صفحات أخرى

الدرامـا التركيـة: المكبوت العربي بأصوات الآخرين

ماهر عكيد
الدراما التركيّة ليست بالجديدة علينا ولا بالغريبة أيضاً، أضف إلى ذلك الموسيقى التركيّة التي تشارك الموسيقى العربيّة والكرديّة كمستمعين لها، وذلك لطبيعة سكنانا، وتواجدنا في منطقة المثلث الحدوديّ السوريّ العراقيّ التركيّ، فالسينما التركيّة كانت متابَعة عندنا في المنطقة، في تسعينات القرن الماضي أكثر من الدراما السوريّة وحتى الدراما والسينما المصريّة، وذلك قبل ظهور الديجيتال والستلايت في المنطقة ككلّ، وعدم توافر الفضائيات التي أصبحت الآن تبثّ المسلسلات السوريّة والمصريّة والخليجيّة بكثافة، حيث كان الاعتماد وقتذاك على أجهزة خاصة تجعل من القنوات التركيّة متوفرة بسهولة فضلاً عن بث تلك القنوات الأفلام الإباحيّة كذلك لغايات هي أدرى بها، وكانت تنحصر المتابعات على أفلامٍ لإبراهيم تاتليسس الرومانسيّة، وجنيد أركان القتاليّة، وشعبان الكوميديّة، رغم المعرفة القليلة باللغة التركيّة، إلا أن مضمون الأفلام تلك كانت تفهم من خلال المتابعة، كما لم تكُن تبتعد الأفلام التركيّة تلك عن الأفلام الهنديّة، المبالغة كثيراً في رومانسيتها وفي الجانب القتالي الذي كان لا يبقي على شيء ولا يذر، كما لم تكُن تبتعد أيضاً في دراماها وسينماها عن الدراما السوريّة الحاليّة في تشابهها، من ناحية المضامين المطروحة، والتي أصبحت تخدم الجوانب التجارية نوعاً ما، كعرض موديلات وأنواع السيارات الحديثة والفخمة، وموديلات الألبسة المغرية، كما تظهر الطبقات الراقية في المجتمع السوري والتي تختزل الطبقات كافة فيها، طبعاً هذا لا يعني، أننا ننسف الدراما السوريّة من جذورها، فهي المشهود لها بالنجاح أيضاً في الكثير من القضايا الإشكاليّة المطروحة على الساحة، والتي لا تخفى على أحد.
مسلسلات
ما أنا بصدد الوصول إليه والحديث عنه، الدراما التركيّة المختزلة حالياً بمسلسلي »سنوات الضياع« و»نور«، واللذين أخذا صداهما ومداهما، حتى عمّا أرجاء المجتمعات العربيّة كافة.
هذان المسلسلان يعرضان حالياً على شاشات »إم بي سي«، وسيعرضان لاحقاً على فضائيّات عدة، كما درجت العادة عند الفضائيّات العربيّة، كنوع من أنواع الاجترار، وسيستمرّ العرض إلى أن تنتج مسلسلات أخرى وتحلّ محلّها.
أستطيع أن أشبّه هذه الهبّة التي أتت من الخارج التركيّ بالوباء الذي شلّ العقول، فسيطر على الجسد، وغبّش على العيون، وأدّى إلى ما أدّى إليه من حال المجتمع أو الأصحّ المجتمعات العربيّة بأكملها، كون الدبلجة هي إلى اللغة العربيّة واللهجة السورية الشاميّة الأنثوية تحديداً (إن جاز التعبير)، حيث يكون الإقبال عليها أكثر، لما فيها من انجذاب، فالأصوات الشاميّة في الدراما السوريّة باتت معروفة ومألوفة لدى المشاهد، فيربط بالتالي بين هذا الصوت أو ذاك في مسلسلي »سنوات الضّياع« و»نور«، ليستحضر أمام عينيه صاحبة الصوت، فالجمال السوريّ جذّاب وأخّاذ، وهذا جزء من انهمام المشاهد بهما، وأيضاً لما تضخّه الدراما السوريّة من إنتاجٍ للمسلسلات، حتّى غطّت كلّ الفضائيّات العربيّة، وأخذت منها حصّتها، وبالتالي قربها ودخولها بيوت وقلوب المجتمع العربيّ.
من خلال متابعتي لهذين المسلسلين »سنوات الضّياع« و»نور«، رغم المتابعة القليلة لهذا الأخير، لم أجد حقيقة تفسيراً مقنعاً يجعل من المشاهد أن ينهمّ بهما إلى هذا الحدّ، وبالتالي يأخذان منه مساحة ليست بالقليلة من وقته، ويحتلاّن حيّزاً كبيراً من تفكيره، أمّا حقيقة الأمر، ففي هذين المسلسلين هناك مخاطبة للمكبوت في نفوس المجتمعات العربيّة، وبالتالي إثارة ذلك المكبوت والذي يصبح مهيّأً للخروج إلى الواقع، كتنفيس نوعاً ما عن رغبات تحاول أن تتحقّق، وتجد لنفسها مكاناً في الحياة الواقعيّة، لذا فهما يحققان نوعاً من التنفيس عن كلّ ما يتمنّاه المرء ويطمح فيه، من خلال المَشاهد التي تستثيره، وتجعله ينقاد وراء أدقّ التفاصيل في المسلسلين، إلى درجة تماهي المشاهد مع شخصيات المسلسلين، عبر تلك الشاشة الصغيرة، والتي تريحه بالتالي من ألم اصطدامه بالواقع، الذي يواجهه ما إن تنتهي تلك اللحظات، وتجعله يسرح في عالم الوهم والخيال، يمنّن نفسه، يحلّق عالياً تاركاً وراءه سبب انهمامه بهكذا مسلسلات، التي من مهامها إلهاؤه، وبثّ ما تريده في عقله، ثمّ لا تلبس أن تتلاشى تلك الأحلام والأوهام، وخاصة تلك التي تتعلّق منها بالحياة الزوجيّة، والتي تكون عكس ما تكونه في المسلسل، فكل واحد يتمنّى أن تحبّه زوجته أو حبيبته كما تحبّ نور مهنّد، وكما تحــبّ لميس يحيى والعكس، ويريدون تفصيل بعضهما البعــض على شاكلة أبطال المسلسلين، وإن لم يكُن ما كانوا يريدون كان الخلاف والطلاق، هذا ما تفسّره حالات الطلاق المتكاثرة.
نحن نعاني من حالة نفسية معقّدة معتّقة تعاقبت عليها العقود، فهذا هو حال الإنسان المقهور وحال المجتمعات المقهورة، لأنّه بدون أدنى شكّ سيكون غاصّاً في مستنقع التخلف الاجتماعي، فالذي يعاني قهراً يمارسه من خلال تماهيه مع الآخر، الآخر الذي زجّه في قفص القهر وكان سببه، فالعواطف والآمال وتلك الأحلام الوردية، تبقى دائماً قابعة في أعماق النفوس المريضة، وتبتعد في الحالة هذه تبتعد عن ساحة الشعور لتلتجئ وتكبت في أماكنها المهيّأة لها، منتظرة الفرج. (أحيل القارئ إلى كتاب »التخلّف الاجتماعيّ ـ سيكولوجية الإنسان المقهور« لمصطفى حجازي).
أمّا فيما يتعلق بمضامين هذين المسلسلين، فهي لم تكُن أساساً، لتعرَض في البلاد العربيّة وحدها وتخلخل لهم نظام حياتهم، وتوقظ ذلك المارد القابع في أعماق النفوس المقهورة تلك والمسمّى بالمكبوت، بالتالي جذبهم من خلال مسلسلاتها للسياحة التركيّة التي نشطت نشاطاً لا يُتصوَّر، والتي لم تكن تتوقّعها تركيّا أساساً، فالحقيقة التي لا تخفى على أحد هي أنّ الطبيعة التركيّة جذّابة تتمثل بمناظرها الجميلة، جمالها الخلاّب، جمال البحر، السهول، الجبال، أمّا الحقيقة الأخرى والتي لا تخفي حقيقتها، هي أنّ هذين المسلسلين أنتجا وأخرجا ليكونا رسالات موجهة للغرب الأوروبي، من خلال طرح وعرض المبادئ والعادات الأوربيّة والتي تبتعد كثيراً عن مبادئ وعادات المجتمعات الشرقيّة، والتي كتبت بذكاء وبراعة، لتجد سبيلها إلى مرضاة الغرب المتمثل بالاتحاد الأوروبيّ، فهي مخاطبة غير مباشرة لهم لتلبّي تلك المخاطبات المسارعة في استجداء الغرب للدولة التركيّة »العلسلاميّة«، وبالتالي ترضى عنهم، من خلال تطبيق مفاهيمهم ومبادئهم، والتأكيد على رغبتها من خلال تكرار مشاهد الجسر الإسطنبولي، بوّابة تركيا إلى الاتّحاد الأوروبيّ ومربطها بها، فنجد في المسلسلين مثلاً العلاقات والصداقات الأوروبيّة والتي تنتج أطفالاً غير شرعيّين، »مسلسل نور على وجه الخصوص«، معاقرة الخمر والتشجيع عليه شيباً وشباباً، الابتعاد عن الاحتشام، وهذا ما ينافي المجتمعات الشرقيّة، وإظهار الطبقات الراقيّة في المجتمع التركيّ وكأن تركيا ككلّ هي هكذا تشابه مضامين المسلسلين، يحيى ولميس وما بينهما، نور ومهند وما بينهما، الشركات، إظهار المافيا التركيّة والتي تكون كل واحدة على حدة وكأنها دولة، تقتل، تدمّر، تستفز، تهدد، تبيد..إلخ.
طبعاً لا نستطيع أن ننسف الجانب الآخر والمتمثل بالطبقة الفقيرة، والتي تعطي الفكرة والصورة الواضحة عن بساطة تلك الأحياء في المجتمع التركيّ والمعروض في سنوات الضياع تحديداً، هذه الطبقة رغم بساطتها، إلا أنها تكون هي المنتجة، الخيّرة، المساعدة والتي تظهر مدى التسامح فيها، أي إظهار جانب الخير والشر وانتصار الخير بالأخير، ورغم ذكاء كاتبي المسلسلين وحرصهما على إظهار الجانب العلماني، والوقوف على العادات والتقاليد الأوروبيّة وابتعادهما عن العادات والتقاليد الإسلاميّة، إلا أن المظاهر الإسلاميّة بدت في الكثير من الأحيان كونها متغلغلة في المجتمع التركيّ، وفي المسلسلين، كعادة الختان، الأعياد الإسلاميّة، الخواتم الفضيّة، تقبيل أيادي الكبار، الآيات القرآنية المكتوبة على شواهد القبور.. وغيرها.
والسؤال هنا: مَن الرابح؟ مَن الخاسر؟ مَن جلب هذه الدراما؟ ومَن وراء سبب انهمام المجتمع العربيّ بهما؟ وماذا استفاد منهما ؟ السياحة، الأخلاق، العادات الأوروبيّة، الخلافات العقيمة، الطلاق.
وفي الأخير من المستفيد؟ أسئلة تطرح نفسها لتجد أجوبة لها أو لا تجد..
(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى