نحـن وإيـران وتـركيـا
علي الشهابي
من البديهي أن لكل من إيران وتركيا مشروعها الاستراتيجي الذي تعمل عليه، برغم اختلاف أسلوب كل منهما في تحقيقه. وهذا الاختلاف نابع من خيارات كلٍ منهما كدولة محكومة بالجغرافيا وبتاريخها الحديث وبطبيعة القوى الدولية المطلوب فرضه عليها، أو إقناعها فيه.
يتكثف المشروع الإيراني بالعمل الدؤوب لجعل إيران قوة إقليمية تفرض على الولايات المتحدة مقاسمتها بثروات المنطقة، ثروات الخليج. وله أداتان، عسكرية وأيديولوجية. ترتكز الأولى على تطوير قوة حربية تفعل فعلها في تصعيب مهمة الولايات المتحدة بضربها عسكرياً، ريثما تستكمل برنامجها النووي الذي يتكفّل بوضع حدٍ نهائي للتهديد الأميركي. وهذا يفسر أسباب تغاضي إيران عن صعوباتها الاقتصادية الداخلية، فجلّ جهودها منصبّ على بناء هذه القوة العسكرية. أما الأداة الأيديولوجية فهي التحريض ضد وجود إسرائيل.
هاتان الأداتان تمزج بينهما إيران على نحو خلاّق عبر الدعم غير المحدود للقوى التي تدعو إلى إزالة إسرائيل بالقوة العسكرية وتعمل عليها. بهذا الدعم نراها تخدم مشروعها آنياً واستراتيجياً: آنياً بإنذار الولايات المتحدة من العواقب الوخيمة على إسرائيل إن قامت بضربها عسكرياً. واستراتيجياً بإثبات أن إيران تعمل فعلاً للقضاء على إسرائيل، ولا تكتفي بتدبيج الخطب كالعرب.
فهذه القوى المسلحة المعادية لإسرائيل، التي ما زالت في طور الدفاع، سرعان ما ستنتقل إلى مرحلة الهجوم لدى انتهاء إيران من برنامجها النووي. وهذا يفسر سعي حزب الله إلى أقصى درجات الهدوء والاستقرار في لبنان، وإلى تكريس الستاتيكو القائم بينه وبين إٍسرائيل. كما يفسر أسباب سعي حماس إلى تأجيل المواجهة مع إسرائيل، لنتذكر أنها منذ فوزها بالانتخابات التشريعية عرضت على إسرئيل هدنة لعشر سنوات.
وبالنتيجة، إذا تمكنت إيران من إكمال برنامجها النووي، فستبرز القوة الحقيقية لهذه القوى التي ستعبئ الجماهير العربية، من الخليج إلى مصر بالحدود الدنيا، ضد إسرائيل والولايات المتحدة عبر خوض الصراع المسلح ضد إسرائيل. هذا الصراع سيخلخل الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة لتصير أمام خيارين: إما الوقوف علناً مع إسرائيل وبالتالي المواجهة مع شعوبها، وإما محاولة ركوب موجة هذا الصراع بشكل ما. وفي كلتا الحالتين ستستفيد إيران.
هذا الوضع سيدفع الولايات المتحدة إلى التفاوض مع إيران، وسنرى وقتها الحدود التي ستقبل بها إيران، ومدى الخلاف الذي قد يحصل بينها وبين هذه القوى التي تدعمها وتلك التي استنفرتها..إلخ.
هذا هو مشروع إيران الاستراتيجي، وهو مشروع واعد إن تمكنت من بلوغ مرحلة الردع النووي التي تناور لبلوغها بشتى الوسائل. ومكاسبها منه تستحق المغامرة وعناء المخاطر التي تعيش في خضمها وتحوم حولها.
على العكس من هذا الأسلوب الذكوري في تحقيق المصالح، أسلوب المخاطر والرعب، أسلوب استثارة الحرب واحتمال الوقوع تحت رحمتها في الوقت الحاضر وفي حال تفاديها الآن شنها مستقبلاً ضد إسرائيل، وتلقّي المنطقة لضرباتها، والويلات التي ستحدث جرّاء هذا الكر والفر، على العكس من هذا الأسلوب الذكوري في تحقيق المصالح، والذي يمكن تكثيفه بأسلوب الفتح، نرى لتركيا برنامجاً استراتيجياً لا يقل طموحاً عن المشروع الإيراني. لها برنامج تحققه بأسلوب أنثوي، هادئ وناعم وسلس، وعلاوة على ذلك مأمون العواقب.
يتلخص مشروعها بالسعي الثابت الحثيث للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، هذا الذي يشير إلى إسدال الستار نهائياً على تخلفها وعلى انفتاح الطريق أمام بداية تماثلها مع العالم المتطور. ليس عندها ما تقامر به أو تخسره، إلا تخلفها. ولهذا تستعجل الانضمام، ولكن ليس بالزعيق والصراخ بل بالعمل الجاد للتطور في كل المجالات. تعمل في ظل العسكر، للخلاص من العسكر.. ونفوذهم يتقلص. تعمل في ظل التطرف العلماني لبناء دولة مدنية، لا دينية ولا معادية للدين، وتقدمت قليلاً في هذا المجال. لكنه تقدم مهم لأنه أخرج الديموقراطية التركية من عنق الزجاجة عندما لم تجرؤ المحكمة الدستورية على حظر حزب العدالة والتنمية في آب الماضي لأنه طرح في البرلمان مشروع قانون يسمح للمحجبات بدخول الجامعات، وصوّت البرلمان لمصلحته. تعمل على بناء دولة مؤسسات، عبر تحديث قوانينها لتنسجم مع القوانين الأوروبية نصاً وسلوكاً. اقتصادها حر منذ أمد بعيد، ويمتلك ناصية التطور، حتى أنها حررت التجارة مع الاتحاد الأوروبي قبل تشكله، مع السوق الأوروبية المشتركة، وظلّ هذا التحرير الساري المفعول مع الاتحاد الأوروبي.
مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي تتقدم، ولو ببطء، فقد فتح لها في تموز من هذا العام ملفين جديدين من مجموع الملفات المطلوبة منها، وهو يدعمها في التغلب على مشكلاتها، وخصوصاً في مواجهة العسكر والتطرف العلماني. ومع ذلك ما زال أمامها شوط واسع لا بد من أن تقطعه، وستقطعه، حتى تصير دولتها ديموقراطية من النمط الأوروبي.
لكنّ المشكلة الأكبر التي تمنع، وستظل تمنع، انضمامها هي المشكلة الكردية. وما لم تحل هذه المشكلة بالشكل الذي يرضى به أكرادها، فلن تنضم قط. وهذا الموقف الأوروبي ليس التزاماً بالقضية الكردية أو بأكراد تركيا، بل لأنهم يرفضون ضم أي دولة فيها مشاكل قومية أو إثنية، لأن ضمهم لها بهذه الحال ضمّ لمشاكلها أيضاً، بما قد تنطوي عليه من حروب أهلية، وهم بغنىً عن هذه الحروب.
بشديد الاختصار، يقول الأوروبيـــون بالفم العريض لتركيا ولكل البلدان التي تحدهم جغرافياً »إن كنتم تريدون الانضمام إلينا، فعليكم أن تكونوا مثلنا«.
وريثما تحل تركيا مشاكلها المتعددة الجوانب لتصير مثلهم، نراها تسعى بالاتجاه العام نفسه الذي يسعون به. هذا ما تقوم لأنه من مصلحتها، إذ لا مصلحة لها، خاصة بها، تفصلها عن مصلحة الاتحاد الأوروبي إلا بقدر ما لهولندا أو فرنسا مصالح خاصة تفصلها عن باقي أعضاء الاتحاد. فمثلاً رعايتها للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل: إنها تحاول المساهمة في حل الصراع العربي ـ الاسرائيلي، ليس كرمى للأوروبيين، لإقناعهم بأهمية دورها الإقليمي عسى أن يضموها إليهم كما يعتقد بعض أيديولوجيينا، بل لأن حله من مصلحتها. إذا كان الأوروبيون حريصين على حل هذا الصراع لأنهم يريدون الاستقرار في منطقتنا، لكونها في محيطهم الجغرافي، فالأولى بتركيا أن تكون أحرص منهم ما دامت ملاصقة لها.
لو كانت ستتزلف للأوروبيين حتى يضموها إليهم لما استقبلت خالد مشعل، في الوقت الذي ترى فيه كل بلدان الاتحاد الأوروبي حماس إرهابية، ولما كانت نافذة سوريا الوحيدة في ظل الحصار الدبلوماسي عليها من العرب والأوروبيين والولايات المتحدة طوال السنوات الثلاث الماضية، برغم كل الضغوط التي مورست عليها. فتركيا الحريصة كل الحرص على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، موقنة تماماً أن هذه الأمور لا تقدم في مسألة انضمامها ولا تؤخر، لأن للاتحاد الأوربي مصلحة اقتصادية كبيرة بانضمامها، ولهذا يساعدها لبلوغ مرحلة الانضمام. أما ماهية هذه المصلحة الاقتصادية الأوروبية وكيف تتحقق، فلا يتسع لها المقام هنا (١).
رأينا أن للإيرانيين مشروعهم الذي يحاولون فرضه في الحياة وعلى الحياة، ويكفيهم شرف المحاولة حتى إن فشلوا؛ وللأتراك مشروعهم الناجح حكماً لأنه ينساب مع الحياة. أما نحن العرب فليس لنا مشروع قومي، يشمل كل العرب، فمثل هذا المشروع مات بالتقادم. وفي الوقت الذي لا تأبه فيه أنظمتنا إلا لمصالحها كأنظمة، نرى بقايا المثقفين القوميين لا همّ لهم إلا الحديث عن خطر المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي علينا ووجوب مواجهته. كيف؟ بالوحدة العربية. وعن خطر المشروع الإيراني وضرورة التصدي له، أيضاً بالوحدة العربية. وبعضهم يشعر بمتعة غريبة لشعوره بأنه أشد بلاغةً من أبي تمّام والبحتري معاً عندما يركّب جناساً لغوياً تحلو له تسميته مشروعاً سياسياً (اكتشفه هو بنفسه) اسمه »المشروع الصهيوني ـ الصفوي«، دون أن ينسى المطالبة بضرورة المواجهة الثنائية الحد، أيضاً عبر الوحدة العربية. ومن المدهش أنهم، في كل هذه الحالات التي يصفون فيها هذه الوحدة كبلسم، لا يكلّفون أنفسهم عناء التفكير إن كانت هذه الوحدة ممكنة أم لا. وإن كانت ممكنة كيف، وما لم تكن ما هو البديل. وهنا لا يسعني إلا أن أردد مع السيدة آين راند »إذا كان التفاني في سبيل الحقيقة هو الصفة المميزة للأخلاق، فما من تفانٍ أعظم وأنبل وأكثر بطولة من تفاني الإنسان الذي يتولى مهمة التفكير«.
لقد باتت الحياة تطرح علينا مهمات جديدة ينبغي العمل لإنجازها بالاستفادة من المشروعين التركي والإيراني. وهذه المهمات بالعام هي مهمات بناء الدولة المدنية القادرة على مواكبة تطور العالم بالشكل الذي يتعولم به. وفي الوقت الذي يرفض فيه الأصوليون الإسلاميون عندنا المشروع التركي، المتمثل بقيام الدولة المدنية، نرى بعض الديموقراطيين المدنيين ضد المشروع الإيراني لكونه مشروعاً إسلامياً أصولياً. صحيح أنه يجب الوقوف ضد أي مشروع إسلامي أصولي، ولكن ما ينبغي أن يظلّ في البال أن مقاومة شعوبنا للمشروع الاميركي ـ الصهيوني التي اتخذت بوجهها البارز شكلاً إسلامياً، وتصادم المشروع الإيراني والمشروع الاميركي عندنا هما ما يعرقل المشروع الأخير. وهذا يضمر أننا أفدنا من المشروع الإيراني (وسنظل نفيد ما دام متصادماً مع المشروع الاميركي) للعمل على قيام دولة ديموقراطية مدنية، شريطة أن نكف عن الهذر ونباشر العمل من أجل هذه الدولة طالما أنه لا يمكن لغيرنا أن يقيمها لنا.
(١) سبق أن أوضحت أسباب سير بلدان أوروبا الغربية المتطورة على طريق تشكيل الاتحاد الأوروبي، أي على طريق ضم بلدان أقل تطوراً منها، في كتاب »سوريا إلى أين؟«.
([) كاتب فلسطيني