قمة دمشق والاستقرار والأمن في المتوسط
سليمان تقي الدين
تستشعر أوروبا بقوة الآن الحاجة إلى مبادرات من أجل احتواء نزاعات الشرق والغرب مجدداً، التي أطلقتها السياسة الأمريكية خلال السنوات القليلة الماضية. يتفاوت هذا الوعي طبعاً بين مختلف الدول الأوروبية، لكن دول حوض البحر الأبيض المتوسط المقابلة للشريك العربي هي أكثر ما يهتم بتداعيات الحروب والنزاعات الاقليمية من زوايا عدة. المسلمون باتوا الآن الكتلة البشرية الدينية الثانية في بعض الدول، وهم ينزحون إليها بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية ويحملون معهم ثقافتهم وتطلعاتهم، بما في ذلك المشاعر العدائية للسياسات الغربية.
لكن هذا ليس إلا جزءاً من الصورة، فعدم الاستقرار الذي يتميز به وضع الشرق الأوسط ومحيطه يبعث القلق لأنه يهدد باختلالات مهمة على صعيد العلاقات التجارية، لا سيما تبادل السلع الاستراتيجية وفي طليعتها النفط، ويؤثر في أسعاره ووفرته كما يؤثر في حجم التبادل الذي يحاصره الآن انخفاض سعر الدولار الأمريكي بالقياس إلى العملة الأوروبية. أما تصدير الإرهاب والجرائم العابرة للقارات، ومنها المخدرات، فقد باتت تضغط على العصب الأوروبي. لكن حجم المخاطر من دول الجوار تعاظمت مؤخراً مع تزايد احتمالات الحروب الاقليمية ودخول السلاح النووي وغير التقليدي إلى قائمة الأسلحة التي قد تستخدم لحسم نزاعات مستعصية.
لقد اصطف الغرب كله تقريباً خلف السياسة الأمريكية منذ 11 أيلول/ سبتمبر، لكنه لم يحصد من خلف هذه السياسة سوى المزيد من التهميش جراء احتكار الأمريكيين للمكاسب التي يفترض أنها تحققت من وراء احتلال العراق والتحكم بالسياسات النفطية وبسوق السلاح. هكذا بدأت المبادرات الفرنسية تتطلع إلى ايجاد علاقات ثنائية مع بعض الدول العربية من أجل تسويق بعض الانتاج الصناعي التكنولوجي من التكنولوجيا النووية إلى السلاح وسوق الطيران المدني. وقد عقدت فرنسا مؤخراً عدة صفقات على هذا الصعيد مع الخليج وكذلك فعلت روسيا.
لقد أسهمت سياسة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في تحالفه مع الولايات المتحدة والشراكة في محاصرة سوريا والضغط عليها وبصورة مباشرة من لبنان، في خسارة موقع مهم من مواقع النفوذ الفرنسي التقليدي.
لقد تحولت السياسة الفرنسية إلى موضع نزاع في لبنان ولم تسهم في استقرار هذا البلد، بل على العكس من ذلك حولته إلى ساحة جديدة من ساحات النشاط للجماعات الدينية المتطرفة الأمر الذي يقرّب خطرها من أوروبا.
لقد اتضح أن الاستقرار في لبنان يحتاج إلى تعاون مع سوريا على قاعدة احترام مصالحها الوطنية المشروعة، وهي تكاد تنحصر بعدم استخدام لبنان نقطة انطلاق للمشاريع التي تستهدف الداخل السوري. وبالفعل شكلت المبادرة الفرنسية لحل الأزمة اللبنانية، ومن ثم المشاركة في دعم مؤتمر “الدوحة” إلى انجاز تسوية لبنانية انطلاقاً من انتخاب رئيس جمهورية توافقي وقد ساهمت دمشق في إنجاح هذا السعي.
كما انضمت فرنسا إلى جهود تركيا لتشجيع الحوار والتفاوض بين سوريا و”اسرائيل” تلافياً لوقوع حرب اقليمية ستهدد المصالح والأمن الأوروبيين من تركيا إلى فرنسا. فمن الواضح ان انهيار منظومة الدول القائمة في المنطقة يوسع نفوذ وانتشار الجماعات “الارهابية” بالمنظور الغربي. وبشكل خاص، إن عدم الاستقرار في سوريا يؤدي دوراً خطيراً في المشرق العربي بالنظر لموقعها المحوري وصلاتها بالأزمات من حولها في العراق وفلسطين ولبنان.
ومن المعروف أن لتركيا مصلحة مباشرة في عدم اتساع فتح ملف الجماعات الكردية، ولا النزاع المذهبي السني – الشيعي أو العلوي، لأنها هي ايضاً مجتمع تعددي وهي تواجه خطر التكوين المتنامي للمشروع الكردي المستقل في العراق.
لقد تلاقت هذه المصالح في الاستقرار والأمن لكي يتم إنجاح قمة رباعية في دمشق ضمت تركيا وفرنسا وقطر. اكدت هذه القمة مبدأ التعامل مع المصالح الوطنية لأطرافها، خصوصاً بالنسبة لدمشق لكي تقوم بالتعاون والانفتاح والحوار في القضايا التي تهم الاطراف الاخرى، خصوصاً لبنان.
لقد أصبح لبنان عقدة لتقاطع الكثير من مصالح الدول واهتماماتها. إن تفكيك عقدة الملف اللبناني وإعادة الاستقرار إليه يسهمان في خفض النزاعات بين الدول المتدخلة فيه، سواء في محور ما يسمى “الاعتدال العربي” أو “الممانعة”.
يتوجس البعض من الاندفاعة السورية في مفاوضات السلام مع “اسرائيل”، لكن هذا التفاوض ما زال في مرحلته الأولية لاستكشاف نوايا الطرفين وبصورة غير مباشرة. وقد اعلنت سوريا أن التفاوض المباشر يحتاج إلى ضامن دولي هو الولايات المتحدة، وذلك بعد الانتخابات الرئاسية وتبلور سياستها الخارجية وما اذا كانت راغبة في دعم عملية السلام. وفي المصطلح السوري يتأكد دائماً ان السلام يحتاج إلى التسوية العادلة التي تشمل بالضرورة محور قضية النزاع العربي “الاسرائيلي”، وتحديداً حقوق الشعب الفلسطيني. هذا يعني أن لا تسوية قريبة في الأفق وليس هناك من خطر التفريط بالمصالح العربية، لأن “اسرائيل” هي الطرف الذي كان ولا يزال يرفض السلام. اما الحديث عن محور اقليمي جديد فليس له أي أساس بوجود دول لديها علاقات ومصالح متشعبة في العالم العربي والعالم. ان قمة دمشق ليست الا لحظة من لحظات تقاطع المصالح بين دول تحاول أن يكون لها بعض هوامش الاستقلال عن المشروع الأمريكي المتعثر وعن السياسة الأمريكية، التي لم تحسب حساباً لبعض الأنظمة المؤثرة في إطارها الاقليمي.
الخليج