من “التحرر” الثقافي إلى الجمود السياسي!
د. برهان غليون
كما أنه من الصعب فهم الوضع الذي وصلته المجتمعات العربية من دون اعتبار الشروط الجيوسياسية والعوامل الخارجية التي جعلت من منطقة الشرق الأوسط بؤرة نزاعات دولية استراتيجية، وشلت حركة أبنائه عن بناء حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بصورة طبيعية، فإنه من الصعب أيضاً فهم التخبط الذي تعيشه هذه المجتمعات وعجزها عن التحرر والانعتاق السياسي، أي عن التحكم بشرط وجودها التاريخي، من دون اعتبار طبيعة الثقافة السياسية التي تسيطر عليها، وتوجه عقول أبنائها وقلوبهم.
ولا أقصد هنا ثقافة العرب أو المسلمين الكلاسيكية، أي ما بقي حياً من التراث العربي، وإنما تلك الاختيارات والتوجهات والاستعدادات الذهنية الجديدة التي نمت وتطورت وترسخت خلال القرن الماضي، وتحولت إلى ثقافة رئيسية، تطبع تفكيرنا وسلوكنا وتوجه أفعالنا الفردية والجمعية، وتشكل أساس هويتنا. وهي نمط من الثقافة السلبية، تعزز في مواجهة العدوان الخارجي، وفي مرحلة لاحقة، إزاء العدوان الداخلي ممثلاً بالنظم الاستبدادية. وبصرف النظر عما حققته من نتائج في مواجهة الاستعمار، فقد رسخت هذه الثقافة قيماً وأنماطاً من التفكير والنظر، تنحو إلى توجيه التفكير نحو استيعاب المخاطر الخارجية وإحباطها، أكثر مما تعمل على تنمية النظر إلى النفس والتأمل في نقائص الذات والعمل على إصلاحها وبناء الحياة الجمعية المنظمة والأخلاقية… مما آل إلى الموقف الذي يسيطر على رؤيتنا للغرب وطرق الكفاح ضد سيطرته والتعامل معه.
التماهي مع أيديولوجيا التقدم الغربية ومحاولة تمثلها عربياً، أعقبه التحول إلى معاداة الحداثة نفسها كهوية للغرب وكجزءٍ من تراثه!
وضعت التجربة الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر العرب أمام معضلة التصدي للقوة العسكرية الأوروبية الضاربة، والتي كانت تجهلها من قبل. وقد زاد من الشعور بخيانة الغرب، اتسام ثقافة النخبة العربية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، بالقيم الليبرالية وتمثلها العميق لها أحياناً، مما جعلها تعتقد وتتصرف على أساس أنها ند لأخواتها الغربيات وشريكة لها في بناء عالم الحداثة والديمقراطية والازدهار الاقتصادي!
لكن مواجهة الاستعمار وضعت العرب في وضعية جديدة. فقد كان من الطبيعي أن يكفوا عن النظر إلى أنفسهم كشركاء للغرب في الحضارة وحلفاء له في الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية ضد الإمبراطوريات المحافظة، كما حصل خلال مرحلة النهضة الثقافية في القرن التاسع عشر، وأن ينظروا إلى الدول الغربية كخصم تنبغي مقاومته واتقاء شره. وعلى هذه الأرضية سوف تولد منذ العقود الأولى للقرن العشرين حركات الاسلام السياسي المحذرة من الغرب والداعية إلى الفصل بين الأخذ بالمدنية أو الحداثة والتحالف مع الدول الغربية أو الخضوع لها، كما ستولد الحركات اليسارية أو الشيوعية العربية المعادية أيضاً للغرب بوصفه مركز الاستعمار والإمبريالية. وإلى هذه الحقبة يرجع شك العرب في الغرب ونواياه الحقيقية، والتشكيك الأول بالحداثة “الغربية” ذاتها، وخلطها البسيط أحياناً بثقافة الغرب وخياراته.
وقد جاءت المسألة الإسرائيلية لتمدد في عمر هذه اللحظة الاستعمارية وتزيد في تعميق الشرخ الذي أحدثته في ثقافتنا السياسية. وكان تبني الغرب لمشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وتزويد الدولة الإسرائيلية بالوسائل والأسلحة التي تمكنها من الانتصار على العرب في حروب عديدة متوالية، وأخيراً تهرب الدول الغربية من مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني وما نجم عن إنشاء إسرائيل من نزوح وكوارث إنسانية ووطنية… كان كل ذلك سبباً في إحداث شرخ لا يردم بين العرب والغرب. واليوم يبدو أن ذلك الشرخ تجاوز حلبة النزاع السياسي والعسكري ليدخل مجال الثقافة والدين والأخلاق، ويؤسس لما أصبح يسمى بالحرب الحضارية أو الثقافية. لم يعد المطلوب مقاومة الغرب أو سيطرته الاستعمارية بسلاحه، أي بسلاح الوطنية والدولة القومية والمقاومة المسلحة والسياسية لتأكيد الحرية والاستقلال… بل التبرؤ من التحالف معه ومن نمط تنظيمه المدني والسياسي وازدواجية المعايير التي تميز أخلاق ساسته وأهله! وهكذا سيقود إخفاق المقاومة الوطنية للتوسع الإسرائيلي إلى نشوء “المقاومة” الإسلامية، بكل ما يعنيه ذلك من إعادة “أسلمة” النظم المدنية والسياسية العربية، والتحرر كليا مما تركته الحقب السابقة من آثار للغرب في الحياة العمومية. لم تعد المقاومة تعني هنا في الواقع سوى القطيعة مع الغرب، بكل ما يعنيه وما يعبر عن هويته، أي ببساطة الانسحاب من العالم الذي يسيطر الغرب على توجهاته الرئيسية.
تشير هذه اللحظة الاستعمارية وما تلاها من مناورات وصراعات عنيفة، إلى بعض الشروط التي قادت إلى بلورة الاتجاهات السلبية البعيدة المدى، والتي سوف تسم موقف الرأي العام العربي من الغرب ومن ورائه من العالم الحديث بأكمله، وتعكس النتائج السلبية التي أدت إليها. ولعل الاتجاه الأكثر تعبيراً عنها هو الانقلاب الذي طرأ على الموقف الايجابي الذي ولد في منتصف القرن التاسع عشر، عند المثقفين والنخب الاجتماعية، من العالم ومن الحداثة المكتشفة. فبعد التماهي مع أيديولوجيات التقدم الغربية والسعي إلى تمثلها ونقلها إلى الثقافة العربية بكل السبل، ساد موقف سلبي لم يلبث حتى تحول إلى موقف العداء للحداثة نفسها بوصفها هوية الغرب وجزءاً من تراثه.
أما في ما يتعلق بالنتائج السلبية لهذه التجربة المرة، فهي تتجسد، في المشرق العربي بشكل خاص، في ما أدت إليه من دفع النخب العربية إلى خيانة مبادئها هي نفسها. ففي السعي إلى بناء رد فعال على هذه السيطرة الاستعمارية، لم يكن أمام هذه النخب سوى المراهنة على تشكيل وطنيات محلية تعتمد عليها ضمن حدود الدول القائمة لخوض معركتها الخاصة، مبتعدة بذلك عن الفكرة العربية التي أسست عليها شرعية استقلالها عن السلطنة العثمانية وتكوينها مشروع دولة عربية مستقلة عن الخلافة والدين. وكان هذا أول انشقاق يحصل في الضمير السياسي العربي، ويدخل التشوش والنزاع داخل مفهوم الأمة وتصورها، مما لا يزال مستمراً حتى اليوم، بين الانتماء القومي العربي والانتماء الوطني المحلي. ومما فاقم أزمة المفهوم والضمير القومي معاً هو استناد المشروع القومي منذ البداية إلى التحالف مع الدول الغربية. وهو ما لم توفره فيما بعد الحركات الإسلامية أثناء انتقامها من سيطرة الأفكار القومية الحديثة على الرأي العام العربي.
ولعل هذا يفسر إلى حد كبير لماذا لم يكن بمقدور الحقبة الاستقلالية والكفاح ضد السيطرة الغربية أن يسفرا، كما كنا نتوقع ونسعى إليه، أي عن قيام دولة العرب القومية أي الدولة- الأمة، بقدر ما أديا إلى تخبط الرأي العام العربي وتنامي نزاعاته الداخلية إزاء تحديد مفهوم الأمة ومفهوم الدولة نفسها، ومفهوم الهوية والقومية… مما ترك مؤسساتنا السياسية مفتقرة لأي مبدأ محرك واضح أو رؤية متسقة سياسياً وأخلاقياً