منظر ‘الهوائيات المقعرة’ يزعج الرئيس وضرورة الدراما الرمضانية كذبة كبيرة
توفيق رباحي
نحن في رمضان الفضيل. كل عام وأنتم بخير. أعاده الله على هذه الشعوب والمجتمعات وهي أقل هوسا بالشاشات وشفاها من إدمان المسلسلات السورية والمصرية والتركية وما ملكت ايمانكم.
أقول هذا منطلقا من الاعتقاد السائد بأن هناك مشكلة كبرى اسمها الاستهلاك التلفزيوني في شهر رمضان، ما جعل منتجي ومسوّقي السلع التلفزيونية، من هذه اللحظة، ونحن في أول أيام رمضان، يفكرون في رمضان المقبل. هذا تفكير تجاري واقتصادي سليم، لكنه منطق أخلاقي وثقافي واجتماعي غير طبيعي، بما أننا ننظر الى التلفزيون باعتباره أداة تثقيف وتربية ومنبرا سياسيا، لا كمؤسسة تجارية يحب صاحبها أن يربح وتخيفه الخسارة.
في مكان ما وزمان ما حدث ان أطلق واحد أو جماعة تصورا بأن المشاهدة التلفزيونية ترتفع في شهر رمضان الى نسب قياسية. ثم انتشر هذا الاعتقاد وأصبح قاعدة مسلما بها من المنتج والمستهلك على حد سواء. يركض الأول معتقدا أنه إذا لم يسوّق انتاجه في رمضان فلن يسوّقه أبدا، ويحرص الثاني على أن يكون في الموعد متوهما أنه إذا لم يشاهد منتوجا ما في رمضان فقد فاته الكثير. طيب، ماذا لو قلبنا هذه الصورة رأسا على عقب وحاول أحدنا دحض هذه المسلّمة؟ لنبدأ بالقول ان شهر رمضان ليس هو ذروة الاستهلاك التلفزيوني لأسباب عدة منها: ـ لم يثبت علميا أن نسبة المشاهدة ترتفع في رمضان. لا أعرف محطة تلفزية عربية نشرت أرقاما عن مشاهديها، زيادة أو نقصانا، في رمضان أو في شعبان. كل ما هنالك لوبيات من الجورنلجية وكتبجية الانترنت أوهموا الناس، بقصد أو بدونه، بأن رمضان هو أفضل فرصة لمشاهدة التلفزيونية. يعني كذبة انطلت على الجميع وبدأ السباق: ـ هذه السنة بالخصوص سيكون يوم الصائم طويلا وشاقا لا قدرة حقيقية له على التركيز في ما تبثه الشاشات.
ـ حرارة الجو في منطقة مثل الخليج والشرق الأوسط، وبدرجة أقل، شمال افريقيا، تجعل الناس، خصوصا الذكور، يغادرون البيوت بعد الإفطار والبقاء خارجها بعد صلاة التراويح بحثا عن سمر ممنوع في النهار وفي جو ألطف ليلا. ربما سيكون التعويض في المستهلكين المهاجرين المقيمين بدول أوروبية. فهؤلاء، وبسبب نمط الحياة الغربية وغياب الطقوس الرمضانية الاجتماعية، يبقى أغلبهم في البيوت. لكن عدد هؤلاء قليل قياسا بطموح المنتجين والمحطات التلفزية، علاوة على أن هناك مشكلة تضارب الوقت مع دول المشرق العربي والخليج (زائد بالنسبة لأوروبا ومتأخر بالنسبة لأمريكا) يجعل وزن المشاهد في المهجر غير حاسم. ـ في هذا الشهر بالذات تحدث مصالحة بين المشاهد وقناة بلاده المحلية على حساب القنوات الكبرى التي تحتكر السلع التلفزيونية التي يُعتقد أنها الأفضل والتي ستلقى الاقبال الأكبر. يحدث هذا بغض النظر عن رداءة القنوات المحلية خلال بقية أيام السنة، بل وفي رمضان أيضا، رغم أن ما يُعرض بهذه القنوات لا يخرج عن المألوف من مقالب الكاميرا المخفية وبرامج الطبخ والتمثيليات الفكاهية المحلية (كلها وسط تزاحم كمّ هائل من الإعلانات التجارية). إذن، في رمضان تصبح لمحطات بائسة مثل الليبية والجزائرية والسعودية واليمينة وغيرها جمهور وإقبال. ـ أغلب السلع التلفزيونية التي يراهن أصحابها على أنها ستضرب السوق عاليا، تُبث قبيل الإفطار عندما تكون المرأة مدفونة في المطبخ تعدّ ما ستلتهمه معدة رجل يكون هو الآخر يتلوى جوعا وعطشا في سريره أو في الصالون، محاولا قتل ما تبقى من دقائق أو ساعات نائما. والأخرى تُبث بعد الإفطار تزامنا مع مواعيد الصلاة وأوقات السمر خارج البيت. علما أن التجار التلفزيونيين يراهنون على الزبائن الرجال بقدر رهانهم على النساء.
ـ تزاحم السلع التلفزيونية في كتلة ساعية ضيقة تبدأ قبيل الإفطار وتنتهي بعده بنحو ساعتين، على أبعد تقدير، يجعل مشاهدة مادة أو سلعة جيدة وقيّمة كالاستماع الى قطعة موسيقية جميلة بمحطة باصات في الجزائر العاصمة ذات مساء رمضاني. ـ دخول الاعلانات التجارية على الخط يزيد الأمور سوءا ويجعل المشاهد الحدق (لو قليلا) يشعر كأن المعلنين يقتحمون بيته رغما عن أنفه. هذا من حيث الشكل. ومن حيث المضمون يجعله يشاهد مادة تلفزيونية ممزقة تمزيقا مسيئا له ولها ولأصحابها، مجردة حتى من أبسط الحقوق الأدبية والمعنوية المتعارف عليها مثل العناوين والتواريخ وأسماء المشاركين والمنتجين. وبعد.. هل هناك محطة تلفزية تعدنا بنشر أرقام عن نسبة المشاهدة في رمضان بعد انقضائه؟ خبر عاجل خبر عاجل: أوردت صحيفة جزائرية الأربعاء الماضي أن وزير السكن أبلغ مساعديه أن فخامة الرئيس بوتفليقة لا يحب منظر صحون التقاط البث التلفزيوني فوق سطوح وشرفات الابنية الجزائرية. وقال الوزير ان فخامته أسرّ له بأن منظر تلك الصحون يزعجه وأمره بأن يجد لها حلا. وزادت الصحيفة أن الوزير بدوره أمر مساعديه في الولايات كي يجدوا حلا لهذه المشكلة.
كان على الوزير أن يبلغ فخامته أن تلك الصحون (التي يسميها الصحافيون الجزائريون ‘الهوائيات المقعّرة’ رغم ما في الكلمة من بذاءة) إشارة جيدة على علاقة الثقة الجميلة والمتينة بين الجزائريين وتلفزيونهم، ومن خلاله سلطات بلادهم. بيد أنه فضّل الصمت واثقا في ذكاء وحنكة الرئيس الذي لا تفوته شاردة أو واردة.
كانت هناك دائما شكوك في أن منظر تلك الصحون، المنتشرة فوق القصور الفارهة وبيوت الصفيح على حد سواء، والتي تكاد تحجب ضوء الشمس (مثلما توضح الصورة)، سيء ومضر بالذوق العام. لكن طالما أنها أزعجت فخامته، فهي حتما بشعة ومزعجة ويجب التخلص منها فورا.
من نافلة القول ان نزع تلك الصحون أهون وأقل كلفة من برنامج وطني لمحو الأمية أو محاربة تهريب المخدرات. لهذا لديّ اقتراح/صفقة في مصلحة الجميع: أعيدوا للجزائريين تلفزيونهم يعيدون لكم سطوح وشرفات العمارات. الطبيعة الساحرة بالصدفة شاهدت الأسبوع الماضي قليلا من ‘تحقيقين’ بالتلفزيون الجزائري عن السياحة بمدينة وشواطئ بجاية الواقعة بمنطقة القبائل. عندما ترى ‘التحقيقين’ تفهم لماذا يجوب منطقة المغرب العربي بين 8 و10 ملايين سائح سنويا ولا يتجاوز نصيب الجزائر منهم واحدا من مئة. هذا عدا عن أن ‘التحقيقين’ بُثّا في آخر الصيف، أي بعد أن عاد الناس الى بيوتهم ومواقع عملهم. فالترويج للسياحة بالجزائر ما زال يتم، عبر التلفزيون باعتباره أقوى وسيلة ترويجية، بواسطة تحقيقات تبدأ وتنتهي بالكلام عن ‘المناظر الخلابة التي وهب الله بها المنطقة’، و’الطبيعة الساحرة’ و’الشواطئ الفريدة من نوعها في العالم العربي وافريقيا’.
لا أذكر أنني سمعت أو شاهدت في حياتي بالتلفزيون الجزائري كلاما واقعيا وعلميا واضحا عن السياحة من نوع: هناك كذا فندق بكذا كلفة تكلف الفرد كذا والعائلة كذا.
صحيح ان كثيرا من المنشآت السياحية فقيرة وبائسة قد لا يجد صحافي تلفزيوني ما يصوره أو يقوله عنها. لكن مهما كان الحال، لا أعتقد أن إغراء السائح الأجنبي والجزائري يتحقق بالطريقة التي نشاهدها. إذا كان الله أدى ما عليه ووهب البلد كل ذلك السحر والجمال الطبيعي، الدور عليكم أنتم، أرونا ما أنتم فاعلون إذا لم يكن تخريب هبة الله.
كاتب من أسرة ‘القدس العربي’