شباط حماه … وعبث الشياطين !.
د.نصر حسن
لم يعد خافياً على أحد في سورية وخارجها هول مأساة حماة في شباط 1982 بمقدماتها الداخلية والإقليمية والعربية , ولا أبعاد نتائجها على الساحة الوطنية والعربية , ففي حساب سياسي بسيط يتضح أنها كانت مقدمة لإجهاض الحركة الوطنية بشكلها المدني السياسي في سورية
والشرق عامةً وجرها باتجاه العنف والتطرف , يؤكد ذلك ما أفرزته على الساحة الداخلية من تغييب دور الشعب وتفكك وخوف نتيجة الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان, وما تلاها من حرب أهلية في لبنان وتصفية حركة التحرر الوطني الفلسطينية ,واحتلال بيروت ومجازر مروعة وإضعاف التضامن العربي وتفكيكه والتبشير لسياسات الاستسلام ,الذي قرر حافظ أسد ونظامه أن ” يكرش ” أمامه النظام العربي بأكمله إلى الاستسلام الشامل , والاصطفاف مع إيران وإدخالها البيت العربي من أوسع وأخطر أبوابه , محصلته العامة هو حصر سورية والشعوب العربية في مأزق تاريخي حاضنته التطرف والفوضى , وتضييع حقوقها وكرامتها ووقف تنميتها وتقدمها وفرصتها في الحياة الحرة !, بتكثيف القول إن ما تعيشه سورية اليوم من عجز وتخلف وتشقق وإنهاك وطني عام ,هو بعض نتائج المأساة المدمرة التي تستمر اليوم بوجوه ومستويات متعددة !.
ومفارقة الحالة وخطورتها ,هي في نشر شياطين العنف الجاهل والفاجر وتمريره على قدسية الدين وقيمه التي عرفناه معاملة وتسامح واحترام خيار , وعلى حطام الأماكن المقدسة وأسس التعايش التي كبرت سورية فيها , إذ بين كنيسة السيدة “ مريم العذراء ” الصورة المصغرة عن كنيسة بيت لحم , وجامع الكبير الذي هو شكل مصغر للمسجد الأقصى يقعان وسط حماه , تفصل بينهما مسافة قصيرة هي بالضبط مدى رابطة التكوين الواحد بين المسلم والمسيحي , الرابطة التي صاغها التاريخ الواحد وحضنتها المدنية والحضارة, وحددت ملامحنا الوطنية والإنسانية , بضع أمتار بعرض شارع يمثل جريان الزمن المترافق مع وحدة وتعايش لا مثيل لها في حماه وكل سورية.
فهل خطر على بال ؟! أن الكنيسة والجامع سيهدمهما طاغية , ويجعل من حطامهما ممراً لدخول حلبة العنف الهمجية , التي اخترعها حافظ أسد ونظامه , وعممها وطبقها ميدانياً وعمى سورية وسحلها فيها كفيفة راعفة , وبقي يتفرج عليها أشلاءً ممزقةً ويعربد على جراحها !.باختصار القول كانت ” بروفة ” دموية خطيرة للتطرف بكل دلالات الكلمة , ونتج عنها التشقق وتلاقت بمحصلتها مع ما تشهده سورية ومحيطها من موجات يأس وإحباط وعنف وتتطرف , فمعروف من هو المستفيد والرابح في هذه المتاجرة وهذا القبان!, هنا تلتقي المشاريع الجهنمية كلها لتصب في خانة التطرف السرطاني الذي استشرى في نسيج المنطقة !.
هل فَرض علينا السفاح الكبير وتلامذته وشركاؤه مسخ إنسانيتنا وإلغاء حياتنا وتشويه علاقاتنا وقطع صلات قربانا ,وشحط سورية على صفيح حالة طائفية واجتماعية ووطنية وإنسانية مخيفة , وفرض صراعات شيطانية تظهر بأكثر من وجه ولون بين أبناء الوطن الواحد ؟! وهل فرضت علينا المأساة وظروف المرحلة وشياطينها وملابساتها الداخلية وضغوطها الخارجية ركوب ” خازوق ” التطرف والمدّ الطائفي ,ومحاصرة المد الوطني المدني وإتلاف ذاكرة التاريخ والتعايش المشترك , والوقوف اليوم فرادى حيارى أمام صراعات شتى, محصورة كلها في التطرف وتفريخاته السرطانية , في مرحلة استطالت كثيراً ولامست حواف الشر المستطير؟!.
مرحلة عصفت بالوطن وفرَخت خصومة وتدحرج الجميع إلى الفخ الذي نصبه حافظ أسد ومن معه وأعوانهم في شباط 1982 في حماه, بتدميرها وارتكاب الجرائم المروعة بحق المدنيين , ألثمن ما قبضوه ؟!, ومشروع سوداوي ما نفذوه !, وسادية جينية كريهة وغريبة عن سورية وتاريخها مارسوها وارتكبوها؟! .
أم هي الغريزة البهيمية الكامنة في بعض النفوس الضعيفة ؟! أخرجها الغطاء والقوة والفجور وفلتانهم وجبروتهم على أبناء الوطن , وفتك بهم وهدم حماه فوق سكانها وأتلف ذاكرتها وهتك إنسانيتها وتركها مخضبة بدمائها ثأراً من دورها الوطني ونور تاريخها؟!، أم هي المتعة المحرمة التي انتهكها طاغية , وكرامة داستها البساطير بدون رحمة ولا انتماء ؟! وفي الوقت نفسه، هل كان هول الجريمة والصمت المعيب الذي رافقها وملابساتها وعدم الدفاع عنها , هي من الإنجازات الثورية والوطنية التقدمية والعلمانية التي يتباهى فيها البعض ؟! البعض الذي كان مشاركاً أو محايداً أو متفرجاً أو هارباً من كارثيتها !. أو الذي وقف مشلولاً أمام الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان التي ارتكبت في سورية ؟!.
هذه الأسئلة برسم المخططين والمنفذين والمشاركين والصامتين والمجادلين لغايات شتى حول السبب والغطاء والوسيلة والهدف , ناسين ومتناسين من افتعل ومهد وخطط ونفذ الجريمة !، نطرحها على جميع أبناء الوطن الشرفاء في سياق الحاضر الذي يدفعه مجموعة مستهترة غير مسؤولة لتكرار دراما ما حدث !.
فضبابية الحاضر و مجهوله تفرض على الجميع قدر كبير من الشفافية والصدق والجرأة والمسؤولية والإنسانية لتطويق مقدمات تكرار المأساة بشكل أوسع وأفظع وأبشع ! والطريق واضح ومعروف لا يحتاج إلى الكثير من الفلسفة والحيرة والتنظير , والتلطي وراء الحرص على السلم الأهلي , المبطن بخامة العجز والهروب وهامة التعصب والكراهية التي تعلو رويداً رويداً بدون ضبط !.
فبداية قطع الطريق على الفتنة من جديد , هي التأشير بإصبع القانون والعدالة على الفاعلين , وإرادة وطنية لرفع الظلم عن الضحايا ومحاسبة الظالمين أياً كانوا , والوقوف الشجاع أمام دعاتها , ووقف سرطانية تناسخها وامتدادها في النسيج الاجتماعي والوطني والإنساني , وخلاصها لن يتم بالهرب منها ولا بإهمالها ولا بالكلام العام وتمييع مخلفاتها وإعادة تلميع فاعليها , بل بالتأشير المباشر على الفاعل والظالم تمهيداً لمحاكمته أمام قضاء حر عادل ونزيه , ورفع الظلم ورد الاعتبار الإنساني والوطني للضحية ,وعودة الاعتبار لقوة القانون وهيبة العدل والمساواة ومشاعر الحب والتعايش بين أبناء الوطن , تمهيدا ًلتطويق نزعات شيطانية , وتعليق مشاريع الغريزة التي مهدت لمأساة حماه الجريحة , والتي يشير سياق الحاضر بأنها تطرق بالحجارة أبوابها من جديد!.