في بعض مسائل المواطنة والقومية
سلامة كيلة
بدت نغمة «الدولة الوطنية» التي راجت منذ مدة وكأنها التفصيل لمبدأ المواطنة. بمعنى أن الحاجة لتكريس مبدأ المواطنة فرض الميل للتأكيد على مفهوم الدولة الوطنية بديلاً عن الدولة القطرية، حيث تنتفي الهويات الأخرى لمصلحة الوطن الذي يفرض حتماً تكريس مبدأ المواطنة. هنا تنتفي الهويات الدينية والطائفية والإثنية لمصلحة هوية واحدة يوجدها الوطن هذا، أو ما بات يسمى وطنا. والإشكالية المنهجية التي تحكم هذا المنطق، أنه يحلّ المشكلات عبر الكلمات، أو يعتقد بأن حسم مسألة الوطن تجلب حتماً مبدأ المواطنة، وتكرسه واقعياً. وبالتالي سنلمس الحل الشكلي لكل مشكلة المواطنة، الذي يقوم على التسمية، تسمية الدولة دولة وطنية.
هنا يتحول الوطن إلى هوية هي التي توجد المبدأ ذاك. وهي تضمر ميل لنفي هويات أخرى من أجل الوصول إلى إمكانية تسمح بتكريس هذا المبدأ. ومنها الهوية العربية والكردية وربما هويات أخرى.
ما يجعل المسألة المطروحة تأخذ هذا المنحى هو التناقض الحاصل بين الهوية القومية والدولة التي هي قطرية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بين هذه الدولة وتنوع الهويات داخلها، حيث أنها تحتوي على أقليات قومية. وبالتالي يكون الحل الممكن الوحيد هو تحويل الدولة إلى هوية جامعة لكي يكون ممكناً تحقيق مبدأ المواطنة.
في هذا الطرح ما هو شكلي إلى أبعد الحدود. وفيه تبسيطية ساذجة كذلك. وفيه خلط بين مستويات متعددة. وبالأساس فيه سوء فهم لمعنى الحداثة. حيث أن مبدأ المواطنة طرح بالأساس كبديل عن الهوية الدينية في سياق تحقيق الحداثة. أي أنه طرح لتجاوز التمييز بين المواطنين على أساس ديني في المستوى السياسي، وبالتالي في القانون. ليوصل إلى أن السلطة نابعة من إرادة الشعب. هنا، ورغم التميز الديني بين الأفراد، فإنهم في السياسة سواء، مواطنون متساوون أحرار. وهذا هو أساس الديمقراطية، التي أصبحت ممكنة بعد تكريس هذه المبادئ. وبهذا أصبح مبدأ المواطنة جزء من الرؤية السياسية التي تحققت مع انتصار الحداثة. أي أن يعرّف الفرد بانتمائه لوطن تتأسس الدولة عليه.
وبالتالي فنحن إزاء تحديد سياسي، هو مبدأ المواطنة. ولقد سمي كذلك بالإحالة إلى الوطن الذي يقطنه شعب معين. وبالتالي غدا الارتباط السياسي ليس بالدين بل بالوطن. وأصبحت الدولة في موقع واحد من كل المواطنين، أصبحت لـ «كل» المواطنين. هنا بات التقابل هو بين الدولة والمواطن بغض النظر عن دينه أو اتجاهه. المهم أنه ينتمي لـ «الدولة»، على عكس التحديد الديني الذي كان يفرض انتماء الفرد إلى الله، وبالتالي إلى الحاكم ولي الله على الأرض. لهذا حل مفهوم المواطن بدل الرعية. بمعنى أن هذه المسألة تخص العلاقات في إطار «الهيكل السياسي» الذي هو الدولة. التصور الديني كان يجعل العلاقة بين الرعايا والملك، والتصور الذي فرضته الحداثة يجعل العلاقة بين الأفراد في إطار مؤسسة تحكمهم، وهم معنيون بمن يكون السلطة فيها، هي الدولة. وهم من يقرر الصيغة والآليات التي تسير فيها.
لكن هنا نتلمس مستوى آخر، هو الشعب، الذي هو مجموع المواطنين. هذا الذي كان يعرّف بانتمائه الديني، والذي أصبح في تقابل مع الدولة دون توسطات. هذا التعريف السياسي بالتقابل مع الدولة رافقه تعريف بالتقابل مع الذات، وفي التميّز عن الآخر. وهنا كانت القومية، حيث حلت محل «الملة»، التي تقوم على الانتماء لدين معين. وبالتالي أصبح تعريف الفرد نابعا، ليس من دينه، بل من انتمائه القومي. ولهذا تأسست ليس دولة المواطنين فقط، بل الدولة/الأمة كذلك. الدولة التي تتشكل ضمن الحدود التي تتوضع فيها الأمة. وبالتالي فقد جلبت الحداثة كذلك الدولة/الأمة، الدولة المقامة دون الحدود التي أوجدها التوضع البشري المحدّد قومياً.
إننا هنا إزاء تشكل مجموعة بشرية في طابع معين، يعرّفها بذاتها، ويميّزها عن بشر آخرين. ولقد كانت اللغة والثقافة (والطابع النفسي) المشكلتين عبر الصيرورة التاريخية، هما المميز هذا. ولهذا سعت البرجوازية لأن توحد الأرض التي يتوزع فيها البشر هؤلاء في الدولة/الأمة.
ولقد سبقت هذه الشكل الذي اتخذته الدولة، والذي تضمن مبدأ المواطنة. حيث كان توحيد السوق أهم بالنسبة لها من شكل السلطة التي ستحكم فيها. الذي قام على أساس دكتاتوري أولاً، قبل أن تفضي النضالات إلى أن يتكرس مبدأ المواطنة كجزء من دولة ديمقراطية مدنية حديثة. لقد كان همّ البورجوازية السوق، وليس التساوي بين المواطنين. وكان هدفها تعظيم ربحها وليس وضع هؤلاء. لكن حاجتها إلى القانون الذي بدا كعنصر جوهري في التنظيم الاقتصادي الجديد، فرض أن تؤسس دولة مدنية تقوم على المساواة بين المواطنين، وأمام القانون فقط (أي ليس في الاقتصاد الذي أقرّ عدم التساوي فيه).
هذه الأولوية لتشكيل الدولة/ الأمة (الدولة القومية) جعلت معنى الوطن واضحاً، أي أنه وطن الأمة، وليس أي وطن آخر. ولقد رفضت البرجوازية كل «الأوطان» الأخرى التي تتشكل منها الأمة (مثل وضع ألمانيا). الأمر الذي لم يوجد هذا التناقض الذي نلمسه بين مفهوم المواطن والدولة الوطنية. حيث ترافقت الحداثة السياسية التي فرضت انتصار مبدأ المواطنة مع تبلور الذات الذي أفضى إلى نشوء الدولة/ الأمة. وكلمة مواطن أخذت من هذا الوطن، الذي هو الوطن/ الأمة. لكن هذا الوطن لم يقتصر، في الغالب، على مواطني الأمة بل شمل وجود أقليات أخرى، مجموعات لم تتبلور في أمة، أو مجموعات من أمم أخرى. ولقد سرى عليها القانون ذاته الذي يحكم الشعب كله. بمعنى أنها خضعت للقوانين والآليات ذاتها التي تقوم عليها الدولة. هذا في المستوى السياسي، مستوى العلاقة مع الدولة. لكن الطابع القومي لهذه المجموعات فرض حقوقاً أخرى في المستوى الذي يخص الطابع القومي ذاته. وهنا الحقوق الثقافية أو الحكم الذاتي.
وبالتالي فإن وجود أقليات لا يفرض إلغاء الطابع القومي للأكثرية من أجل تكريس مبدأ المواطنة. فهذه سذاجة سياسية مفرطة، وهذا وعي ضحل. حيث لا يستطيع التمييز بين المسائل، ولا يلتقط الفروق في المستويات، ولا يلمس تعدد القضايا ومن ثم تعدد الحلول التي تتعلق بها. إن مبدأ المواطنة يتعلق بالشكل الذي تتخذه الدولة، بالصيغة التي تتشكل فيها، بغض النظر عن طبيعة السكان. وحين تقرّ بأن مبدأ المواطنة هو الذي يحكم علاقتها، يكون كل سكانها هم مواطنون، بغض النظر عن طابعهم القومي أو دينهم.
هنا الدولة هي دولة مدنية حديثة، وبالتالي تقوم على إقرار مبدأ المواطنة، أما طابعها القومي (أي هل أنها دولة/ أمة أم لا) فهذه مسألة أخرى لها سياقاتها المختلفة. بمعنى أن الدولة القطرية يمكن أن تقوم على إقرار مبدأ المواطنة، وفي الوقت ذاته تسعى لأن تتحول إلى دولة أمة عبر توحيد البشر الذين يحكمهم طابع قومي مميز. أي أن إقرار مبدأ المواطنة يمكن أن يسبق تحقيق الدولة/ الأمة. وبالتالي ليس قدراً أن ننتظر لحين تحقيق الدولة/ الأمة كما حدث في أوروبا من أجل إقرار مبدأ المواطنة. هذا تقليد ساذج وضار، رغم أنه يحكم «العقل السياسي» بمختلف تلاوينه.
إن أي تغيير للنظم في سياق السعي لتحقيق التوحيد في الوطن العربي، يحمل في ثناياه مشروع تأسيس دولة مدنية حديثة تقوم على مبدأ المواطنة، وبالتالي يفرض السعي لفرض هذا المبدأ في الدولة القطرية دون الحاجة إلى اللجوء إلى كل هذه الفذلكات «النظرية».