أسمعه قط يسميه بالرئيس السوري عنما يسألني إن كان ثمة أخبار جديدة عن الاعتقالات. ولا أظن أن هذا المواطن الفرنسي ينطلق من أي موقف مشاعري، وليس لديه أية أحقاد بالتأكيد، وذلك لأنه لم يتعرض لتجارب تدفعه لمشاعر الحقد: من نوع أنهم أغتصبوه أو اغتصبوا ابنه أو بنته أو أخته أو زوجته، ولم يكن له أهل أو أقارب في حماة قد تهدمت أحياؤهم فوق رؤوسهم، أو أقارب أواصدقاء أعدموا ببيجاماتهم يوم العيد في المشارقة في حلب،ولم يكن له عزيز بين 135 معدوما يوميا،الذين صرح وزير الدفاع بأنه كان يوقع بالنيابة عن سيده، الأسد الكبير- سيد القتلة في التاريخ السوري -على اعدامهم يوميا.
علينا أن نتصور أن أحرار سوريا المغيبين في زنزانات العصابة الحاكمة هم ارهابيو سوريا على حد تعبير الديكتاتور الكوميدي الصغير، بينما عصابات القتل والارهاب ومافيات الفساد واللصوصية التي ولغت بدم الشعب السوري والفلسطيني واللبناني مما لايقارن بالارهاب الاسرائيلي والحروب الاسرائيلية منذ قيام دولة اسرائيل، هم ممثلوا الشرعية الدستورية والمدنية والقانونية لسوريا…وفق هذيانات آخر سلالة الارهاب في باريس للصحافة الفرنسية.!
س- لم تقل لي رأيك في ادانة اعلان دمشق لبيان مأمون حمصي؟
ج- لا تزال ثمة شوائب شمولية في وعينا السياسي والثقافي، حيث لا نستطيع أن نرى حقوق الآخرين في حرية التفكير والتعبير المستقل والمختلف عن رأينا، وهذا ماوقع به أصدقاؤنا في اعلان دمشق، فإذا كان البعض في رئاسة اعلان دمشق يصر على علمانية خطابه السياسي، ويرفض أن يتحدث إلا بصوت العلمانيين فهذا حقه وشأنه وأنا أنتمي لهذا الخطاب بكل الأحوال، لكن من حق فئات أخرى في المجتمع المدني والأهلي أن تعبر عن هواجسها وقلقها السياسي والاجتماعي تجاه طائفية النظام وآثارها الخطيرة المدمرة على تجانس النسيج المجتمعي، من حق ابن دمشق المحافظ مأمون حمصي أن يعبر علنا عن حساسيته الطائفية السياسية- وليست الدينية بكل الأحوال- تجاه طائفية النظام وطائفية عميله حزب الله الذي لم يكن يقوم باحتلال (علماني) لبيروت في كل الأحوال عندما رفع مأمون حمصي صوته الاحتجاجي ضد اجتياح حزب الله لأحياء السنة البيروتية، فأية مفارقة أن نسمع أصواتا محتجة على (طائفية) حمصي بينما تسكت عن طائفية النظام السوري وحليفه اللبناني الشيعي المنشق بحق عن مجتمعه اللبناني لصالح علاقته الطائفية بدولة أجنبية يفترض وفق الخطاب البعثي أن يعتبر هذا الالتحاق خيانة كما كانت ايديلوجيا بعث العراق تتعامل مع أنصار ايران فتجدع أنوفهم وأذانهم، علما أن الطائفية تعريفا تتعارض مع وعي وثقافة وانتماءات الأكثرية التي ليست بحاجة لها أصلا. ولهذا لا يمكن أن تكون الطائفية هوية الأكثرية السنية عربيا واسلاميا في مطلق الأحوال، لأن الطائفية هي ايديولوجيا أقلوية حدا وتعريفا، إن كان على المستوى الوطني أو على المستوى الاقليمي والعالمي. وهذا ما يفسر أركيولوجيا المشروع الطائفي لايران، كونها أقلية على المستوى الاسلامي، إذ أن الشيعة لا يشكلون أكثر من عشرة بالمئة على المستوى الاسلامي فيما يمكن تسميته بالعالم الاسلامي، والذي جعلنا نبحث عن هذه النسب ونتحدث بهذه الأرقام هم ملالي طهران وأوهامهم حول تشييع العالم…!
بالمقابل ليس هناك في العالم الاسلامي ما يمكن أن نسميه مشروعا طائفيا سنيا،لأن السنة -بوصفهم الأغلبية المطلقة- ينتجون حركات أصولية تنطلق من بداهة تمثيلها الاسلام الكلي وفق زعمها. ولهذا فالسنة بداهة ليسوا طائفيين، حيث الطائفية – والأمركذلك- لاتنتج وعيا مطابقا بمصلحتهم كأكثرية، وعلى هذا تسقط كذبة النظام باتهام كل من يعارضه بالطائفية، وتتبدى حقيقة أن المجموعة الاجتماعية الوحيدة في سوريا التي تفكر وتمارس على أساس طائفي هي النظام الاستيطاني التسلطي المعزول داخليا وعالميا، والذي يسعى لفك عزلته ومداراة غربته واستيطانيته القائمة على كراهية شعبه، عبر القيام بتسعير الاستقطاب الطائفي، وذلك لانتاج وعي ايديولوجي زائف لصناعة هوية طائفية تجمعه وتوحده مع البؤساء والمحرومين من الطائفة،أي ليتساوى السارق مع المسروق والجلاد مع الضحية، ليستشعر الحاجب برشوى معنوية تجعله أكثر عبودية لجنراله الذي يستخدمه تحت وهم التوحد تحت عنوان (ابن جماعتنا)…!
لقد اصبح من البلاهة السكوت على الابتلاع الطائفي لسوريا ولبنان تحت الأكاذيب الشعارية المضللة عن الوحدة الوطنية، وعندما وصلت السكين إلى الحنجرة وتنادى المجتمع اللبناني للتنبه إلى المشاريع الطائفية لحزب الله الذي كان على وشك الانقضاض على السراي الحكومي، راح الاعلام البعثي في الصحافة السورية وفي قناة (المنار) التي لا تقل ديماغوجية عن أساتذتها البعثيين، تتحدث عن طائفية 14 آذار، وطائفة تيار (المستقبل) الذي لا تشغل الطائفة السنية -حسب علمنا- في مؤسساته الاعلامية (تلفزيون-صحافة) ما تشغله هذه الطائفة سكانيا على مستوى المجتمع اللبناني، بينما الأغلبية فيه للمثقفين من الطوائف الأخرى، وخاصة الطائفة الشيعية التي لم ترشح مثقفا كبيرا ألمعيا واحدا ليكون في اعلام حزب الله، حيث تجد كل مثقفي اعلام حزب الله (المنار) بما فيهم العرب المستوردون هم مجموعة مثقفي شعارات وجمل جاهزة هتافة تترنم بالمدح وتسكر بالقدح،وهذه الثقافة لا تحتاج لأكثر من الثقافة البديهية اليومية التي ينتجها الفكر اليومي العروبو-اسلاموي أو العكس (حزب اللاهوي- بعثاوي).
س – هل يمكن الاستنتاج من حديثك أنك تعتبر الحالة الطائفية في لبنان أفضل من حالة الوحدة الوطنية السورية؟
ج- الوحدة الوطنية في سوريا ملفوظ هاجرد دلالته مع حلول المنظومة الايديولوجية البعثية مع الانقلاب البعثي، لا أدري من سمى الايديولوجيا البعثية بـ(الكلامولوجيا) في الستينات، والطائفية في السبعينات، والفاشية في الثمانينات، وقد حسمها النظام عندما اعتبر انتصاره على الاخوان المسلمين – أوالأدق على الجناح المقاتل منهم- هو انتصار طائفي على المجتمع.
هذه الايديولوجيا الارادوية الشعبوية تستند على محمول رغبوي في بناء منظوماتها السياسية والشعارية، رغبوية مشبعة بالماضي والحنين إلى زمن القوة، حيث القوة تتمثل : (السيف -الفتح -قهر الآخر…الخ من الجراح النرجسية التي يعيشها العرب كوعي مأزوم ومهزوم، حيث الرغبوية تنحل إلى مستوى ترسيمة تخييلية للعالم عبرل العقل الغريزي الملتصق بالأنا الطبيعية الرغبوية الأهوائية التي تمتد عمقا إلى التفكير السحري القائم على مبدأ (ذكر الشيء يعني حضوره)، فذكر الذئب لفظيا يستدعي حضوره حسيا، ولذلك عبر عنه البدائي برسمه للذئب على جدران الكهوف، بل ورسم كل الأشياء الطبيعية حوله،باستحضارها تخييليا عبر الرسم، لكن مع الخطاب (القوموي) والبعثي خصوصا سيستبدل الاستحضار السحري للأشياء من الرسم إلى الكلمة، وهذا ما كان من أمر شعارارات الوحدة الوطنية مع الخطاب البعثي مثلها مثل شعاراته عن الوحدة العربية والحرية والاشتراكية حيث تحضر في ملايين أطنان الورق، لكن الواقع المتعين يسير بشكل مضاد لها عند أي ذكر لها، حتى غدا من الممكن اعتماد قرءة دلالية للخطاب البعثي بكونه خطابا مجازيا لا يستعيد واقعيا أو مرجعيا سوى الفراغ والبياض… والمآل الموت وفق التطوير المخابراتي للخطاب البعثي وهو يخوّن كل ما عداه…! هذه المنظومة الغريزية تذيب ولا تشكل، تحل ولا تركب، ولهذا فإن البعث توج على يد -حافظ الأسد- المشروع القومي العربي الوحدوي من المحيط إلى الخليج بتحويله مدينة ساحلية صغيرة على الشاطئ السوري (بانياس)، إلى كوريا: شمالية وجنوبية حسب تعبير أهلها من المثقفين العلويين العلمانيين، الذين يرون أن النظام بعودته إلى الغرائزية الأولى (التشكيل العضوي ما قبل المدني) شطر المدينة إلى سنة وعلويين في عالمين مستقلين (شمالي وجنوبي) مثل كوريا، كل منهم يزداد تطرفا وانغلاقا على هويته البدائية الغريزية الطائفية.
حافظ الأسد هو المؤسس لهذا الانشقاق عندما جعل من الميل السوسيولوجي الطبقي العفوي لفقراء الفلاحين القائم على الانتساب إلى المؤسسة العسكرية في الخمسينات والستينات، نقول: حول الأسد هذا الميل التلقائي الطبقي إلى مشروع طائفي، وهذا التحوير أو التشويه بدأه منذ كان في اللجنة العسكرية مع (صلاح جديد ومحمد عمران)، حيث حركة 23 شباط لم تعن لـ(ابن غوريون) سوى حركة (علونة للجيش السوري) وهو يرد على القلقين على سوريا من التطرف اليساري لحركة 23 شباط.
حافظ الأسد حسمها نهائيا بعد استخدامه لمعركة مفتعلة مع مجموعة من اليائسين الاسلاميين الذين حملوا السلاح إذ يستشعرون طائفية نظامه، فحولها إلى معركة كبرى مع المجتمع السوري المديني السني، واختار حماة نموذجا للابادة (الجينوسية)، ومن ثم حلب ارهابا وعقابا لها على بقائها محافظة على هويتها السنية التقليدية التي أبت على الحمدانيين وسيف الدولة أن (يعلونها)، وآية ذلك هذا الميل العلني والمتحدي الذي يقوم به الأبناء اليوم لتجديد مسيرة المشروع الطائفي للأب بفتح أبواب سوريا أمام المد التشييعي الايراني بدون خجل، بل إن أحد محافظي حلب من (الطائفة المختارة) كما راح بعض الأبناء المتنفذين من الطائفة يدعون أنفسهم فيما بينهم داخليا، تمهيدا -ربما – للعلنية والرسمية، حيث قال المحافظ (المختار) لمحامي حلب في احد مؤتمراتهم التي انتقدوا فيها أوضاع المدينة، قال لهم دون أن يحمر وجهه خجلا: من لا يعجبه الوضع في حلب فليهاجر ! أي ليتركها للسيد المحافظ المختار !
فحافظ الأسد الذي كان حذرا في طائفيته التي انحلت إلى (عائلية)، وفق مبادئ العقل الغريزي التفكيكي عضويا في السبعينات، كشف عن الوجه الطائفي ومن ثم العائلي في الثمانينات واعتبر أنه خاض معركته النهائية التي لم تعد تتطلب الحذر في اللعب الطائفي، ولذا لم يعد إلى سياسة ذر الرماد في العيون للتخفيف من أثر هذه السياسات على توازنات المجتمع السوري، حيث لم يخجل أن يكون سجن تدمر رمزا للانقسام الطائفي الأبشع في تاريخ سوريا من حيث حفر أخدود الكراهية والحقد، وذلك عندما لم يخجل من جعل سجن تدمر مشهدا مكثفا للانقسام الطائفي الكريه في شدة عدوانيته القبيحة، حيث ينقسم السجن انقساما طائفيا صافيا بين الجلاد والضحية ، حيث مشهد طائفة السنة -بشكل مطلق- هم المسجونون باسم الأخوان المسلمين (الضحية)، وطائفة العلويين- بشكل مطلق- هم السجانون باسم السلطة (الجلاد). دون أن يرف للأسد جفن من الدلالة المخيفة للتقسيم الطائفي السافر للسجن هذا على مستقبل الوحدة الوطنية للوطن وعلى مستقبل الطائفة العلوية التي يورطها بخدمة مطامحه الفردية والعائلية
هذا المشهد لم يكن عابرا، بل غدا نواة الفلسفة السياسية لحافظ أسد الذي كان قاصدا أن يقسم مجتمعه إلى أقلية تحتكر أدوات العنف (الجيش والمخابرات)،بعد تفريغ دور وزارة الداخلية والشرطة من أية فعالية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إلى أكثرية عزلاء لا تخشى الجيش والمخابرات فحسب، بل راحت تخشى الأقلية (المدعومة)! أي نظام وطني وأية وحدة وطنية هذه التي لا تخجل من تكريس هذا الواقع وتلك الصورة، أن يستشعر الناس أن طائفة من طوائف المجتمع -حتى ولو لم تكن أقلية بل وكانت أكثرية – تشيع الخوف والرهبة عند باقي الطوائف من خلال قناعة الناس أن من يحكم هو الطائفة، وأن المؤسسات المدنية بما فيها الحكومة والمؤسسات والادارات ليسوا سوى موظفين صغار- بما فيهم الوزراء- عند المخابرات والجيش، أي عند الطائفة !
س – ألا تتوقع أن تجد أصداء مضادة لطريقتك التحليلية التي تستخدم الطائفية كأداة تحليلية في الكشف عن لواقع السياسي القائم في سوريا، وأن هناك من سيتهمك بالطائفية واثارة المشاعر الطائفية كما جرت العادة في مهازل القضاء (الأمني) ضد من تسميهم الأنبل الأشرف من مثقفي سوريا، أو فيما تطلق عليهم عادة اسم: (المثقفين الفضلاء)!
ج- لن نستسلم للعادة بعد اليوم الذي راح فيه يحاكم أنبل مثقفي سوريا العلمانيين الديموقرطيين (الفضلاء) بوصفهم طائفيين، وأن النظام الذي مزق البلاد كل هذا التمزيق هو الذي يضع نفسه حكما على الوحدة الوطنية. كنا نحاول تجنب الاشارة المباشرة إلى الصناعة الطائفية اليومية للحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية لسوريا التي يقوم بها النظام، كمن يتجنب ذكر السرطان، فيقول:هذاك المرض. لقد آن الأوان لنذكر المرض، مرض سرطان طائفية النظام، لأن السكوت عليه وتجنب ذكره سيأكل خلايا البلد تحت ذريعة مراعاة مشاعر المريض الذي ينقل عدواه لكل الجسد الاجتماعي، إذ لا يمكن معرفة الوضع الحقيقي لسوريا بدون استخدام مصطلح الطائفية كأداة مفهومية مفتاحية لفهم واقع النظام وسلوكه وممارساته سياسة واقتصادا وثقافة، سلما وحربا، دون أن نخاف على الوحدة الوطنية التي لم يفتك بها خطر، بمقدار خطر الصمت والسكوت على طائفية النظام باسم الوحدة الوطنية المدعاة.
أية وحدة وطنية وأية مصلحة وطنية تكمن في السكوت على عصابات تسعى للاحتماء بطائفتها عبر احتكار وسائل العنف؟ بل وعبر رشوى الطائفة العلوية ذاتها بفتات مكاسب صغيرة تريد ايهام الفقير العلوي بأنه يحكم ويتسيّد عبر تسعير وعي استثنائي بالذات، بوصفها ذاتا طائفية عليا مهددة بالمحيط الذي حولها الذي ينفث عليها تميزها وتفوقها (التقدمي)، مما يولد مشاعر الحذر المتبادل والخوف والفساد الذي يتعيش على بيئة غياب القانون وحضور الاستثناء. ولذا، فالناس يوردون آلاف الحكايات عن المهرب الذي يضع صورة حافظ الأسد على باب بيته أو جدار محله… أو عن ذلك الانتهازي الصغير الذي يستخدم (القاف) الخاصة بالطائفة لتحقيق أهدافه الدنيئة، بل إن معظم البعثيين يستخدمون لهجة الطائفة الحاكمة للتأكيد على ولائهم، بل عندما يوضعون ببعض المواقع الأمنية لتمويه الصورة – وهذا ما كان يحدث سابقا لأنه لم يعد اليوم ثمة تمويه- فإنه يكون أكثر شراسة وعدوانية ذئبية من زملائه من الطائفة العلوية، ليؤكد على أنه موضع ثقة. وحافظ الأسد هو المؤسس الفعلي لهذا الإنقسام الطائفي الكريه الذي انتقل به من الممكن المضمر في الستينات، إلى الواقع الظاهر في السبعينات، وإلى المعلن والمشهر والمتحدي في الثمانينات.
س- إذاً، أين التاريخ البعثي القومي لضابط تكوّن في جيش سوريا الوطني الذي ارتبط ميلاده بقيام اسرائيل وتأسس على عقيدة الصراع مع الصهيونية والاستعمار؟
ج- حافظ الأسد من الثانوية إلى الجيش، أشك أنه قرأ في حياته كتابا نظريا في الفكر السياسي، وأشك أنه عرف المرجعيات الفكرية والنظرية لـ (المنطلقات النظرية) لايديولوجيا حزب البعث. إنه تعلم بعض الشعارات العمومية وظل يرددها ويستهلكها حتى مماته، عبر دمجها بالثقافة التجريبة اليومية أيضا، بينما ظلت ثقافته هي الثقافة اليومية للمجتمع الريفي الذي يسهر ويسمر على حكايا الماضي، وإذا قرأ فإنه يقرأ السير ويتباهى بثقافة (الاعراب) لاعتقاده أن الثقافة تكمن بمقدار معرفة النحو والاعراب كما تعلم في الكتاتيب ومدارس زمانه من، وفي أحسن الحالات قراءة الشعر أو التاريخ: (تاريخ سير البطولات). وأظنه قد أغرم بالتاريخ، واجتذبه مكر معاوية في إدارة الحكم، لكن الإرادة الامبراطورية عند معاوية اختصرها حافظ الأسد واختزلها بالهيمنة على لبنان بدلا وتعويضا عن الجولان، لأنه بمكره الريفي الشفوي كان يعرف أنه ليس ثمة هيمنة على لبنان إذا ظل يطالب بالجولان، فاكتفى بملفوظات الشعارات التحريرية اعلانيا واعلاميا، بينما طفق يحول الجيش إلى أداة سيطرة وتحكم بالسلطة في سوريا ولبنان واقعيا وفعليا واجرائيا. وعلى هذا فإن استمراره واستمرار عائلته في التغلب والسيطرة لعقود من الزمن، ليس لها علاقة بالحنكة والدهاء الذي استقاه من معاوية، بل استند إلى أطروحة بسيطة وشفوية وصغيرة مضمرة، كان يرددها أمام دائرة أصدقائه المقربين: أعطوني خمسة جنرالات مخلصين وموالين لأحكم الولايات المتحدة الأمريكية…! تماما كما حكم سوريا لعقود فيما عرف بمجموعة الجنرالات الذين سموا بـ(العليين).
مع الأسف، إن موروثه الثقافي الطائفي لم يدفعه للتمثل بأخلاق الزهد والتقشف والنزاهة والمثالية الأخلاقية للإمام (علي)، بل وظف الطائفة في خدمة مشروعه السلطوي عبر الافساد المنظم للطائفة والمجتمع معا…!
فقام بتتفيه وابتذال البعد الميكافيلي البراغماتي لمعاوية المؤسس لامبراطورية عظمى، إلى حدود تصغير معاوية إلى مستوى حاكم مستبد في العصور الوسطى، من خلال استلهام مبدأ التوريث وشراء ذمم الناس، لكن دون امتلاك الدهاء المعلن والساخر لمعاوية الذي لم يكن لديه أية أوهام أو ادعاءات تموه حقيقة أنه يغتصب السلطة لإبنه صراحة بدون أي تدليس أو تلبيس، وذلك عندما سأل رئيس وفد جاءه من قبل عمرو بن العاص ليبايعه بتوريث يزيد، فقال له ضاحكا: بكم اشترى عمرو بن العاص منكم دينكم!؟
بينما أوهام الثقافة الريفية العسكرية السطحية والساذجة للعقل العضوي الغريزي أقنعت حافظ الأسد أنه مرسل العناية الالهية، وأن تحكمه برقاب الناس واذلالهم حق طبيعي له ولابنه ولطائفته (المختارة) لاحقا. فلم يكن له هذا الحس التهمكي الساخر الجميل والجذاب الذي كان لمعاوية، عندما يعترف الأخير أنه يستولي على الحكم لإبنه بشراء ذمم الناس أو بحد السيف الذي هدد به أحد اليمنيين لمن لا يبايع يزيد : فوصفه معاوية بأنه أحسن خطيب. لقد فعل الأسد الكبير فعل معاوية نفسه: (التوريث والتدليس) لكن بالسر والصمت والباطنية دون علنية وظاهرية معاوية الواثقة. ولعل تفسير علنية معاوية مبعثها الثقة بالنفس التي تعتد بانجازاتها العسكرية التوسعية الامبراطورية، بينما سِرّية الأسد الأب مبعثها الخجل من النفس من الهزائم التي سكتت على توسعات الجيران مقابل السكوت على سلطنته الاغتصابية على سوريا التي غدت صغرى بدون (الجولا واسكندرون). ولذا، فلا غرابة لوريث حافظ الأسد أن يقول لإحدى الصحفيات الأمريكيات بكل ثقة وجدية ملتاثة وسواسيا بدونيتها المرضية، وبدون أية سخرية أو تهكم وذكاء تمويهي، ليعلن قائلا دون أن يرف له جفن: إنه ليس وارثا أو وريثا للحكم في سوريا، بل هو منتخب من الشعب السوري….!
لم يقل الشاب هذا الكلام ساخرا بل جادا إلى حد (المسخرة)، لكن الشعب السوري استقبل جدية كلام لشاب بوصفها نكتة شبابية ركيكة ورديئة، لكونها تبكي ولا تضحك لسماجتها!
ولذا لم يخجل الأسد الأب عن اعلان تبرعه بـ200 مليون ليرة سورية لترميم الجامع الأموي، وكأن هذه الملايين مما خلفه له أبوه، وليس من نهب أموال المجتمع السوري، وكان يتبرع بهذا المبلغ للجامع الأموي في ذات اللحظة التي كان القضاء الاسرائيلي يلاحق شارون وابنه على مشروعية ونزاهة حصولهما على آلاف الدولارات…! وهو يفعل ذلك – في الآن ذاته- الذي يجعل من قبر استاذه معاوية (مبولة) وسط صمت:( شيوخه البعثيين). تلك هي مفارقات العقل الغريزي الحسي لشخص لم يعرف عن التاريخ سوى نوادر وسير وحكايات، ولم يتعرف على شخصيات نموذجية من الحاضر سوى على كيم ايل سونغ الذي بهره بانجازاته على طريق تأليه نفسه، الأمر الذي لم يخطر- في العصور الوسطى- على بال معاوية الامبراطورمن قبل… ربما لأنه كان إمبراطورا بحق رغم شتائم حسن نصر الله الطائفية الهذيانية المتخلفة له ولأبيه وابنه وعائلته الأموية …! وأكبر دلالة على ما نذهب إليه من كلف الأسد الأب الماضوي وشغفه بالتاريخ بوصفه: أخبارا ونوادر وسيرا، بل وأنسابا، هو تكليفه لعدد من الباحثين المرتزقة بأن يثبتوا أنه من قبيلة كلب، دون أن يستشعر السخرية المضمرة والصامتة لمجتمعه المرعوب: وهو يتساءل عن سر رغبة قائده إلى الأبد بالانتقال من الأسد… إلى الكلب…!
بل، وبدلا من أن تشكل له اسرائيل نموذج للتحدي الحضاري السياسي والمدني والتقني راح يبحث عن أصول اليهود في فلسطين، وانقض مثقفوا السلطة المرتزقة لاثبات اكتشافات حافظ الأسد عن الأصل الخزري لليهود…!
س- كيف تقيم دور حافظ الأسد؟ هل تعتبره طائفيا لم يقدم أي انجاز للمجتمع السوري سوى خدمة طائفته التي ساهم باغنائها واثرائها على حد تعبير باتريك سيل، فحق عليها أن تعتبره نبيا لها – كما يقول سيل نفسه- حسب ما مرّ معنا خلال حديثنا سابقا؟
ج- لا، إنه كارثة حقيقة على على الطائفة العلوية قبل أن يكون كارثة على المجتمع السوري. ورغم حديث باتريك سيل عن حقه في أن يكون نبيا للطائفة العلوية، إنه كارثة على الطائفة لأنه حرمها دورها المستقبلي التنويري والحداثي العلماني كما هي عليه الطائفة العلوية في تركيا. إذ بدلا من أين يقوم بمواصلة مسيرة الادماج الوطني المدني التي بدأت بعد الاستقلال، والذي بسبب هذا الوعي الوطني المدني الديموقراطي بعد الاستقلال أتيح لحافظ أسد ورعيله أن يقفزوا إلى السلطة كي (يطيّفوا أو يعلونوا) الجيش والنظام مع الأسف، بدلا من مواصلة تأصيل عملية الادماج عبر المزيد من تعميق البعد الدستوري المدني الديموقراطي، بل والمفترض أن يكون العلماني نظرا للممكنات الحداثية وقابليات الانخراط في العصر التي تنطوي عليها الطائفة العلوية بل وكل الأقليات الدينية والطائفية في مواجهة الميل الطبيعي المتوقع للمحافظة لدى الأكثرية السنية. لقد كان الافتراض التاريخي الموضوعي المتوقع من النظام هو السير على طريق قيام مجتمع المواطنة ودولة القانون الحديثة الذي هو حاجة موضوعية للأقليات قبل أن يكون للأكثرية الأغلبية الغالبة عبر التاريخ.
لكن حافظ الأسد، بسبب تكوينه التقليدي القروي – والماضوي إلى حد بعيد- وضحالة تكوينه الفكري كعسكري، وايمانه الريفي بالقوة البدنية التي تحتقر الثقافة المدنية والرهافة المدينية بوصفها ميوعة، حيث كان يعتقد – بسبب ماضويته وقرويته وعسكريته – أن الثقافة تكمن في معرفة قواعد النحو والترنم الانشائي ببعض المحفوظات والمأثورات والعبارات ذات الفخفخة اللفظية الفارغة من اية دلالة معرفية سوى الترنم الانشائي ببعض الصياغات التي تعلمها في المدارس قبل دخول الكلية الحربية، ليرددها تلاميذ المدارس من مثل: “الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر… الخ “، نقول: إن حافظ الأسد لكل هذه الأسباب كان يكره المثقفين ويقرب المتعلمين المتوسطي الذكاء والمواهب من زملائه خريجي دار المعلمين الذي سيصبحون لاحقا حقوقيين قبل جائحة (الدكترة). حيث لم يبتذل علم في سوريا كعلوم الحقوق في بلد أول ضحاياه دولة القانون والحقوق، ولم تهن شهادة كشهادة الدكتوراه التي بدأ ابتذالها بغزوة المسؤولين لسبيها. ثم انتقلت إلى الرفاق المظليين المدافعين عن الثورة، حيث أوفدوا للمعسكر الاشتراكي وفي طليعته الاتحاد السوفييتي ليحصلوا جميعا على الدكتوراه التي نرى الآن نتائجها في جامعاتنا..!
هذا الأفق العقلي والثقافي ما كان له سوى التأسيس لثقافة الفتنة: حيث الأطروة البعثية الشعبوية الشعارية ثم الفلاحية الطائفية الأسدية لاحقا ما كان لها أن تنتج أطروحة مضادة سوى شعبوية دينية راديكالية منافحة ومتعصبة بصيغة طائفية مضادة تمثلت بالطليعة المقاتلة للأخوان المسلمين، حيث ستتم عملية مأسسة لثقافة الفتنة التي ستطبع الثقافة الوطنية -أو بالأحرى اللاوطنية السورية- في سوريا بدءا من الثمانينات، حيث سيكون العنوان الثقافي لهذه المرحلة هي (تبعيث الجامع) بعد تبعيث الجامعة. إذ منذ تلك الفترة أصبح الشرط الوحيد للقبول في مدرسة الشريعة هو بطاقة العضوية في حزب البعث. هذا هو الرد الفكري والثقافي الوحيد الذي أنتجته المدرسة الأسدية على طريق بناء سوريا الحديثة، طبعا بالتوازي مع الابادة الشاملة. وراح ينافح الشعبوية الاسلاموية بشعبوية تضليلية تعزز قيم وثقافة النفاق الفكري المضاف على النفاق السياسي والاجتماعي، من خلال ما سمي بمعاهد حافظ الأسد لتحفيظ القرآن الكريم، الذي سيتناظر مع واقع أن كل أئمة المساجد الذين سيتخرجون من المدارس والكليات الشرعية سيكونون بعثيين: أي مخابرات.
وعلى هذا ستغدو مصفوفة النظام السوري تتألف من عنصر تكويني رئيسي هو المخابرات ولها الحصة الأكبر من موازنة البلاد ثم يليها الجيش، هذا هو ثنائي العصب الأساسي للنظام (مخبرات – جيش). هذا العصب الأساسي من المعروف أنه يتحدر من الطائفة العلوية مما سيصمها اجتماعيا بالطابع العنفي والنزعة العدوانية ومن ثم لاحقا بالإرهاب حتى ولو لم تنفذه كأفراد يدويا، لكنها تنفذه اجرائيا كسياسات وتوجيهات من خلال الرعاية الأمنية: ( ابو العقاع -جند الشام…الخ). ولعل ذلك مما يسر ويبهج الأسد ومدرسته (التباهي بالقوة الجسدية)، حيث كل حيزات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية تمر عبر بوابة المخابرات بما فيها الشؤؤن الدينية. إذ أن مجلة المعرفة التي تصدر عن وزارة الثقافة حولت بحثا لي إلى وزارة الأوقاف لتبت بنشره، فرفضت نشر المقال رغم الحماس الشديد لرئيسة التحرير وصدامها مع وزير الثقافة سابقا. أما خطب الجمعة، قلم يعودوا مضطرين لمراقبتها، لأنها بأيدي أمينة (أيدي الرفاق الشيوخ).
لقد تمأسست هذه المصفوفة مع انفجار محنة الثمانينات واستثمار حافظ الأسد لهذه المحنة التي واجهت نظامه بتحويلها إلى محنة للمجتمع الذي لم يتعرض في حياته إلى عقاب ثأري انتقامي تفوق فظاعته كل جرائم الابادة الجماعية في هذا العصر. مما أسس لثقافة الفتنة الطائفية الثأرية التي قسمت وعي المجتمع منذ تلك اللحظة إلى ثقافتين: ثقافة الغالب وثقافة المغلوب، الأقلية الطائفية الغالبة والأكثرية الطائفية المغلوبة، مما أنتج استحالة توحيد وعي وطني سوري، مما يترتب عليه ويشتق منه تشكّل ثقافة طائفية كريهة أكثر تخلفا وبشاعة من الطائفية في لبنان. نظرا لأنها في لبنان طائفية سياسية، بينما الطائفية في سوريا هي طائفية دينية تكفيرية عنوانها فتوى الشيخ يوسف القرضاوي الذي يوصف اليوم باعتداله وزعامته للعروبيين والاسلاميين ورئاسته لمؤتمراتهم القومية والاسلامية واحتفاء النظام به، وهي الفتوى القاتلة القائلة: “إن العلويين في سوريا مرقوا من الاسلام مروق السهم”.
قد صاغ القرضاوي اطروحته المرعبة تلك ردا على صور الرعب التي كانت تنقل له عما يتعرض له الاسلاميون في سجون تدمر من تفنن سادي وحشي في القتل، سيما عندما لا يتردد حافظ الأسد بجعل السجان علويا صرفا والسجين سنيا صرفا، وتلك جريمة ثقافية وطنية لا تقل بشاعة ووحشية عن الجرائم التي كانت تجري داخل السجن. إنها أكثر بشاعة لأنها لم تبصر ولا تستبصر مآلات ذلك على وحدة الثقافة الوطنية السورية ومدى عمق الشرخ الأخدودي الذي حفره في كيان الوطنية السورية، هادفا بذلك -عن ارادة وقصد- إلى اشاعة مناخ ثقافي وسياسي مفاده أن سقوط نظامه يعني سقوط الطائفة، ليدفع بالطائفة التي كانت تمور بأفكار التغيير والتقدم إلى نوع من (الانعزالية والمحافظة) خوفا على النظام من السقوط، وما سيترتب عليه من مآلات تمس مصير الطائفة بمجموعها.
ويرافق هذا الميل للانعزالية احساس بالتفوق (الطائفة المختارة) عبر التطمينات باحتكار وسائل القوة والعنف، والقوة وفق منطوق مدرسة الأسد هي القوة الحسية: (البدنية :المصارعة والنطح). أي قوة التغلب والسيطرة وليس قوة التفوق المدني والحضاري كما أشرنا لآلية فهمه للصراع مع اسرائيل. إذ أن هذا الفهم البائس والمتخلف للصراع الخارجي مع اسرائيل، ينقله الأسد لفهم آلية ادارة الصراع الاجتماعي الداخلي الذي حوله إلى صراع طائفي يسعى لتحقيق التفوق من خلال امتلاك مصادر قوة العنف (السلاح)، تماما كما تعلم حسن نصر الله وحزب الله في مدرسة الأسد في علاقتهم بمجتمعهم اللبناني. ولذلك عندما عبّرنا عن مثل هذه المعاني التي تتحكم في منظور حزب الله بمقالات كتبتها بالسفير- ونشرها صديقي عباس بيضون – خطفوني، ليبرهنوا بخطفهم هذا حقيقة تركيبتهم كعصابات مسلحة تهدف أول ما تهدف إلى اخضاع مجتمعاتها عبر التوسل الذرائعي للمقدس: الوطني أو القومي أو الديني، متجاهلين حكمة التاريخ أن أية اطروحة ستنتج معادلها المضاد جدليا من نوعها ومن طبيعتها وجنسها. فلا مستقبل للعنف إلا في انتاجه لمعادلة من نوعه وجنسه، عندها سندخل متاهة العنف الدائري: بمعنى الدوران في الزمان (اللانهائي)، وبمعنى الدوران في المكان حيث يشمل الجميع وكل الكل.
مثل هذه الثقافة الدينية الطائفية لا وجود لها في لبنان. فليس هناك من يكفر الآخر في لبنان، الطائفية في لبنان هي طائفية سياسية. أي هي استشعار سياسي بالهوية يكفل التوازن الداخلي في المجتمع ويعصمه من الانزلاق للتفرد بالسيطرة والهيمنة. وهذا التوازن كان كفيلا باقناع كل الطوائف بالتوقف عن أوهام السيطرة والغلبة. وآخر هزيمة هذه التعبيرات هي هزيمة مشروع حزب الله في الهيمنة الطائفية على الطريقة السورية القائمة على مبدأ: شعارات وطنية وقومية كبرى في السماء، وممارسات الهيمنة الطائفية التي تتشقق عن العشيرة والعائلة والفرد المستبد على الأرض.
هذه الطائفية السياسية اللبنانية هي اقرار واقعي بأن المجتمع اللبناني والعربي لم يبلغ بعد نضج التكوينات السوسيولوجية للمجتمع المدني القائمة على أساس الطبقة، بل لا يزال مجتمعا أهليا ينحط بشكل دائم باتجاه الروابط العضوية العمودية الدموية على أساس الطائفة والعشيرة والعائلة. وقد جاء مشروع حافظ الأسد ليكرس هذا الواقع، بعد أن كاد المجتمع اللبناني، بسبب الحريات السياسية والديموقراطية وقيم الحداثة، أن يتخطى هذا الواقع التقليدي العضوي القائم على مبدأ الهويات العمودية العضوية العتيقة كما هي عليه في المجتمع الأهلي للانتقال إلى المجتمع المدني القائم على مبدأ الانتماءات الوطنية السوسيولوجية السياسية والمدنية. فكان ثمار المشروع الأسدي الطائفي في لبنان هو قيام حزب الله بتدمير القيم الثقافية المدنية والحداثية لطائفته قبل أن يسعى لتدميرها على مستوى المجتمع اللبناني ككل. فبدأ بقتل أكبر رمزين ثقافيين حداثيين للطائفة الشيعية (حسين مروة- ومهدي عامل) المعروفين على المستوى العربي، و18 كادر شيوعي بصمت وتأييد إن لم نقل توجيه عصابات النظام، مع حرب شاملة ضد “أمل” التي تمثل بعدا شيعيا مدنيا مزركشا ببعض عناصر الحداثة. فعاد لينحط بالبيئة الشيعية المستنيرة إلى مستوى من البيئة الثقافية الشعبوية التقليدية الأبوية الشعارية التي يمكن لها أن تعجب وتصفق وتهتف لآل الأسد: “سوريا الأسد”، على حد تعبير الأمين العام لحزب الله، ليجعل من النظام السوري نموذجا لمستقبل لبنان. في حين أن كل معطيات الواقع العربي الراهن تشير إلى أن النموذج اللبناني هو النموذج الواقعي الأمثل والأرشد لكل الأنظمة السياسية العربية، حيث يتيح تحقيق التوازن الداخلي بين مكونات المجتمع الأهلي الطائفي كمحطة ضرورية لا بد منها من أجل تخطيها نحو المجتمع المدني استنادا إلى جدل التاريخ القائل: لا بد أن نملك الموضوع لكي نتخطاه.
إن الانقلاب البعثي الشعبوي الشمولي، والذي منحه وتوجه حافظ الأسد بطابعه الريفي العسكري الطائفي وقبله الناصري الأبوي الفلاحي، شكّل ضربة قاصمة لتطور المجتمع العربي على طريق المجتمع المدني الليبرالي الديموقراطي. وكان يراد للبنان وأد مساره هذا، فاختطف لبنان شموليا وشعبويا وبعثيا لثلاثة عقود، برهنت لكل اللبنانيين أن الطريق الوحيد هو العودة إلى الانتظام في مسيرتهم الأولى واستئنافها من جديد، انطلاقا من الاعتراف بمكونات المجتمع اللبناني فيما هو عليه، عبر الاعتراف بالآخر كما هو وفيما هو عليه من توازنات طائفية واقعية للانطلاق بهذا المجتمع لما ينبغي أن يكون عليه كمجتمع مدني ديموقراطي حديث، وأن هذه الترسيمة السياسية المدنية التعاقدية بين قوى متعينة على الأرض: (طائفيا -عائليا -جهويا) التي يمارسها لبنان هي الخيارالواقعي على طريق تجاوزه، وليست الترسيمة المفترضة ايديولوجيا القابعة في في عقل مفعم بالأوهام والأكاذيب على الذات قبل الآخر،كما هي عليه لدى الجار السوري الذي يفترض أن تتحول خيارات التوازن والتعايش والتعدد وقبول الآخر اللبنانية إلى مطلب مطروح على جدول أعمال الحركة الوطنية والديموقراطية السورية بدون أوهام شعارية وأكاذيب ديماغوجية حولها النظام إلى بديهيات تتيح له أن يحاكم خيرة مثقفي سوريا الوطنيين الديموقراطيين الأحرار بوصفهم مثيرين للمشاعر الطائفية، بينما هو نظام تتحدد هويته الأولى البديهية بأنه نظام طائفي وعائلي بالضرورة حدا وتعريفا وعلنا.
وهذه المسألة يجب أن يعيها الأصدقاء الديموقراطيون العلمانيون المتحدرون من أوساط الطائفة العلوية: قوميون ويساريون وليبراليون، وأن يكونوا الصوت الطليعي والمتقدم في الكشف عن مخازي طائفية النظام التي يعرفونها أكثر من الجميع، لا أن ينشغلوا ببعض ردود فعل الاستغاثات هنا وهناك من مثل ما فعل مأمون حمصي. وهي ليست إلا ردود فعل غريزية تجاه طائفية معلنة من قبل نظام لم يعد يداري أو حتى يداجي في اخفاء طائفيته. وهي ممارسات سافرة في نواياها الطامحة إلى توريط الطائفة بمجموعها في خدمة مصالح عصابات مافيوية (علوية وسنية) ملحقة ذليلة وحقيرة خاضعة لمطامعها الدنيئة حتى ولو كان رأسها تحت الجزمة الطائفية. يجب أن يرتفع صوت المثقف المنتسب للوسط العلوي عاليا مقتديا بالموقف الشجاع لعارف دليلة، لكي لا يأتي يوم يقال به أن المثقفين العلويين سكتوا عن جرائم النظام الطائفي تحت اجماع عجيب على الاكتشاف (البكداشي المؤبد) عن الخطر الخارجي المزعوم الذي يتهدد سوريا منذ الأزل. حيث لا بد – والأمر كذلك- من دعم النظام الوطني ضد الامبريالية والاستعمار وفق اللازمة البكداشية البائدة، هذا النظام الوطني المزعوم الذي لم تتفتت سوريا على مستوى وحدة الشعور الوطني ولم تتشظى على مستوى الهوية الوطنية كما حدث ويحدث في ظله منذ أكثر من أربعة عقود.
س- لقد أردت فعلا أن أتعرف على وجهة نظرك الجديدة هذه بشكل متكامل، حيث كنت تعبر عنها جزئيا في هذه المقالة أو تلك من مقالاتك السابقة، لكن هل يعني هذا انك ضد الانفتاح الغربي على النظام، رغم أن معظم الأصوات المعارضة التي نسمعها الآن في الخارج هي مع عدم عزل النظام، لكن مع مطالبته الغرب تذكير النظام السوري بالسجناء السياسيين والتأكيد على الحريات الديموقراطية في سوريا!
ج- لقد قرأت مثل هذه الأراء والتصريحات، ولا أعرف أية مرجعية معارضة تستند إليها؟
لقد ساهمت المعارضة السورية مع اللبنانية بتحقيق انجاز هام على المستوى العالمي، وهي فضح هذا النظام والكشف عن وجهه الطغياني المافيوي القيبح. فلا أعرف أية حكمة هذه التي تتطلب التضحية بهذا المنجز. أي أن ندعوا الغربيين لكي لا يعزلوا النظام، في حين أن قوى غربية واسعة، الحزب الاشتراكي الفرنسي مثلا، انتقدت بشدة خطوة ساركوزي تجاه إعادة هذا النظام إلى المجتمع الدولي. وقد عبر شيراك نفسه عن رفضه المشاركة في احتفالات الثورة الفرنسية لأنه لن يضع يده بيد قاتل الحريري. فاية حصافة وحنكة سياسية أن نهديء من خواطر شيراك وأن ننصح الاشتراكيين وندعوهم للانفتاح على النظام…!
كيف يمكن لهؤلاء الأصدقاء أن يدعوا العالم لمصافحة هذا النظام وهو الذي قتل عشرات الآلاف من الشعب السوري، وسجن وشرد، ولا يزال يسجن ويقتل ويشرد الآلاف. مع الأسف، إن بعض هؤلاء الأصدقاء يتحدثون باسم المعارضة السورية، وهم يخفضون من سقف خطابها إلى حدود راحة بالهم الشخصية، أي إلى الحدود التي يخشى أن يعكر مزاج الواحد منهم الأمن السوري ببعض المزعجات في المطار عندما يريد أن يقضي اجازته الصيفية بوئام وهناء، وهم يعرفون أن النظام السوري بكل شراسته وهمجيته في تحدي المجتمع الدولي أجبن من أن يوقف مواطن سوري لديه جواز سفر أجنبي… الغريب أن الداعين لعدم عزل النظام يجهلون أو يتجاهلون أن المنجز الوحيد الذي حققته المعارضة –ولو بالحدود الدنيا- هو هذه العزلة التي يعيشها النظام عالميا والذي يحاول جاهدا الخروج منها ولو بتوسل اسرائيل ومن ثم الولايات المتحدة الأمريكية لكي تشرف على المفاوضات، وأن المعارضة لا تملك من عناصر القوة في مواجهة هذه العصابات المسلحة سوى هذا المنجز الأخلاقي للمزيد من محاصرته، في مقابل ما يمتلكه من امكانات مادية (امتلاكه للبلاد) والقدرة على بالتصرف بها بلا حدود ليضعها في خدمة من يمكنه انقاذه من جرائمه، وليس آخرها جريمة اغتيال الشهيد الحريري والرتل اللاحق له من المثقفين والسياسيين!
س- كيف هو وضعك الآن مع عائلتك في المنفى الفرنسي؟
ج- طبعا هو وضع المواطن الغاضب الذي اقتلع من جذوره الراسخة في وطنه. ربما نجحت عصابات “أمن الدولة” في قلعي من مدينتي حلب عبر ارهاب عائلتي الصغيرة، لكن لم ولن يتمكن رئيس أمن الدولة المستوطن مدينتي حلب أن ينفذ تهديده بقطع لساني… بل سيبقى لساني صوتا للحرية يقض مضجعه ومضجع سادته من الارهابيين واللصوص والقتلة اللذين قد يسرقون الكثير والكثير من حلب وسوريا لكنهم لن يستطيعوا أبدا أن يسرقوا سوريا وحلب. فأنا ابن رئيس “رابطة رجال الثورة السورية” لعقود، ربيب ابراهيم هنانو، يحاصرني ويحاصر عائلتي ويهجرها زبانية نظام كان اباؤهم يطالبون المستعمر بالبقاء، ويكتبون العرائض ويوقعونها ليستقووا به في مواجهة ما يمثله جيل أبي (التحرر الوطني). وهم اليوم يزحفون للاستقواء باسرائيل بمواجهة ما يمثله جيلي (التحرر السياسي)، وهذا هو الثمن السياسي الذي يقدمونه للعالم اليوم لكي يمنحهم تمديد مهلة اضافية لفترة ما قبل تنفيذ حكم التاريخ بهم ! وأخيرا شكرا لباريس ومؤسسات المجتمع المدني (امنستي Amnesty International- ورفيفر Revivre) التي احتضنتني وحمتني ممن يفترض أنهم أهلي وبني وطني وجلدتي …!
شفاف الشرق الأوسط
على مدى ثلاثة حلقات