صفحات مختارة

تحقيق الاصلاح السياسي مرهون بالوعي والثبات

د. سعيد الشهابي
من مصاديق الممارسة الديمقراطية الحقيقية وجود معارضة فاعلة، معترف بها رسميا، وقادرة على مناقشة سياسات الحكومة ومنافستها في الوصول الى السلطة. وفي مقال كتبه أحد نشطاء المؤتمر الوطني الافريقي، أبدى السيد ويليام جوميده، مؤلف كتاب ‘ثابوا امبيكى والمعركة من اجل روح المؤتمر الوطني الافريقي’ ارتياحه لعودة ‘الحزب الوطني’ للعمل السياسي الناشط. هذا الحزب الذي يمثل الاقلية البيضاء كان العمود الفقري للنظام العنصري قبل سقوطه، وقد ادى الحديث عن عودته الى النشاط لمشاعر غاضبة لدى الكثيرين خصوصا في اوساط ضحاياه عندما كان يحكم وفق نظام الفصل العنصري. اعتبر الكاتب ان وجود تلك المعارضة، مع اعتقاده بانها لن تصل يوما الى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، ضرورة لتطوير اداء الحكومة، لان عدم وجود معارضة فاعلة يضعف ذلك الاداء ويدفع المسؤولين الحكوميين للتراخي وعدم الاداء الجيد. ويضيف: ‘ان عودة حزب الفصل العنصري قد تكون كافية لازعاج اي مواطن جنوب افريقي. ولكن برغم سجله كحزب قائم على القمع والفصل العنصري، وبرغم ما عانيته على ايدي مسؤوليه، فان غياب الحزب الوطني عن المسرح السياسي قد حرم جنوب افريقيا من الصوت الآخر’. ومن معالم النظام السياسي الحديث وجود آليات فاعلة لمنع انحراف مسؤوليه، وضمان استقامة سياساته مع روح النصوص القانونية والدستورية، وممارسة رقابة صارمة على اداء الحكومة. ويفترض ان تكون تلك الآليات منطلقة من الحرص على مصالح الشعب والوطن، وممثلة لرأي الاغلبية من المواطنين. ويقوم ذلك الافتراض على مبدأ آخر يتمثل باعتماد النظام السياسي القائم مبدأ ‘الشراكة’ السياسية و ‘التعددية’ مع المواطنين، وان الحاكم لا يكون شرعيا الا اذا انتخبه المواطنون. فالشرعية الشعبية هي أساس الحكم الناجح والمشروع، وبدونها يتحول الحكم الى نظام قمعي استبدادي يستمد شرعيته من القوة التي يستعملها لاسكات الاصوات المناوئة. وقد اثبت التاريخ المعاصر ان من يختطف السلطة من الحكومة المنتخبة لا يستطيع الاحتفاظ بها طويلا. وهذا ما حدث لعدد من الانظمة. وآخر هؤلاء الحكام برويز مشرف الذي اسقط في 1999 حكومة نواز شريف المنتخبة (برغم سوء ادائها وفساد ممارسات بعض وزرائها)، ونصب نفسه رئيسا عسكريا. ولكن البلد الذي يملك ديناميكية سياسية فاعلة لا يستكين لظلم حكامه او استبدادهم، بل يواجه ذلك بما لديه من قوة ووسائل ليعيد التوازن الى الحكم طال الزمن ام قصر. ولا يستبعد ان يكون مصير نظام الحكم في السودان مماثلا، لانه نظام استولى على السلطة باسقاط حكومة الصادق المهدي المنتخبة. وهنا يكون الصراع فكريا بشكل اساس، ويتمحور السجال ازاءه حول عدد من التساؤلات اهمها: ما مصدر شرعية الحكم؟ القوة العسكرية ام الخيار الشعبي؟ ولا يختلف الامر كثيرا في تركيا التي استند جنرالات الجيش فيها لقوتهم العسكرية وهم يمارسون الحكم او يفرضون من يريدون من المدنيين ممثلا لهم في هرم السلطة. ولكن سرعان ما ينهار النظام تحت ضغط المعارضين للاستبداد. وفي الجزائر كان الجنرال خالد نزار الرجل الاول في الحكم، برغم انه ضابط عسكري، وبقي الامر كذلك حتى حدث تغيير كبير ادى الى تحجيم دور العسكر في ادارة الدولة وان كانوا لا يزالون قادرين على التدخل في اية لحظة. فأي نظام يقوم على اساس القوة العسكرية وما ينطوي عليه ذلك من جنوح نحو القمع والاضطهاد واسكات الاصوات المعارضة، لا يمتلك القدرة على البقاء طويلا. فالتفاعلات المجتمعية والسياسية، وحيوية المرجعية الفكرية والدينية لدى الشعوب سرعان ما تؤدي الى بلورة موقف مناهض للاستبداد العسكري (او الملكي في حالة الممالك غير الدستورية) فيتم بشكل تدريجي اسقاط الذين استلبوا الحكم بالقوة بعيدا عن مبادئ الشراكة والتعددية والتداول السلمي على السلطة. وفي مقابل ذلك فان اية مواجهة خارجية لبلد محكوم بنظام سياسي منتخب، كثيرا ما تفشل لان الشعب يلتف حول حكامه المنتخبين الذين يمثلونه ويسعون لتلبية احتياجاته وتحقيق تطلعاته. ان الحديث عن المعارضة يثير شعورا مؤلما لدى النشطاء المطالبين بالاصلاح في العالم العربي. ويندر وجود نظام سياسي في الدول العربية مستعد لاستيعاب وجود معارضة فاعلة، قادرة على ممارسة حقها في النقد والرقابة والمحاسبة بشكل مفتوح، او توفرها على وسائل تمكنها من محاسبة الوزراء والمسؤولين امام جهات قضائية مستقلة اذا ما تقاعسوا في اداء عملهم. بل لم يعد امراً مستغربا سماع تصريحات من بعض المسؤولين والوزراء بانه ‘ليس لدينا معارضة والحمد لله’. وتعتبر الانظمة السياسية التي تتوارث الحكم من أشدها تحسسا لمقولة ‘المعارضة’ التي ترى فيها تهديدا لسيادتها، وتشم منها رائحة ‘البديل’ لحكمها. كما لم يعد مستغربا التعايش مع فكرة ‘الحكومة الدائمة’ او ‘نظام الحكم الخالد’ الذي لا نهاية له ولا يمكن ان يتغير او يسقط او يتنازل، فكأن القائمين على هذه الانظمة يعتقدون بانهم وحدهم المخولون بالحكم وان لا حق لأحد منازعتهم في ما هو ‘حق أبدي’ لهم. وثمة مقولة تنسب للمأمون العباسي حول أحد الصالحين: ‘والله يا بنيّ انه لأحقّ بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لاخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم’. عقلية الاستحواذ بالملك والسلطة هي التي تدفع البعض ليس للتمادي في الاحتفاظ بها فحسب، بل للتفاخر والامعان في اظهار العظمة بالبذخ والسطوة. وبسبب حب السلطة وعشق العظمة، أضفى البعض على انفسهم ألقابا لا تليق الا بالله احيانا، وحول بعضهم نظام حكمه من امارة الى ‘مملكة’ فأصبح يتبجح بلقب ‘ملك’. ولذلك فهناك عدد من الامور لا يقبل بها هؤلاء منها: اولا انهم لا يستسيغون فكرة التغيير والتداول على السلطة، ثانيا: انهم يرفضون وجود ‘معارضة’ تبدي اعتراضا على سياساتهم او تصرفاتهم وتطالبهم بالتخلي عن موقف او رأي او قرار. فاذا قالوا فعلى الآخرين السماع والتنفيذ. ثالثا: انهم لا يقبلون مبدأ المحاسبة الى الدرجة التي يفرضون في دساتيرهم نصوصا تمنع المحاسبة او المساءلة وان ‘ذات الحاكم مصونة’، اي بعيدة عن النقد والاعتراض. رابعا: انهم فوق القانون والسلطات، ويحققون ذلك من خلال نصوص دستورية وقانونية تمنع أيا من المواطنين الاعتراض على الحاكم او محاسبته على اي من قراراته. خامسا: ان فترة حكمهم غير محددة بأطر زمنية، يتم تجديدها مثلا، كما هو الحال مع الرؤساء في الدول المتقدمة التي تمنعهم من الترشح للمنصب اكثر من دورتين انتخابيتين (ما بين ثمانية وعشرة اعوام كحد اقصى). الرغبة في الاصلاح لم تغب عن اذهان النشطاء طوال الحقب الزمنية التي اعقبت الحقبة الاستعمارية في الشرق. وقد قدمت التضحيات الكبيرة من اجل الاصلاح، ولكن ما يزال هذا الاصلاح بعيد التحقق برغم ذلك. وقد غصت المعتقلات بسجناء الرأي الذين يحملون او يروجون افكارا مغايرة للانظمة الحاكمة في بلدانهم، واصبح للدول العربية أسوأ السجلات وأكثرها سوادا في مجال حقوق الانسان. ويتحكم في هذه الدول أشد الانظمة استبدادا حتى اصبح هناك تسابق على ضمان صفة أطول الحكام او رؤساء الوزراء او وزراء الخارجية بقاء في المنصب. واذا ما طرح على احدهم سؤال عن سبب تأخر الممارسة الديمقراطية في بلده لا يتردد في طرح جواب من نوع: ان تحقق الديمقراطية في بلد مثل بريطانيا استغرق 300 سنة، فهل تريدوننا ان نحققها بين يوم وليلة؟’ الامر المؤكد ان اي حاكم لا يريد ان يتخلى عن الحكم، سواء كان ديمقراطيا ام مستبدا. ولكن هناك عدداً من الامور التي تجعل التداول على السلطة امرا ممكنا: اولها وجود توافق شعبي على شكل النظام، وان النظام السياسي نابع من الشعب وليس مفروضا عليه. ثانيها: ان التداول ممارسة منصوص عليها دستوريا، في بنود واضحة ووفق آليات فاعلة. ثالثها: وجود ارادة شعبية قادرة على التصدي للحاكم ان اراد الخروج على القانون او الارادة الشعبية. رابعها: تعمق ثقافة الحرية والقيمة الانسانية لكل مواطن، خامسها: تواتر الشعور بالمساواة الحقة بين المواطنين، فليس لأحد حق أكبر او أوسع من الآخرين، وان هناك نظاما يضمن تكافؤ الفرص بين الجميع بدون تمييز وفق اي من خطوط التمايز بينهم. وثمة معوقات امام تحقيق الاصلاح السياسي والتحول نحو الديمقراطية من بينها: اولا طبيعة الحكم الذي اصبح في عالمنا العربي مرتبطا بموروثات تاريخية مرتبطة بالقبلية والعرقية وثقافة الاستبداد الموروثة عبر العصور. ثانيا: وجود رغبة دولية في ابقاء انظمة الحكم في العالم العربي هشة وضعيفة وتابعة للقوى السياسية الغربية المهيمنة لأنها أسهل انقيادا وتبعية لهذه القوى بسبب ضعفها الداخلي واعتمادها على الخارج في بقائها وامنها، ثالثا: ان العالم العربي أصبح في السنوات الاخيرة تحت رحمة التيارات المتضاربة في الاهداف والوسائل. فالمعارضات الجديدة ذات طابع اسلامي ولكن بعضها يتميز بالكثير من التطرف والعنف والاقصاء، الامر الذي ساهم في تعقيد مهمة دعاة الاصلاح والانفتاح. لقد اصبحت هذه الحركات احد اسباب تأخر الاصلاح شاءت ام ابت. فلم تعد هذه التيارات مرفوضة من الانظمة فحسب، بل ان المواطنين اصبحوا اكثر خوفا مما تنطوي عليه دعوات هذه التيارات من اقصاء وتخلف وانغلاق. هناك الآن توافق بين الانظمة الاستبادية في عالمنا العربي على مواجهة دعوات الاصلاح، وتعميق التحالف مع الغرب، والتصدي بشكل جماعي لهيئات حقوق الانسان لمنعها من كشف حقائق الواقع المعاش، والعمل المشترك على الصعيد الدولي لحرمان المعارضين من المنابر الضرورية لايصال رسائلهم الى العالم. وفي الوقت نفسه تعاني المعارضات العربية من حالة من الضعف والشعور بالهزيمة في بعض قطاعاتها والشعور بعدم امكان التغيير في ظل الاوضاع الدولية والاقليمية القائمة. هذا الضعف يفت في عضد النشطاء ويجعلهم اقل حماسا للمشاركة في النشاط التغييري. هناك صراع ايديولوجي آخر بين قيم الحرية والديمقراطية من جهة، وما تنطوي عليه برامج بعض المجموعات الاسلامية التي تحولت الى العنف بدون حدود، واصبحت تستهدف المجتمعات والمواطنين بدون تمييز، واصبحت اكثر تركيزا على التمايز المذهبي والعرقي، وأقل حماسا لمشاريع الاصلاح التي تتبنى الديمقراطية وتدعو لإشراك بقية المواطنين، وأقل وضوحا في ما يتعلق بمفاهيم المواطنة والابعاد الانسانية للاسلام التي تؤطر فعاليات التواصل مع غير المسلمين. وبالتالي اصبح من المشروع طرح التساؤلات عن مدى جدية هؤلاء في اطروحاتهم السياسية ومدى التزامهم بميثاق شرف اصلاحي يروج للممارسة الحرة للجميع بعيدا عن الاعتبارات المذهبية والعرقية. وفي 1992 طرحت في الجزائر مقولة انه لو سمح للاسلاميين بخوض الانتخابات بشكل حر، لبادروا بعد فورهم بالغاء الديمقراطية التي جاءت بهم الى الحكم. قد يكون هذا الكلام اعتذاريا وتبريريا للحملة الشعواء التي استهدفت الاسلاميين في الجزائر، ولكن ما اعقب تلك المقولة من مجازر ضد الابرياء دفع للاعتقاد بضرورة التعقل في اتخاذ القرارات من جهة، ورفض اية خطوة انقلابية ضد الاصلاح واعتبارها خطرا ليس على البلد المعنى بل على المنطقة كلها. ان القبول بمبدأ المساومة على قيم الحرية والعدالة والديمقراطية بدون مقابل واضح، من شأنه ان اضعاف المعارضة وتهميشها وتقوية الاجنحة المتطرفة للحكم، المناوئة لاي اصلاح سياسي. ان المعادلة الشائكة التي تخوضها المعارضات العربية اليوم (وهي معارضات اثخنت جراحا بالاعتقالات الواسعة في بلدان كمصر والبحرين) ليست محصورة بالعلاقة مع السلطات بل مع بقية المعارضات خصوصا الاسلامية منها، وذلك لتوضيح الموقف ازاء العديد من القضايا الجوهرية كالديمقراطية وحقوق الانسان والحرية والشراكة السياسية. والواضح ان دخول المجموعات المتطرفة على خط المعارضة بالشكل والمدى الواضحين اصبح احد معوقات تجربة النضال من اجل الديمقراطية في العالم العربي. مطلوب فك الارتباط بين ايديولوجية تلك المنظمات والمطالب السياسية التي تهدف لاظهار البعد الاسلامي والحضاري في ادارة الدولة والمجتمع بعيدا عن التطرف والارهاب والاقصاء من جهة او عن قيم الاسلام والاصالة الفكرية من جهة اخرى. فلا ديمقراطية مع ثقافة العنف والتكفير والقتل على الهوية. ولا ديمقراطية يمكن تحقيقها تحت ظلال السيوف والأسنة، بعيدا عن اساليب الاحتجاج السلمي في تلك البلدان. كما لا يمكن ان يتحول الاستبداد الى الديمقراطية، ولا يستطيع الحاكم الذي مارس الفساد المالي والاداري ان يكون رائدا للاصلاح. واخيرا مطلوب من رموز المعارضة وروادها الاعتبار بما جرى للعناصر الناشطة في اوساطها وكيف تحولت الى ادوات بايدي الانظمة الديكتاتورية بعد ان قبلت بمسايرتها متعللة بالبراغماتية ومقولة امكان التغيير من الداخل. مطلوب منها ان تكون اكثر جدية واصرارا ووضوحا في الاهداف، وعدم استعجال النتائج، وعدم الانجرار وراء الشعارات الخاوية التي تطرحها الانظمة الديكتاتورية، ان الوعي والمبدئية والثبات عناوين النجاح في مسيرة التحول نحو الاصلاح والديمقراطية، فلا تغب عن بال النشطاء.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى