ساركوزي يتودّد إلى سوريا ولكن من المُستفيد غير الأسد؟
إميل حكيّم،
أوصاف عديدة أطلقت على تدخّل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في الديبلوماسية الشرق الأوسطية؛ فوُصف بعمل ينمّ عن غرور شخص مزهوّ للغاية وبفعل إنتهازي للإفادة من الفراغ الذي أحدثه ضعف الولايات المتحدة على الصعيد الديبلوماسي وتصلّب رجل دولة كثير الأوهام في مرحلة من الغموض تمرّ بها المنطقة. ونظراً لشخصية ساركوزي الآسرة، فلا عجب من أن تكون الآراء منقسمة إلى هذا الحدّ.
رغم شكوك الولايات المتحدة وأوروبا والعالم العربي في حكمة زيارة ساركوزي إلى دمشق، برّر هذا الأخير نفسه قائلاً إن الرئيس السوري بشار الأسد كان يسير في الطريق الصحيح الذي يؤدي الى الوفاء بوعده بالتبادل الدبلوماسي مع لبنان. كما أنه أثنى على الرئيس الأسد طرحه لإشراك فرنسا في المحادثات المباشرة مع إسرائيل وأمل أن تستخدم سوريا نفوذها لإقناع إيران بالعدول عن برنامجها النووي.
قد يترتّب عن ذلك احتلال فرنسا مكانة أساسية في سياسة الشرق الأوسط. وبالنسبة لشخص تبهره الأضواء، لقد سجّل هدفاً ديبلوماسياً في القمة الرباعية التي ضمّت قادة تركيا وقطر. ستكون زيارة ساركوزي إلى دمشق مُحبّذة من قبل الكثيرين ولكن توقيت وطريقة انفتاحه على سوريا يثيران تساؤلات وجيهة عديدة، وهذا ما كان يتجنّبه خلال السنوات الثلاث الأخيرة بسبب تدخلّها في الشؤون اللبنانية. فإن تقرّبه من الرئيس الأسد يظهر مزيجاً من التهكّم والسذاجة لم تتّسم به الديبلوماسية الفرنسية قبل الآن.
إن هذا التقرّب من سوريا يتضارب مع حذر فرنسا الذي دام سنوات، نتيجة احتلال سوريا للبنان ودورها المشبوه في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري في العام 2005. ويتعجّب العديد من اللبنانيين وحلفائهم الغربيين الآن ممّا تبقى من تمسّك فرنسا السابق بمصيرهم.
في الواقع، قرّرت فرنسا سلوك طريق محفوف بالخطر. فمن خلال الدعم الذي تبديه للأسد، إنها تراهن على أن تقدّر سوريا علاقتها بفرنسا بما يكفي لإجراء تنازلات فعلية. ولكن ليس واضحاً بما ستتمثّل هذه التنازلات. سبق أن أعطى ساركوزي الأسد امتيازاً من خلال زيارة رفيعة المستوى وانفتاح على الاتحاد الأوروبي كان الفرنسيون يعارضونه ولا زالوا حتى الآن. حسبما حذّر العديد من المشكّكين بهذه المشاركة غير المشروطة، أثبتت ردود فعل سوريا على انفتاح فرنسا أن المشاركة بحدّ ذاتها هي انتصار في نظر دمشق.
أما ما تم تحقيقه من التنازلات السورية فهو ضئيل جداً. ففي غياب ترسيم الحدود وعدم تقيد سوريا بالقرارات الدولية بشأن نقل الأسلحة ونقض المعاهدات المفروضة على لبنان في التسعينات (وهي مطالب سرعان ما خفّفها ساركوزي)، فإن الإعلان الرمزي عن فتح سفارة سورية في بيروت لا يكفي لوضع حدّ للتدخل السوري في لبنان. قد تكون الديبلوماسية الفرنسية أساءت تفسير التقديرات السورية.
من خلال الانفتاح على باريس والتفاوض مع إسرائيل بصورة غير مباشرة، تسعى سوريا، في الحقيقة، إلى تقييد حركة الرئيس الأميركي المقبل. في الواقع، يمكن للولايات المتحدة، وليس فرنسا، أن تعطي سوريا ما تريده حقاً؛ أي الاعتراف بمطامحها الإقليمية، بما فيها لعب دور بارز في الشؤون اللبنانية. من شأن ترتيب من هذا النوع، الذي يذكّر بالموافقة الدولية على الهيمنة السورية في التسعينات، أن يسترجع ما حقّقته ثورة الأرز من إنجازات في العام 2005.
من هذا المنطلق، بدأت سوريا، التي تدرك ذلك الواقع، بالتقرّب من المسؤولين الديموقراطيين والخبراء في السياسة الخارجية في واشنطن، من خلال إيهامهم بتوقيع اتفاق سلام، على حساب أي نقاش حول سلوك سوريا الماضي. وتأمل دمشق بأن تجعل سياسة العزلة طيّ النسيان وبأن تعرقل المحكمة الدولية، من خلال إصرارها بشكل ماكر على أن الولايات المتحدة هي العائق الوحيد أمام عقد السلام مع إسرائيل وبالإيحاء بأن المحكمة الدولية المعدّة للتحقيق في اغتيال الحريري وسائر الجرائم هي من التعقديات غير الضرورية. وما إن يتم رفع العزلة عن سوريا، حسبما تفكر على الأرجح، لن يخاطر المجتمع الدولي بفقدان ما وظّفه من استثمارات في سوريا مقابل محاكمة المتّهمين السوريين. وفي مستقبل ليس بالبعيد أيضاً، لن يكون برنامج فرنسا مشمولاً في تقديرات سوريا إلى حدّ كبير، حيث أنه في العام المقبل، سوف تراقب هذه الأخيرة نتائج الإنتخابات في الولايات المتحدة ولبنان وإسرائيل، قبل أن تقدم على خطوتها التالية. قد لا تحصل على مبتغاها ولكن من المؤكّد أنها نجحت في تكوين محيط مختلف بصورة جذرية.
وعساها قد كسبت حليفاً غير متوقّع. فإن إسرائيل التي يقلقها ازدياد قوة “حزب الله” في لبنان، تتوق إلى العودة الى موقعها المحوري. فمع خروج سوريا من لبنان، تواجه إسرائيل مصيراً غامضاً جداً، نظراً لما أظهرته حرب 2006. وإذا تقيّدت سوريا بتفاهم استراتيجي من شأنه أن يوطّد الاستقرار عند حدودها الشمالية، قد لا تخشى إسرائيل من عودة النفوذ السوري في البلد المجاور.
من ناحيته، لم يساعد الأسد في تبديد المخاوف بشأن السلوك السوري الكاسر، عندما قارن جورجيا التي احتلّتها روسيا بعدما ادّعت هذه الأخيرة أنها تشكّل خطراً على المصالح الروسية، بلبنان. الأكيد هو ما زعمه الأسد في محادثاته مع ساركوزي بأن الأصولية السنيّة، وليس التدخّل السوري، هي الخطر الحقيقي الذي يهدّد استقرار لبنان ويهدّد بالتالي سوريا، ممهداً الطريق أمام احتمال تنفيذ مهمة “صنع سلام” على الطريقة الروسية. وبالنسبة لشخص مُتّهم بدعم المجموعات المسلّحة في لبنان، كان هذا التحذير مثيراً للقلق.
أما الديبلوماسيين الفرنسيين، فيقولون إن ما يحثّ على هذا التقرّب هو اعتبارات تخصّ إيران أيضاً. ولكن بدلاً من محاولة تفريق دمشق عن طهران، أقام ساركوزي الأسد وسيطاً له مع طهران. فهو يبالغ في تقدير مدى تأثير سوريا على إيران. في الواقع، لا تنفر سوريا من التباهي بما تتمتع به من نفوذ في المنطقة.
إن بعض الأشخاص المقرّبين من النظام السوري يعزون ترسيخ الاستقرار في العراق وتحرير البحارة البريطانيين الذين احتجزتهم إيران في العام 2007، إلى سوريا، لا غير. ويزعم أحد المحلّلين السوريين أيضاً أنه يمكن لسوريا فقط أن تغيّر مسار إيران النووي وهذا ما كرّره ساركوزي بذاته منذ أيام قليلة.
قد تكون هذه قراءة ساركوزي المتشائمة لسياسة سوريا، ولكن يعود للديبلوماسية الفرنسية أن تبدّد هذه المخاوف على وجه السرعة.
The National