صفحات سورية

المتروبول الدمشقي: حين تصبح السياسة أرفع

null
جهاد الزين
هل تستطيع البورجوازية الدمشقية، وهي التي كانت ولا تزال “ام الصبي” في مشروع “الاستقرار” المديد البادئ عام 1970 بقيادة نظام الرئيس حافظ الاسد، هل تستطيع، قبل غيرها، ان تقبل فكرة انتقال العاصمة (الادارية) للجمهورية العربية السورية الى منطقة ابعد نحو الوسط بين بلدة النبك ومدينة حمص كما يقترح المهندس “وضاح صائب” في مقاله الذي نشرناه امس في “قضايا النهار” نقلاً عن صحيفة اسبوعية سورية… وتحت شعار انقاذ مدينة دمشق من ازماتها الناتجة عن توسعها الهائل في العقود المنصرمة وارفقناه بمقدمة سريعة تشير الى ان الروائي الكبير الراحل نجيب محفوظ كان قد اقترح في احدى سنواته الاخيرة – وطبعاً بسبب توسّع القاهرة الخانق جداً – نقل العاصمة المصرية منها الى مدينة جديدة يجري استحداثها.
الفكرة – الجنين جريئة لا شك ولكن الاهم انها نابضة بالحداثة كمشروع انقاذي لمدينة دمشق، احدى اقدم مدن التاريخ، والمدينة العربية ذات الشخصية الحياتية الثقافية العمرانية التي لا تزال قائمة وسط “الميغا دمشق” المتوسعة بشكل ضخم وفي بعض الاتجاهات بشكل عشوائي.
واذا كانت فكرة الانتقال نحو الشمال (الغربي) قبل حمص ودائماً على سفوح امتدادات سلسلة جبال لبنان الشرقية هي فكرة طبيعية جداً لان موقع دمشق على الخارطة السورية هو عملياً في اقصى الجنوب الغربي من الكيان السوري وامكانات الانتقال، اياً يكن شكل هذا الانتقال، الى عاصمة ادارية اخرى، لا يمكن تصوره الا نحو الشمال الاوسط لان الشريط الجنوبي ضيّق جداً (قرب الحدود مع اسرائيل) والجنوب الشرقي (نحو الحدود مع الاردن) اما الشرق فتمتد عليه كما هو معروف الصحراء السورية الكبرى التي تحاذي كل خط المدن التاريخية من دمشق فحمص فحماه فحلب، في حين يتميز الخط الطويل بين دمشق الى ما قبل حمص بقليل بمحاذاته من الغرب لامتدادات سلسلة جبال لبنان الشرقية، المعروفة باسم جبال القلمون.
دمشق الحالية الكبرى تجمّع باطوني هائل بات يضم بين اربعة ملايين ونصف مليون نسمة وخمسة ملايين نسمة. كل ذلك خلال خمسة عقود انتقلت فيها هذه المدينة من اكثر قليلاً من نصف مليون نسمة الى ما هي عليه الآن حتى ان بعض التقديرات يذهب الى اعتبارها بحوالى ستة ملايين مقيم. كل هذا رغم الجهود الكبيرة التي بذلت وتبذل للاحتفاظ بالحارات والاسواق العثمانية (وحتى المملوكية) المحيطة بالجامع الاموي كما بالامتدادات الكلاسيكية لمرحلة الانتداب الفرنسي وبعض الاحياء الجديدة للاربعينات والخمسينات بما فيها بعض احياء المزة الغربية والشرقية الناشئة منذ الستينات. هكذا حتى مع النجاح النسبي الذي حصل في وقف تآكل الغوطتين الباطوني فإن “الميغا دمشق” باتت متوسعة في الغرب والشمال الغربي (نحو قاسيون) والى الشرق والخط الجنوبي الشرقي (على طرق المخيمات والسيدة زينب) باحجام ضخمة جداً لا يعود معها طرح فكرة نقل العاصمة طرحاً مستهجناً.
لنستعرض بعض التجارب خلال القرن العشرين من نقل العواصم:
اسطنبول بقيت دائماً منذ العام 1923 العاصمة الاقتصادية بل تزايدت اهميتها مع الوقت كعاصمة اقتصادية اعلامية ثقافية رغم وجود انقرة العاصمة السياسية للجمهورية منذ البداية. بل حتى ان اسطنبول عانت ايضاً ولا تزال من ضخامة الامتداد الباطوني العشوائي سواء على جهتها الآسيوية التي تعودت استقبال العمال الريفيين المهاجرين من الاناضول (واحياناً النازحين الهاربين قسراً من حروب الجنوب الشرقي) في حين كفّت احياؤها على الجهة الاوروبية عن استقبال نازحي حروب البلقان ثم الحرب مع اليونان في العشرينات من القرن العشرين لتتحول التوسعات على القاطع الاوروبي خارج المدينة القديمة الى شاهد – دافع للازدهار الاقتصادي التركي منذ الثمانينات المنصرمة، وهذا استوجب محاولة “التقاط انفاس” عمرانية لوقف “اختناق” المدينة القديمة العريقة بدأ العمل عليه منذ التسعينات وحقق نجاحات في منطقة “القرن الذهبي” الشهيرة”.
المثال الاسطنبولي يقدم علامتين متناقضتين:
من جهة هو نموذج لكيفية استمرار مدينة في صدارة البلد رغم انتقال العاصمة السياسية منها الى مدينة اخرى. وهذا عنصر مطمئن بأن صدارة دمشق لن تكون مهددة.
ولكن من جهة اخرى هي ايضاً نموذج على ان مشاكل التوسع الخانقة يمكن ان تبقى رغم هذا الانتقال للعاصمة السياسية. وهذا يعني ان كونها عاصمة اقتصادية ثقافية تاريخية اعلامية لا يجنبها مخاطر التردي العمراني الخطرة اذا لم ترفق بخطط بنيوية على كل المستويات.
كذلك ايضاً هناك مثال كراتشي التي لم يؤثر نقل العاصمة السياسية منها الى المدينة الجديدة كلياً اسلام آباد في صدارتها الاقتصادية وحتى الاعلامية والتربوية لباكستان. كذلك لم يجعلها تتلافى مشاكل التوسع الكبيرة. من هنا ربما يصبح المثال “الآمن” اكثر على نقل العاصمة هو المثال البرازيلي او ربما، ولو في سياق مبكر جداً يجعله غير مطروح للمقارنة، المثال الاميركي الذي جعل من واشنطن بدل فيلادلفيا العاصمة السياسية لـ”الاتحاد” وابقى واشنطن حتى اليوم – نسبياً – مدينة “هادئة” رغم انها عاصمة العالم السياسية، في حين ان “نيويورك” هي المدينة الاكبر وحتى اللحظة لا تزال عاصمة العالم الاقتصادية والثقافية.
***
لا شك ان انتقالاً من هذا النوع سيشكل فرصة إنمائية نوعية لمدن حمص وحماه وحلب. ولربما أمكن التكهن – ولا زلنا في المخيلة – تبعاً للثنائية التاريخية بين دمشق وحلب، ان البورجوازية الحلبية ستجد أيضاً فرصاً أفضل في تعزيز دورها الاقتصادي مع هذا الانتقال نحو الشمال ولو أن الأمر سيبقى في حدود الماية كيلومتر إلى الماية وعشرين كيلومتراً بعيداً عن دمشق اي حوالى ثلث المسافة أو أكثر قليلاً بين دمشق وحلب. لكن ينبغي الانتباه الى أن عهد الرئيس بشار الأسد – بالاختلاف عن عهد الرئيس حافظ الأسد – هو عهد تعزيز “الدور الحلبي” في الاقتصاد كما يلاحظ أكثر من مراقب جدي بالتوازي مع الدور الدمشقي الذي أملت ظروف السبعينات مركزته في عهد الرئيس حافظ الأسد. لكن دعونا هنا نقف عند الاعتبارات الموضوعية لا الذاتية فقط. فإذا كان عهد بشار الأسد بامتياز عهد الانفتاح على تركيا، بل بناء تفاهم استراتيجي مع تركيا بعد طول “عداء بارد” معها أيام والده، أو معظم أيام والده حتى عام 1998 تاريخ إنتهاء الاستخدام السوري للورقة الكردية التركية والمعبر عنه بـ”إتفاق اضنه”… إذا كان عهد بشار هو عهد هذا الانفتاح المتبادل والذي اتخذت فيه الدولة التركية قرارها الاستراتيجي هذا، أي ليس فقط حكومة “حزب العدالة والتنمية” بل المؤسسة العسكرية ايضاً… فإن عودة “صعود” دور حلب، مفتاح الجغرافيا السورية على تركيا، هو أمر طبيعي.
إلا أنه أيضاً – من باب الاستشراف – سيكون هناك مستفيد آخر من هذا الاتجاه الإنمائي نحو الوسط الغربي. انهما الشمال والبقاع اللبنانيان، اللذان يعانيان من مفاعيل غياب الإنماء المتوازن في السياسات الاقتصادية اللبنانية. فالعاصمة (الادارية) الجديدة ستكون أقرب إلى مرفأ طرابلس. صحيح ان مرفأ طرطوس سيكون المرفأ الاكثر استفادة داخل سوريا يليه مرفأ اللاذقية، ولكن القرب الجغرافي، كما احتمال تجديد الميزات التوسطية اللبنانية يمكن ان يجعلا نهوض المدينة الجديدة فرصة فعلية للمرفأ الطرابلسي كما للريفين الساحلي الشمالي والبقاعي الشمالي.
يغريني هذا الموضوع كمراقب سياسي لأنه يشعرني بالحصول على فرصة لمناقشة تحديات المستقبل في العلاقات اللبنانية – السورية على مستوى أرفع من اهتمامات السياسة التقليدية، خصوصاً في زمن تتفاقم فيه سياسات “الدويلات الطائفية” التي تبلورت في لبنان تحت صيغة ما آل إليه النظام الطائفي اللبناني، بحيث لا تغيب فقط الاستراتيجية الاقتصادية على المستوى الوطني من الحسابات الفعلية للنخب الأساسية الحاسمة، بل أيضاً ينشأ نوع من الحسابات البدائية – الفئوية في فهم “التنمية”.
إعادة نقل الاهتمام السياسي إلى ما هو أعلى من السياسة القائمة من نوع التفكير بالمستوى التنموي التحديثي للعلاقات اللبنانية السورية، يعطينا فعلاً فرصة لـ”مخيلة” علاقات من منطق القرن الحادي والعشرين ما بعد الحداثي. ففي أوروبا شهد العقدان الأخيران تطور ما تسميه الادبيات الاوروبية “أوروبا المناطق” أي نوع من تكامل المدن بين مناطق أوروبية عابرة للدول يتحقق فيها نمط من تقاسم الوظائف الاقتصادية الصناعية والخدماتية.
لقد كتبت قبل سنوات بضعة مقالات حول انه يمكن قراءة تاريخ التوترات في العلاقات اللبنانية – السورية بل تاريخ التوترات داخل سوريا من زاوية التخلف التنموي للريف السوري سواء قياساً بالمدن السورية وتحديداً دمشق أو قياساً بلبنان وتحديداً بيروت.
وأي نظرة واسعة الأفق لـ”استقرار” لبنان، لا سوريا فقط، آن الأوان لكي تعتمد على مشاريع استراتيجية تقلب السياق الذي سيطر على تاريخنا الاجتماعي السياسي الحديث في المنطقة كلها الى عكسه: فبدل ترييف المدن، الانتقال عميقاً إلى تحديث بالمعنى غير المسبوق الذي يمكن أن يشكل النقاش الدمشقي احدى نُواه المبدعة.
(alkadaya@hotmail.com
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى