السياسة في ولاية الفقيه
حنا عبود
لم نكن نسمع بولاية الفقيه قبل 1979 ونجاح ثورة الخميني، فقد أطلق هذا المصطلح عندما وضع الدستور وصار مثار جدل بين المسلمين، فلم يلق حتى اليوم إجماعاً من الشيعة. كنا نسمع بالفقيه العادل، وهو محصور بدائرة خاصة هي دائرة أتباعه فقط، ولا يجوز تعميمه حتى لا يختلط الأمر على المسلمين بينه وبين الأئمة المعصومين. ومن هنا يتخوّف بعض الشيعة من هذا المصطلح، الذي قد يؤدي إلى قيام مساجلات لا حاجة إليها في شرق أوسط ملتهب.
المصطلح مصلحة وسياسة ترمي إلى هدف معين، فهناك سياسة وراء هذا المصطلح الذي أطلقه الخميني، بعد أن راقب ودرس الصراع في الشرق الأوسط. والمصطلح ليس ابن وقته كما قد نظن. ونعتقد أن تجربة الإمام موسى الصدر كانت من أكبر الممهدات.
في عام 1968 اجتمع موسى الصدر ساعات طويلة مع الرئيس الجريح من جراء حرب الأيام الستة جمال عبدالناصر. وكان الاجتماع مصارحة كاملة حول الشرق الأوسط، لأن الأحداث منذ ذلك الوقت تدل أن هناك سيناريو جديداً لإعادة ترتيب الشرق الأوسط. أدرك عبدالناصر أن أميركا 1967 ليست أمريكا 1956. اليوم أمريكا لم تطلب من إسرائيل التخلي عما احتلته بالقوة، كما حدث من قبل في أزمة قناة السويس. إذن هناك مشروع أحجام جديدة ومهمات جديدة في الشرق الأوسط. فلا بد أن تكون القضية المركزية هي القضية الفلسطينية، فاتفق الرجلان على أن تنشأ مقاومة جديدة ضد إسرائيل في جنوب لبنان، لأن ولادة هذا المشروع الشرق أوسطي ستكون في لبنان (وقد أعلنت رايس بعد أربعين عاماً أن الشرق الأوسط الجديد سيولد من لبنان). وكان عبدالناصر يدرك أن خسارة هذه القضية المركزية في الشرق الأوسط، يعني خسارة كل شيء. وكان الصدر يرى أن قضية إسرائيل ليست قضية أرض، فهناك الكثير من الأراضي التي كان يقبل بها الإسرائيليون، من أمثال جنوب أفريقيا وكاليفورنيا وألمانيا نفسها، وإنما القضية هي قضية شرق أوسط كبير، والتغيير بدأ في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما استثنت بريطانيا فلسطين من حكم الشريف حسين، وجعلت ابنه على الأردن فقط. فالحل يأتي على مراحل، وبأدوات مناسبة، وخير أداة بيد الغرب لتغيير الشرق الأوسط هي إسرائيل. ولولا هذه المهمة لكان لها وجود آخر.
وفي اتفاقية القاهرة انتقل الفلسطينيون إلى جنوب لبنان، وأخذت معالم ترتيب وطني جديد تظهر، فقد أنشأ الصدر مجلساً أعلى جمع فيه رجال الدين من مسيحيين ومسلمين وعلمانيين من شتى الأنواع، وبالأخص من اليساريين. ولإسقاط مشروع المقاومة كان لا بد من تغيير النظام في مصر والخلاص من الصدر في جنوب لبنان. وقد حصل ذلك بعد موت عبدالناصر المفاجئ، فانتقل النظام المصري من مكان إلى مكان آخر. وراح الصدر يبحث عن «عبدناصر» جديد، فوجد ذلك في ليبيا، وأعاد النشاط لمنظماته، وسارت الأمور كما يتمنى. وفي عام 1978 تخلصوا من الصدر بتغييبه (؟).
بعد غياب الصدر بعام واحد انتصرت الثورة في إيران، وكان الفلسطينيون من أهم مؤيديها والعاملين النشيطين على إنجاحها، وقد قاموا بأعمال هامة جداً في النضال. وبعد النجاح ظهر مصطلح «ولاية الفقيه» وكان الخميني أول من تولى هذه المهمة. وإلى جانب ولاية الفقيه أنشئ «مجمّع تقريب المذاهب» كما كان هناك مجلس خاص يشرف على سياسة الفقيه، إلى جانب العديد من مؤسسات ضبط الأمور. فمن جهة ضبط الشيعة، الطائفة المستعصية على الضبط، نظراً لما فيها من تنوع، ففيها اليساري واليميني والحداثي والمحافظ والتقدمي والرجعي، فيها الشيوعي والقومي والبعثي والرسام والشاعر والفنان… فيها تنوّع كبير. ويكون الضبط عن طريق ولاية الفقيه، بينما يعمل «مجمع تقريب المذاهب» على ضبط الإيقاع الإسلامي، حتى تكون القضية المركزية هي المتصدرة، وحتى لا تكون هناك قضايا جانبية تؤثر على الموضوع الأساسي. ولهذا أسرع الخميني وهدر دم سلمان رشدي، لتصويره عائشة بما يزعج المسلمين. فالحرص على جمع السنة في نضال واحد مع الشيعة، لا يقل أهمية عن جمع الشيعة في ولاية الفقيه. وبما أن تغيير الشرق الأوسط يبدأ من فلسطين على يد إسرائيل، فلا بد من التركيز على إفشال هذه المحاولة، لأن نجاحها يعني أن يكون هناك عدد كبير من الدول الصغيرة، أو الجزر المبعثرة، المتقاتلة بل المتحاربة، بحسب أنواء السياسة الغربية. بعد غياب الصدر بأربع سنوات تقريباً بدأت تأثيرات ولاية الفقيه تظهر في جنوب لبنان. والغرض جمع الشيعة حول قضية أساسية، وتوجيههم إلى نضال مشترك مع السنة ضد المشروع الغربي. ولكن ماذا تفعل ولاية الفقيه في مثل هذه الحالة؟ هل هي قيادة عسكرية؟
ولاية الفقيه ناحية شرعية لا تتدخل في السياسة المحلية، وإنما تقدم التكليف الشرعي لأي عمل يقوم به الشيعة المنضوون تحت ولاية الفقيه. فإذا أرادوا إنشاء جمعية خيرية، فإنهم يتقدمون بمبادئها إلى ولاية الفقيه، فتدرس إن كانت ترضي الله، ولا تستفز المذاهب الأخرى، وعندها يصدر تكليف شرعي بإنشائها. وعندما يريدون الإقدام على تبني سياسة معينة، فإن ولاية الفقيه تصدر دراسة إن كانت هذه السياسة متفقة مع الدين أو مخالفة له… حرصاً على تجنب الاصطدام بالمحيط السني الكبير.
تقوم ولاية الفقيه بتوجيه كل الجهود لإسقاط المشروع الذي أراد عبدالناصر والصدر إسقاطه. إنها قضية وجود أو لا وجود. ومهمة «مجمّع التقريب بين المذاهب» دراسة هذه الناحية بدقة وإعلام ولاية الفقيه بالمخاطر التي قد يحدثها هذا التصرف أو ذاك، أو بالنواحي الإيجابية التي يحققها، قبل أن يصدر التكليف الشرعي. إن ولاية الفقيه لا تنشئ حزباً، بل تنظر في الحزب الناشئ إن كان فيه ما يزعج المذاهب الأخرى، وبعد ذلك هو حرّ فيما يخطط ويتصرف. وبما أن مشروع الشرق الأوسط هو النقطة المركزية التي يناهضها الشيعة والسنة، فإن أي حزب يظهر لا بد أن يجعل همّه الانخراط في النضال ضد هذا المشروع الجامع، الذي ظهرت معالمه في اجتماع الصدر وعبدالناصر، وإلا انخرط في حرب مذهبية مع السنة، وهذا ما تخشاه ولاية الفقيه وتعمل بحرص شديد على تجنبه. وولاية الفقيه تدرك أن الشيعة وحدهم لا يستطيعون إسقاط مشروع الشرق الأوسط . إنهم بحاجة إلى السنة وغير السنة، فالمشروع أكبر من طاقة الشيعة بكثير.
ولاية الفقيه استمرار للسياسة الصدرية، بطريقة أخرى. وهي سياسة خطيرة على المشروع الأوسطي، ولذلك عمد هذا المشروع إلى إنشاء منظمات ومواقع إنترنت وفضائيات شيعية وسنية لضرب هذه السياسة وتفتيت عناصرها، والوصول إلى الفتنة التي تخدم المشروع، وتحبط النضال ضده. وقد نجحت ولاية الفقيه في جرّ الكثير من العناصر إلى النضال لإحباط مشروع الشرق الأوسط، من ناصريين وإسلاميين وشيوعيين وقوميين وبعثيين ومستقلين… من كل المذاهب والعقائد السياسية.
نرى أن ولاية الفقيه سياسة وليست ديناً. إنها طريقة في الإدارة لإسقاط مشروع الشرق الأوسط، وهي متابعة لما انتهى إليه اجتماع عبدالناصر/ الصدر.
كاتب من سورية