الماركسية و-الماركسيات- الأخرى حول النزعة الحلقية والتشتت الماركسي
سلامة كيلة
تكررت الإشارة إلى الماركسيات حين البحث في تاريخ الماركسية. وما من شك في أن الماركسية تفرعت (أو تفككت) إلى “ماركسيات”، حيث تناقض الماركسيون في مختلف الأمم التي وجدت الماركسية فيها. واتخذ كل رؤية خاصة تختلف أو تتناقض مع رؤى الآخرين. وكان جوهر الخلاف يتعلق بالمشروع الذي يطرحه كل منهم بالاستناد إلى الماركسية ذاتها. رغم أن النتيجة كانت انتصار تيار على آخر في البلدان التي تصارعت فيها.
لهذا سنلاحظ وجود كاوتسكي وبيرنشتاين، لينين وبليخانوف، تروتسكي وستالين. حيث تصارع كل من هذا الثنائي دفاعاً عن الماركسية، ومن أجل مشروع مجتمعي. لكن يمكن تلمس هذا التصارع من خلال الانشقاقات في الحركة الماركسية، مثلاً الانشقاق في الأممية الثانية وتشكل الأممية الثالثة والاشتراكية الدولية. والانشقاق في الأممية الثالثة ونشوء الأممية الرابعة. لكن يمكن تلمس التفرعات التي نشأت في النصف الأول من القرن العشرين، حيث أنها لازالت هي المتواجدة والمؤثرة في الوضع إلى اليوم. حيث تبلورت “الماركسية السوفيتية” التي امتلكت شرعيتها من وجود الدولة السوفيتية ومن قوتها. وانتشرت في مناطق مختلفة في العالم، لكنها حيثما انتشرت لم تطرح على ذاتها تحقيق التغيير لهذا لم تنتصر. كما تبلورت التروتسكية في التناقض معها، وعملت على نقد التجربة الاشتراكية من جهة، وعلى تحقيق الثورة الاشتراكية في العالم من جهة أخرى دون أن تحقق شيئاً واقعياً، رغم الإسهامات النظرية الغنية التي قدمتها. وأيضاً تبلورت الماوية كستالينية لكن ذو نكهة أخرى مناقضة لها. لهذا ظلت تدافع عن ستالين مع سعيها لتحقيق الثورة الوطنية الديمقراطية، في تضاد مع رؤية ستالين التي حملتها الماركسية السوفيتية.
هنا نحن إزاء تيارات ثلاث لعبت أدواراً مختلفة في القرن العشرين. وربما كانت هناك تيارات أخرى لم تتحول إلى أن يكون لها التأثير المشابه رغم أهمية دورها، مثل الماركسية الفيتنامية أو كاسترو، أو ظلت هامشية، مثل ماركسية أنور خوجا، أو قبله الماركسية التي مثلها تيتو. لكن كل منها كذلك تشقق إلى تفرعات عديدة، متناقضة في المستوى ذاته للتناقض فيما بينها. وبالتالي أصبحنا إزاء طيف واسع من التيارات المتناقضة.
وإذا كانت المنظومة الاشتراكية قد سقطت فإن الماركسية السوفيتية لازالت باقية في وعي شيوعيين كثر، وفي أحزاب عديدة، ولازالت مسيطرة على وعي حتى الذين تحوّلوا عنها. وكذلك إذا كانت الصين تتحول إلى الرأسمالية بهدوء فإن الماوية لم تسقط، بل أن بعض أحزابها تنتصر. وإن كانت توسعت فقط في البلدات ذات التكوين الريفي، مثل النيبال والبيرو، وبعض مناطق الهند.
هذه التفرعات تتحول إلى “ماركسيات” قائمة بذاتها. بمعنى أن كل منها يعتبر أنه الماركسي بينما الآخرون هم “تحريفيون”، وخارجون عن الماركسية. وبالتالي بتنا إزاء أكثر من ماركس ومن ماركسية. أيها الصحيح؟ وما الخلاف فيما بينها؟
وأولاً، ما علاقة هذه الماركسيات بالماركسية؟ هل هي ماركسية؟ وبالتالي، ما الماركسية؟
هذه أسئلة تطرح نتيجة الوضع الذي تعيشه الحركة الماركسية في الوطن العربي، حيث يبدو أن الحركة الشيوعية التي استندت إلى “الماركسية السوفيتية” تتلاشى، تتشقق، تتفتت، وتتوه خلف سياسات لا تفعل سوى مساعدتها على التلاشي. وحيث تجري محاولات لإعادة بناء العمل الماركسي من جديد، لكن يجري نقل تلك التيارات بتعددها وتفككها وتناقضها. لتبقى هوامش لا أثر لها ولا تأثير. لكنها تتصارع على قضايا هي ذاتها التي تحكم “الأصل”. فهل أن الواقع العربي ينتج هذه التناقضات أم أن النقل هو الذي يجلب “ماركسيات” متناقضة بالأساس ونتيجة مشكلات لا علاقة لنا بها؟
نشهد محاولات تروتسكية لتشكيل أحزاب، بتنويعات التيارات التروتسكية المختلفة. ومحاولات ماوية لتشكيل أحزاب، ربما هنا وفق تيار واحد، أو حتى تيارات متعددة. إضافة إلى بقايا التيارات التي لازالت تتبع “الماركسية السوفيتية” أو الستالينية. وربما الجيفارية كذلك. وكذلك ربما تتسرب مفاهيم “الثورة البوليفارية”، وتسربت الحكمتية (المستندة إلى منصور حكمت الماركسي الإيراني). أو يمكن أن تتشكل الغرامشية، أوالأناركية. ليتشكل طيف من “الأحزاب الماركسية” متناقض منذ البدء، متصارع حول قضايا كانت في الماضي، والمخوّن كل للآخرين. هل أن الواقع في الوطن العربي هو الذي يفرض ذلك؟ ربما، لكن بمعنى واحد هو، التفكك البرجوازي الصغير. الميل البرجوازي الصغير لتلقف أفكار وأحلام، لا تعبر سوى عن هذا التفكك الذي يعيشه. وبالتالي يكون الماركسية قد خضعت لتفكك البرجوازية الصغيرة ولم تصبح “أيديولوجية الطبقة العاملة” نتيجة أنها لم تحلل الواقع قبل تلمس الخلافات.
فماذا شكلت هذه التيارات في سياق التطور التاريخي في البلدان التي نشأت فيها؟ وهل كان تشكلها نتيجة خلاف منهجي في الماركسية؟ وبالأساس ما هو اختلافها مع الماركسية الأصلية، ماركسية ماركس/إنجلز وربما لينين؟
إن تحول الفرع إلى أصل يفترض أن يكون نتاج تطور ما يسمح بأن يقطع مع الأصل. فهل قطعت مع ماركس؟ كلها تعود إلى ماركس، والى الماركسية اللينينية، لكن كل منها يعتبر أنه “طبقة” جديدة أرقى تتضمن كل “الخميرة” السابقة. إذن، لماذا أصبحت تروتسكية وماوية وجيفارية و..ألخ؟ ربما نتيجة الميل للتعلق بشخصية كارزمية ما؟ وإذا كانت هذه التيارات قد تشكلت نتيجة اختلافات عميقة في فهم الواقع في الأمم التي ظهرت فيها، فلماذا تنقل هذه الخلافات إلى واقع آخر قبل أن تدرسه، وقبل أن تتحاور، وبالتالي تختلف؟
إذا انطلقنا من السؤال حول علاقتها بالماركسية سنجد بأنها كلها تعتبر أن الماركسية واللينينية هي مرجعها. إذن، الخلافات نشأت من رؤية كل طرف للواقع الذي كان يعيشه في بلده. لكن هل أن حلوله لواقعه هي الحلول التي يجب أن تتحقق في الوطن العربي؟
فقد اختلف تروتسكي مع ستالين حول صيغة تحقيق الاشتراكية. وكان قد اختلف مع لينين حول طبيعة الثورة، هل هي ديمقراطية أم اشتراكية؟ أو بالأدق، هل نرفع شعار دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية الثورية أم دكتاتورية البروليتاريا؟ وماو تسي تونغ اختلف مع “الستالينيين” في حزبه حول دور الشيوعيين في الثورة الديمقراطية، هل نندمج بالبرجوازية لتحقيق هذه الثورة برجوازية الطابع أم نحققها نحن؟ وبالتالي كان مختلفاً على أرضية لينينية مع رؤية تروتسكي التي طرحت تحقيق الثورة الاشتراكية. وكانت الستالينية التي تتبلور تكرس دوراً للشيوعيين يكون ملحقاً بالبرجوازية التي يقع على عاتقها تحقيق الثورة الديمقراطية. وهذه هي الخلافات التي حكمت حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي في سنواته الأولى. حيث فرض وجود الشيوعيين في مجتمعات متخلفة الصراع حول طبيعة دورهم، والبرنامج الذي يحكم هذا الدور.
هذه خلافات نشأت في أمم أخرى، هل حللنا واقعنا قبل أن نقول بأن الثورة هي ديمقراطية برجوازية أو ديمقراطية يحققها الشيوعيون أو ثورة اشتراكية؟ ربما نصل إلى واحدة منها، ولا بد من أن نصل من أجل تحديد الهدف الذي يسعى الشيوعيين لتحقيقه. لكن أن ننقل الرؤية قبل أن نحلل فهذه إشكالية عميقة، لأنها تشير إلى أن اعتناق الماركسية لا يقوم على الوعي بها بل يقوم على تحبيذ موقف أو شعار لهذا التيار أو ذاك. أو الانشداد إلى هذا المفكر الماركسي أو ذاك. وهنا يكون نقل النصوص والأفكار هو الأساس دون حاجة لفهم الواقع، وتحديد السياسات المتعلقة به. إننا هنا إزاء هل نؤسس الوعي الماركسي الخاص بنا قبل أن نبحث في الواقع لنبلور الرؤية التي يمكن أن نعمل على أساسها أم نأخذ منتوجات أخرى أنتجها واقع مختلف؟ أي هل نمتلك وعينا قبل أن نصل إلى استنتاجات أم نأخذ الاستنتاجات جاهزة من هذا المفكر أو ذاك، لنؤسس وعياً شكلانياً نصياً ينطلق من منتوجات آخرين؟
لهذا يميل كل تيار لأن يؤسس “مجموعة” له استناداً إلى الأفكار العامة التي يطرحها، باعتبار أنها تطابق الواقع القائم. وهو الأمر الذي يمنع تشكيل عمل ماركسي موحد، حيث يبدو التناقض هو أساس العلاقة، وحيث يتحدد الشقاق مسبقاً، لأن الرؤى التي يطرحها كل تيار هي في تناقض مسبق مع رؤى التيارات الأخرى، وهي مختزنة في شحنة هائلة من الصراع تمت خلال القرن العشرين بمجمله. وهذا يحوّل المسألة من مسألة بحث في الواقع من أجل وعيه إلى مسألة تكرار للصراعات العالمية التي مضى زمانها. وبالتالي إلى ترداد الأفكار المختلف حولها في صيغة تضاد حاد. وهو الأمر الذي لا يقدم ما يفيد على صعيد الفكر، لأنه يكرر المكرر، ويوضح الموضح، ويعيد المعاد. ويجعل الصراعات عندنا هي صراعات خندقة، وبالتالي لا نتيجة منها سوى المشاحنة. أليست هذه من سمات البرجوازية الصغيرة؟ والأسوأ هو أنها تتحول إلى صراعات “قَبَلية” تفشل ممكنات التحاور والتوصل إلى توافقات. حيث يصبح كل طرح معني بأن يفرض على الآخرين كل رؤيته بما فيها المصطلحات والكلمات. وهو الأمر الذي يجعل التفاهم مع من يتفق حول جوهر الأفكار أمراً مستحيلاً. هنا يتحول الصراع “الحِرَفي”، والذي هو من سمات البرجوازية الصغيرة، إلى صراع قبائلي مستجلب من القرون الوسطى. حيث يبدو أن الرابط بهذه الأفكار لدى كل تيار هو رابط شخصي.
ما الاختلاف بين كل تيار من هذه التيارات والماركسية؟
كما أشرنا فإن كل يعتقد بأنه الماركسية وأن الآخر “تحريفي”. وبالتالي فهو يؤكد الانتساب إلى الماركسية، والماركسية اللينينية. وهو الأمر الذي يطرح التساؤل حول لماذا إذن يتحوّل إلى تفريعة، أي إلى ماركسية خاصة تؤسس لتكوين أتباع؟ يؤسس لـ “قطيعة ما” مع الماركسية الأصلية؟ أو تحولاً نوعياً فيها؟
في هذا الوضع يجب أن نشير إلى ما أضافه كل من مؤسسي هذه التيارات لكي يؤسس تفريعاً خاصاً، أو يؤسس انتقالة نوعية. لكن المشكلة هنا تتمثل في أن كلًّ يصيغ الماركسية وفق رؤيته. وهو ينطلق من ذلك للتأكيد على “تحريفية” الآخرين. وبالتالي يمكن أن ننطلق من أس الماركسية، أي مما أضافته بالأساس، أي طريقة التفكير التي استطاعت أن تتجاوز طريقة التفكير التي سادت لقرون طويلة، والتي هي المنطق الصوري. طريقة التفكير هذه هي الجدل المادي. وهو الأساس الذي أوصل ماركس لصياغة منظومته، واكتشاف قوانين عامة للتطور التاريخي وفي الاقتصاد. وبهذا بدت الماركسية أنها تعبّر عن ميل لصياغة رؤية الطبقة العاملة، وعن السعي لتحقيق الاشتراكية، وعدد من القوانين الأخرى.
هل تختلف هذه التيارات حول هذه المسائل؟ بالتأكيد لا. هل أضاف مفكروها شيئاً على هذه المسائل؟ لا، رغم إضافاتهم في مناحي أخرى. إذن، لماذا أصبحت ماركسيات؟ هذا يجعلنا نستنتج بأن الخلاف هو خلاف في رؤية الواقع. وهو ما لا يسمح بأن تتحول إلى ماركسية خاصة، منفصلة عن الماركسية الأصلية، بل يجعلها تنويعاً فيها مرتبط بزمان ومكان محددين. ومن يتابع طبيعة الخلافات يلحظ ذلك، حيث تمركز خلاف لينين مع تروتسكي في المرحلة السابقة لثورة شباط سنة 1917 حول طبيعة الثورة في روسيا وطبيعة القيادة الطبقية والهدف منها. والخلاف بين تروتسكي وماو هو حول المسائل ذاتها. والخلاف بين ماو وستالين هو الخلاف ذاته بين البلاشفة والمناشفة، أي حول دور الحزب الشيوعي في الثورة الديمقراطية. لكن هل تحول تحليل أي من هؤلاء إلى قانون يمكن أن يضاف إلى الماركسية ليكتمل عدّ “الزعماء”، ماركس، إنجلز، لينين، … وهكذا؟ هل غيّر في طريقة التفكير التي وضعها ماركس لينتج “ما بعد ماركسية”، تسمى تروتسكية أو ماوية؟
ربما كان في تحليلات وتصورات هؤلاء أفكار مهمة، ويمكن أن يكون بعضها قد أصبح من صلب الماركسية، لكن كل ذلك لا يؤسس لأن يتحول أي منهم إلى “شيعة” (أو تفريعة). حيث أن الماركسية تبقى هي طريقة التفكير، أي الجدل المادي، التي نحتاجها لفهم واقعنا، وتحديد التصورات لتغييره. وبالتالي سوف يكون استنادنا محدود خارج الجدل المادي. إننا نسعى عبره إلى فهم واقعنا، وبالتالي يمكن أن نصل إلى تصورات وأفكار مقاربة لهذا أو ذاك من مفكري هذه التيارات، ويمكن أن نصل إلى استنتاجات جديدة. يمكن أن نفيد من فكرة لتروتسكي أو لماو، أو حتى لكاوتسكي أو بليخانوف، والى كثير من الماركسيين الذي أتوا بعد هذا الرعيل. لكن يجب أن نبتدئ من طريقة التفكير أولاً. من الجدل المادي. ومن محاولة فهم الواقع ثانياً.
لهذا يمكن الإشارة إلى أن التصورات التي تطرحها هذه التيارات هي ليست سوى أفكار عبّرت عن وعي لواقع معين في زمن محدد، وبالتالي مثّلت رؤية أيديولوجية لطبقة عاملة محددة في بلد معين. هنا صارت الماركسية رؤية أيديولوجية تعبّر عن الطبقة العاملة، وفي سعيها لتحقيق التغيير في واقع معين وزمن محدد. وهو الأمر الذي يفرض تحوّلها إلى النسبية، أي تمظهرها في الخصوصية، التي ليس من الممكن أن تتحول إلى عمومية، إلى قانون. وحين ننقلها نكون قد قلبنا ماركس فأوقفناه على رأسه بعد أن كان هو قد أوقف هيغل على قدميه. لأننا حينها نكون قد بدأنا من أفكار متبلورة لكي نطبقها على واقع لم ندرسه، ولم نتوصل إلى فهم تناقضاته. هنا نبدأ من الفكر وليس من الواقع، وهذا قلب للماركسية يعيدها فلسفة مثالية تقوم على أن الفكر هو الذي يخلق الواقع.
ولقد كانت مشكلة التيارات هذه، السوفيتية والتروتسكية والماوية و…ألخ، تكمن في أنها لم تميز بين طريقة التفكير وبين النتائج التي جرى التوصل إليها في ظرف معين وفي زمن محدد وفي بلد ما. لقد أصبحت الاستنتاجات التي توصل إليها ماو في الصين، والتي رسم على ضوئها إستراتيجيته هي الاستنتاجات الخاصة بنا، وهي الإستراتيجية التي يجب أن نتبعها. ورغم أن ماو تسي تونغ قد قدّم ما هو مهم على الصعيد المنهجي في كتابه “أربعة مقالات فلسفية” (وخصوصاً كراس في التناقض)، إلا أن الماوية قفزت عن هذا الجانب المنهجي عظيم الأهمية لكي تتخذ من النتائج التي إنبنت عليه في ضوء ظروف الصين في النصف الأول من القرن العشرين، وتجاهلت هذا الجانب، لتصبح استنتاجات ماو هي “القانون” الذي يحكم العملية الثورية في الوطن العربي. رغم أن هناك جوانب جوهرية في الماوية يمكن الإفادة منها. وخصوصاً الطريقة المنهجية التي كان يتعامل بها مع الواقع للوصول إلى استنتاجات صحيحة.
كما أصبحت التروتسكية تلخص في ثلاثة “قوانين”: دكتاتورية البروليتاريا والثورة الاشتراكية، الثورة الدائمة، والحزب الأممي. وهي “قوانين” خاصة بكل بلد قدر عموميتها. هل يمكن أن يلخص تروتسكي في هذه “القوانين”؟ لا بالحتم، فهو أغنى من ذلك. وما من شك في أن نقده للتجربة الاشتراكية منذ بداياتها أهم ما كتب، وبالتالي أهم من تحنيطه في هذه الأقانيم الثلاثة. والتي لم يثبت كل القرن العشرين فاعليتها، وفتحت على تناقضات وصراعات فككت الأممية الرابعة إلى “تروتسكيات”. على ماذا تختلف هذه التروتسكيات؟ على الموقف من قضايا واقعية. إذن يجب أن نبحث في الواقع، لكن بالعودة إلى الجدل المادي وحسب.
والستالينية في أوج تبلورها كانت تكرار للتراث المنشفي (البليخانوفي بالتحديد ربما)، ولهذا قادت طبقات عاملة إلى أوهام. حيث لم يثبت القرن العشرين أن البرجوازية معنية بتحقيق المرحلة الرأسمالية قبل أن يتقدم الشيوعيون لتعربش السلطة. لهذا ظلوا يتعففون عنها إلى أن ساقها كل عابر سبيل. رغم أنهم كانوا قوة في العديد من البلدان، وقوة مهمة. فقد “خانوا الثورة”. لكن أيضاً ليس من الممكن تبخيس ستالين وتحويله إلى شيطان رغم كل ما ارتكب. فقد أصبحت روسيا دولة صناعية حديثة. ورغم محدودية وعيه فيمكن الإفادة من العديد من المسائل التي قدمها كذلك.
وبالتالي هنا يمكن أن نفيد من كل هؤلاء بما هو منهجي، لكننا حينها نكون قد عدنا إلى ماركس. وهذا هو ما يفيدنا، لأن كل التصورات الأخرى هي تحليل لواقع محدد، وسياسات تخص هذا الواقع انطلاقاً من منهجية ماركس. رغم أن تحليلاتنا يمكن أن تتقاطع مع تصور أو آخر من هذه التصورات، لأن الواقع المختلف يحوي ما هو مشترك.
وربما كانت الماركسية السوفيتية هي الأكثر وضوحاً في سطحيتها، وفي تحويلها الماركسية إلى “تقرير صحفي”، وإلى أن تكون “الماركسية” نص مقدس مصاغ من قبل “الرفيق ستالين”، أو من قبل “العلماء السوفيت”. لكن كذلك مؤدلجة عبر التحوير الذي أحدثه ستالين في الجدل المادي ذاته حينما شطب منه قانون نفي النفي، وصاغ المستوى الفلسفي في الماركسية (الذي هو الجدل المادي) في إطار جعله خارج الفعل التحليلي. أبعده عن أن يكون طريقة تفكير. لكن هذه السطحية موجودة في كل هذه التيارات، لأن النقل هو تبنٍ لأفكار عمومية بعيداً عن وعي الواقع، واعتبار أنها تخص هذا الواقع. ولأن المنهجية الماركسية همّشت لديها جميعاً، فلم تعد أساس الفعل التحليلي. وبالتالي ساد المنطق الصوري في كل الأحوال.
من كل ذلك يمكن أن نصل إلى أن المشكلة الجوهرية في وضع هذه التيارات تكمن في أنها جلبت رؤية متكاملة من الخارج، ولم تؤسس رؤيتها على ضوء تحليل الواقع. جلبت أيديولوجية صيغت في وضع مختلف لكي تصبح هي “نظرية الثورة” في الوطن العربي. بينما ليس من الممكن أن تتبلور أيديولوجية معبّرة عن الطبقة العاملة إلا بعد تحليل الواقع، وتحديد الأهداف التي يطرحها من منظار الطبقة العاملة، وبالتالي رسم الإستراتيجية المطابقة لممكنات التغيير عندنا. وهذه كلها تحتاج إلى وعي الجدل المادي أولاً وأساساً وبالحتم. وهنا يمكن أن نفيد من كل ما كتب هؤلاء (لينين وتروتسكي وماو وغرامشي ولوكاش وآخرين، بعد ماركس وإنجلز) فيما يتعلق بالجدل المادي من أجل ليس فهمه فقط بل هضمه لكي يصبح هو آليات التفكير التي نتبعها ونحن نقارب الواقع. كما يمكن أن نفيد من مسائل أخرى في تحليلاتهم ورؤاهم. ويمكن أن “نهوى” هذا أو ذاك منهم، فنميل إلى “تمثله”. لكن يجب أن نبدأ من البداية، التي هي وعي الجدل المادي كمحرك ذهني يسمح لنا بوعي الواقع، ووعي آليات تغييره.
هنا نحن ماركسيون. ماركسيون وفقط. وهو التعبير الذي لا يعيد إلى ماركس فقط لأنه يتسمى باسمه، بل يعيد إلى كل التراث الماركسي بمختلف تلاوينه، ومختلف شخوصه. لكن يحصر الماركسية أولاً وأساساً في منهجيتها، طريقة التفكير التي أضافتها، الجدل المادي. وبعد ذلك كل القوانين والأفكار التي تبلورت على ضوئه. وبالتالي فتعبير ماركسي ليس مشابهاً لتعبير ماوي أو تروتسكي، لأنه الاسم لتيار فكري لم يجد، إلى الآن، اسماً آخر له، رغم كل المحاولات في هذا المجال. لأن كل الأسماء تلوثت بفعل مستخدميها. وهذا التلوث هو الذي فرض على ماركس وإنجلز أن يسميا البيان، البيان الشيوعي وليس الاشتراكي، رغم أن جوهر فكرتهما كانت: الاشتراكية، رغم أن تعبير اشتراكية شاع كتعبير عن الماركسية بعد ذلك، ثم تعمم تعبير شيوعي.
وبالتالي فإن كلمة ماركسي تشير إلى المنهجية، طريقة التفكير: أي الجدل المادي بالأساس. وهنا لن نجد سوى الماركسية.
وهو الأمر الذي يطرح السؤال: إلى أي مدى تمثّل كل من الماركسيين، وخصوصاً من باتوا يشكلون تفرعات في الماركسية، المنهجية الماركسية؟ فمن يتابع كتابات لينين يلحظ الأهمية التي يوليها لتقييم الآخرين انطلاقاً من هذه المسألة، لأنها أساس المقدرة على وعي الواقع، ووعي آليات تغييره. وبالتالي إذا كان هؤلاء قد تمثّلوا المنهجية الماركسية، فإن الإفادة الأساسية منهم سوف تتحدد في بعض القوانين والتصورات التي توصلوا إليها من خلال تحليلهم واقعهم، والتي يمكن أن ترفع إلى مصاف القانون أو الرؤية.
لكننا هنا نبقى في إطار الماركسية دون الحاجة لتفرعات و”ماركسيات” أخرى. حيث يمكن أن نفيد من فكرة لماو أو تصور لتروتسكي دون أن يكون ذلك أساساً لانشقاق أو شقاق. نبقى دون حاجة لتفرع مسبق، رغم أن الحوارات يمكن أن تقود إلى انشقاقات وتفرعات، لكن هذه المرة انطلاقاً من تحليل الواقع، وعلى ضوء تحديد السياسات.
إذن، هناك ماركسية وهناك إضافات من ماركسيين كثر. هناك ماركسية هي الجدل المادي وهناك التراث الماركسي الذي هو نتاج كل الماركسيين بغض النظر عن القيمة الراهنة له.
الاختلافات
هل يعني ذلك أنني أتجاهل الخلافات التاريخية، والتي لازالت قائمة في الواقع؟
ما وددت الإشارة إليه أولاً، هو أن تشكل التيارات في الوطن العربي نابع من تبنٍ لأفكار ومنظومات متبلورة مسبقاً في واقع وزمن سابقين. وبالتالي فهو نقل لمنظومة باعتبار أنها مطابقة للواقع القائم. وهذه مناقضة للجدل المادي، وتعبير عن سيادة للمنطق الصوري، وربما اللاهوتي الذي يبدأ من نص مقدس قبل أن يلمس الواقع بالتحليل. معتبراً أنه الوعي المطابق للطبقة العاملة. هنا أبدِل الجدل المادي بالمنطق الصوري، لهذا تشكلت هذه التيارات في شكل بنى مغلقة (طائفة). لأن المنطق الصوري هو من نتاج البنى المغلقة.
وبالتالي، هنا، الواقع غائب. أو هو “المفعول به”. والمنهجية صورية وليست ماركسية. وبالتالي سوف تكون كل الخلافات هي خلافات خارجية لأنها ليست نابعة من الواقع بل مستجلبة مع التصور الجاهز المتبنى. وتتمحور هذه الخلافات حول عدد من القضايا، هي في الجوهر ذاتها التي كانت مجال خلاف في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. وأساسها تلك المتعلقة بتحديد طبيعة الثورة: هل هي ثورة ديمقراطية برجوازية أم ثورة ديمقراطية بقيادة عمالية أم ثورة اشتراكية؟ والانقسام واضح هنا بين الماركسية السوفيتية التي تطرح بأن الثورة هي ذات طبيعة ديمقراطية برجوازية، يجب أن تحققها البرجوازية. والماوية التي تطرح بأنها ثورة ديمقراطية لكن بقيادة عمالية. والتروتسكية التي لازالت تعتبر بأن الثورة هي ثورة اشتراكية. لكن الخلاف يطال الموقف من المسألة القومية، حيث تجاهلتها الماركسية السوفيتية، وتبنتها الماوية، واختلف موقف التروتسكيين منها بين متبنٍ ورافض لها استناداً إلى “أممية” أقرب إلى الكوزموبوليتية (كما الماركسية السوفيتية). ويدخل في الخلاف مسائل التحالفات وما هو دور الحزب الشيوعي فيها: التبعية للبرجوازية أو قيادتها، أو تجاهل مبدأ التحالف ذاته. وأيضاً بين اللا ثورة (الماركسية السوفيتية) والثورة (الماوية) والثورة الدائمة (التروتسكية). أو تحديد الطبقات بين التركيز على البرجوازية (الماركسية السوفيتية) أو على الفلاحين (الماوية) أو الطبقة العاملة (التروتسكية). وكذلك بين النضال الديمقراطي (الماركسية السوفيتية) والثورة المسلحة وحرب الشعب (الماوية) والانتفاضة (التروتسكية). ويمكن إيراد اختلافات كثيرة أخرى.
لكن السؤال هو: ما هي علاقتها بواقعنا؟ ما من شك في أنه من الضروري تحديد طبيعة الثورة ودور الطبقات فيها، والدور الذي يجب أن يلعبه الحزب الشيوعي، وكيفية الوصول إلى السلطة. ولا بد من موقف من المسألة القومية كذلك لأنها مطروحة في الواقع، ولا يمكن تجاهلها. وبالتالي يجب تحديد وضع الطبقات. هذه مسائل أولية في بلورة رؤية تعبر عن الماركسيين.
وأيضاً يمكن تفهم التركيز على الاشتراكية في الوضع الذي كانت فيه الحركة الشيوعية، وهي القوة الغالبة، تدافع عن انتصار البرجوازية، وتوظف كل مجهودها من أجل هذا الانتصار. كما يمكن تفهم التركيز على الفلاحين في وضع كانت الحركة الشيوعية والتروتسكية تركزان على الطبقة العاملة في مجتمع كان فلاحياً. وبالتالي يمكن تفهم التركيز على دور الحزب في وضع كانت الحركة الشيوعية تذوب في التحالفات التي تنسجها.
لكن المسألة أبعد من ذلك، حيث يبدو كل هذا الخلاف وكأنه خارجي، يمكن أن يناقش فيه أيًّ كان، وفي أي مكان. بمعنى أنه دون خصوصية تستند إلى البحث في الواقع. ولهذا لن يقود إلى تفاهم، وليس من الممكن أن يلغي التبلور “الحلقي” الذي يسكن كل تيار. ودون فائدة نظرية على الإطلاق لأنه لا يضيف على ما هو مكتوب منذ عقود، رغم أن محك صحة أي من هذه الأفكار هو الواقع، الذي يمكن أن يغلّب وجهة نظر على أخرى عبر تحليله استناداً إلى الجدل المادي بالتحديد، وليس بالعودة إلى فكرة لتروتسكي أو لينين أو ماو أو حتى ماركس. فمثلاً هذه هي الخيارات الثلاثة لتحقيق التطور، لكن أيّ منها يمكن أن يكون هو الذي يجب أن نأخذ به في الوطن العربي، على ضوء الوضع الطبقي وميزان القوى بين الطبقات والأهداف التي نسعى لتحقيقها من أجل تحقيق التطور، أي الأهداف التي يطرحها الواقع كخطوة في مسار التطور؟ هذا يستلزم “التحليل الملموس للواقع الملموس” كما يشير لينين. ولن يفيد هنا التصور الذي وصل إليه ماركس، والذي كان يركز على تحقيق الثورة الاشتراكية، والذي تجاوزه لينين لكي ينتصر. كما لا يفيد التصور الذي قال به لينين أو تروتسكي أو ماو. فهذه تصورات اعتمدت على وضع محدد لم يعد هو الوضع الذي نعيشه. رغم أن في هذا التصور أو ذاك ما يمكن أن نفيد منه. لكن أولاً عبر تحليل الواقع، من خلال الجدل المادي.
إذن، البدء في الماركسية من الماركسية ذاتها، وليس من أي تبلور فكري سياسي آخر. وهو يعني البدء من وعي الماركسية كمنهجية هي الجدل المادي، وبالتالي تحليل الواقع على أساسها، للوصول إلى استنتاجات وتصورات، والى برامج ورؤى. قد تتوافق مع هذا التيار أو ذاك، أو تتبنى تصور هذا المفكر الماركسي أو ذاك، أو تكون جديدة كل الجدة نتيجة اختلاف الظروف الواقعية. أو يمكن أن تكون متوافقة مع أي منها وجديدة في الآن ذاته.
وهذه البداية لا تميز بين لينيني وتروتسكي وماوي وستاليني وغرامشاوي و…ألخ. لأنها تنطلق من أس الماركسية. ومن لا يلتقط هذه الحقيقة لن يكون بمقدوره أن يكون ماركسياً. وبالتالي خلال تحليل الواقع يمكن أن تتبلور تيارات، وتظهر تناقضات، لكن عبر ذلك فقط.
لقد حاول التروتسكيون منذ عقود طويلة، لكنهم ظلوا على هامش الحركة الشيوعية، ناقدين لها عبر الأفكار العامة التي قدمها تروتسكي. وحاولت الماوية منذ ستينات القرن العشرين، لكنها لم تنوجد إلا في بعض البلدان وفي الوسط الطلابي في الغالب. رغم الاهتمام الكبير بماو وتروتسكي في الوطن العربي. لماذا؟ هل درست أسباب الفشل؟ إن صيغة “جاهزة” لا تستطيع أن تؤسس حركة واقعية. لقد كانت مأثرة الشيوعيين أنهم طرحوا قضايا الطبقة العاملة المطلبية، وخاضوا الصراع من أجلها (قبل أن يصبحوا جزءاً من أنظمة)، أما التروتسكيون والماويون فقد ركزوا على ما لا قيمة له في الواقع الراهن (أي القائم وليس على المدى التاريخي). والأسوأ أنهم لم يقدموا فكراً، وكان كل الماركسيين الذين أنتجوا فكراً هم من خارج كل هذه التيارات، وفي خلاف معها. وأول نقاط الخلاف كانت كيفية التعاطي مع الماركسية: هل هي نصوص جاهزة أم منهجية يجب أن نتمثلها لكي نستطيع تحليل واقعنا؟ ربما فيما عدا د.سمير أمين الذي كان ماوياً في مرحلة فإن ياسين الحافظ والياس مرقص ومهدي عامل وإبراهيم كبة، وكثر آخرون كانوا ماركسيين فقط. وفي تاريخ الحركة الشيوعية سنجد سليم خياطة ورئيف خوري وفهد وعبد الخالق محجوب، وقلة أخرى من كانوا ماركسيين فقط.
وبالتالي لم تكن التيارات التروتسكية والماوية سوى أشكال اعتراض على الحركة الأساسية، التي هي الحركة الشيوعية، دون أن تستطيع أن تكون بديلاً لها، كما فعل ماو سنوات العشرينات، أو كاسترو في الخمسينات.
رغم “الهوى” الذي يمكن أن يسكن أيٍّ منا لهذا أو ذاك من الماركسيين الكبار، فإن الأساس هنا هو أن نكون ماركسيين ونقطة. وأن نبدأ من وعي واقعنا، لكي نبلور التصورات والسياسات والآليات التي تنطلق من ممكنات الواقع. لكن هذه الانطلاقة لن تعفينا من نقاش العديد من القضايا التي أثيرت في تاريخ الحركة الماركسية، وأن نحدد موقفنا منها، وربما أن نختلف في ذلك. لكن الأهم هو الحوار حول القضايا المفصلية المتعلقة بواقعنا، والتي يمكن أن تتحدد في عديد من المسائل منها، الموقف من المسألة القومية في الوطن العربي، هل هناك مسألة قومية؟ القومية الأكبر ومسألة الأقليات؟ حول طبيعة الثورة التي يجب أن نمرّ بها؟ وعلى أي الأسس يمكن تحديدها؟ الحزب الماركسي وعلاقته بالطبقة العاملة وبالفلاحين الفقراء؟ وهل سيخوض الصراع وحده أم من خلال تطوير نشاطات هذه الطبقة؟ هل أن الصراع هو صراع سياسي أم صراع طبقي؟ المسألة الفلسطينية وموقعها في هذا الصراع؟ الموقف من النظم الطبقات الحاكمة؟ مسألة التحالفات؟ الموقف من الحركة الأصولية؟ وكثير غيرها، لكن ربما كانت هذه من الأواليات، والمسائل التي تحدد الرؤية وليس الأهداف/ البرنامج فقط. ولكن أولاً، يجب أن نبدأ من السؤال: ما الماركسية؟ وكيف نبلور الجدل المادي ونتمثله، لكي نحلل الواقع عبره؟
هذه هي النقلة الضرورية في الوعي لكي يصبح الشخص ماركسياً. ولكي يصبح الحوار حول كل القضايا سابقة الذكر ممكنة، ومجدية. وتفضي إما إلى توافق أو اختلاف، أو إلى توافق واختلاف معاً. وتؤسس لعمل ماركسي يمكن أن يصبح قوة فعلية. إن “استيراد” منظومات جاهزة لا يسمح بأن تتحول إلى قوة فعلية. حيث يجب أن نبدأ من “التحليل الملموس للواقع الملموس” من خلال الجدل المادي. أما “الاستيراد” فهو تعبير عن وعي شكلي، صوري، وبالتالي مناقض للماركسية. مناقض لـ “روحها” ومنهجيتها، وإن كان يتبنى بعض المقولات والمفاهيم والتصورات التي طرحها هذا الماركسي أو ذاك، حتى ماركس ذاته. أو كان يسمي ذاته ماركسياً. القطيعة الجوهرية التي أحدثها ماركس هي “القطيعة المعرفية” التي سمحت بالوصول إلى كل التصورات والاستنتاجات والقوانين والمنظومات التي توصل إليها. تجاوز هذه المسألة الجوهرية يبقي “الماركسي” منحكماً للمنطق الصوري، وبالتالي يبقيه خارج الماركسية، وإن ناضل من أجل الاشتراكية، أو دافع عن الطبقة العاملة، أو جعل الثورة هي قضية حياته. هذه كلها ضرورية، لكن بالاستناد إلى تحقيق القطيعة المعرفية وتمثّل الجدل المادي فقط.
ولأن هذه القطيعة لم تتحقق عندنا، طغت ميول البرجوازية الصغيرة: الحلقية والشكلية والفذلكات والمماحكات، وأساساً البعد عن البحث في الواقع، وعن وعي ممكنات الواقع. وهو الأمر الذي فرض أن تكون الحركة الماركسية أبعد ما تكون عن الطبقة التي تقول أنها تدافع عنها: عن الطبقة العاملة. وبالتالي أن تنحصر في “شلة” من الطلاب و”المثقفين” والمهنيين. وإذا كانت هذه “الشلة” ضرورية فذلك فقط كنواة لاكتساب الوعي بالماركسية والواقع معاً، وبالتالي نقلها إلى الطبقة العاملة من أجل تفعيل نشاطاتها، وتحديد شعاراتها، وإكسابها التكتيك والتنظيم والآليات الضرورية لتحقيق التغيير. وليس لكي تتحول إلى حلقات “ثرثرة” ومناكفة ترفع شعارات غاية في التطرف بعيداً عن كل ممكنات الواقع. وتتحول إلى “مجتمعات مغلقة”، “طوائف” و”شيع”، وعائلات، وبالتالي على هامش الطبقات حتماً. وهو الأمر الذي يحصر نشاطها في مستوى سياسي ضحل.
لهذا يجب أن نبدأ من وعي الماركسية بتمثّل منهجيتها: الجدل المادي، من أجل وعي الواقع وتحديد آليات تغييره. وهو الموضوع الذي يجب أن يفتح على حوارات متشعبة، فلسفية نظرية، واقتصادية مجتمعية، وسياسية عملية. حوار لوعي الماركسية والواقع معاً. وبالتالي وعي آليات تغيير الواقع عبر تحديد دور وفاعلية الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وكل الطبقات الشعبية.
وبالتالي أن نبدأ من الموقع الطبقي الذي حددته الماركسية لذاتها، أي من موقع الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. إن مهمة الماركسية (وبالتالي الماركسي) هي بلورة الرؤية التي تعبر عن هذه الطبقة، رؤيتها لواقعها وللواقع العام، ورؤيتها لمصالحها وكيفية تحقيقها، وبالتالي الآليات التي توصل إلى ذلك. إذن، يجب رؤية الواقع من موقع الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وتحديد البرنامج تأسيساً على ذلك. هنا لا تعود الخلافات هي نتاج نزعات حلقية بل نتاج اختلافات في الرؤى، وهذا ما يغني الحوار ويؤسس لوعي أعمق بالواقع. إن الماركسي هو من استطاع أن ينظر إلى الواقع من منظار الماركسية والطبقة العاملة معاً، وليس من أي منظار آخر.
هل نستطيع أن نبدأ من هنا، بعيداً عن كل تلوينات الماركسية التي لم تكن سوى تبلورات أيديولوجية في لحظة وزمان محددين؟ وبالتالي أن نبدأ في البحث في الواقع من أجل فهمه، وفهم آليات تغييره؟
الحوار المتمدن