تناقض سوريّا وتعقيب 14 آذار
حازم صاغيّة
هناك صوتان سوريّان متفاوتان، بل متضاربان، خرجا من قمّة دمشق الرباعيّة الأخيرة. وهما صدرا عن الحنجرة نفسها وعن أعلى مراتب النظام، أي رئاسة الجمهوريّة.
صوتٌ يقول إن السلام السوريّ – الإسرائيليّ ممكن وواعد وينبغي، في لحظة ما، أن ينضمّ لبنان إليه. ويضيف هذا الصوت، للمرّة الثانية أو الثالثة، إعلان سعيه إلى إثارة الاهتمام الأميركيّ بالمفاوضات غير المباشرة التي ترعاها تركيا بين دمشق وتل أبيب.
والصوت الآخر يتحدّث عن “الاضطراب” في شمال لبنان، موحياً بالرغبة في “ملء الفراغ”، ومثيراً بإيحائه هذا هلع أكثريّة ساحقة من اللبنانيّين لا تريد أن ترى مجدّداً جيش سوريّا ودبّاباتها فوق أرضها. وما يفرك الجرح بالملح طريقة غير لائقة في الإشارة الى رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة وتحديد ما هو مطلوب، أو غير مطلوب، منه.
المحطّة الوحيدة التي يمكن أن يجتمع فيها هذان الصوتان المتناقضان هي “تلازم المسارين”، أي سير دمشق نحو السلام مع إسرائيل فيما هي تضع بيروت تحت إبطها وتخنقها، ومن ثمّ الاندراج في منطق الحلول من دون التخلّي عن صداقتها مع القوى المانعة للحلول (إيران، حزب الله…).
وهذا منطق لن يستطيع التذاكي والتشاطرُ التمويهَ على استحالته وعلى تفجّره من الداخل: ذاك أن الانتقال إلى السلام الإقليميّ، والرغبة في حضور أميركيّ فاعل في سلام كهذا، يدشّن الإقرار بالمنظومة الدولتيّة التي تقوم عليها العلاقات الوحيدة المقبولة بين دول. وهنا يكمن معنى السلوك الفرنسيّ، أكان ساذجاً أم لم يكن، في ربط كلّ تقدّم يطرأ على علاقة باريس مع دمشق بتقدّم الأخيرة في الاعتراف العمليّ باستقلال لبنان، أي إنشاء السفارتين وترسيم الحدود. أما الضعف الأميركيّ قبل الانتخابات الرئاسيّة، وفي ظلّ الاستنزافين العراقيّ والأفغانيّ، فلا يعني، بحال من الأحوال، الرجوع الى منطق “الصفقة” مع سوريّا بما يترك لها لبنان! فهذه تجربة جُرّبت من قبل وعادت آثارها بالكارثة على الجميع، لا سيّما على السياسة الخارجيّة الأميركيّة.
ويُخشى أن تكون رغبة سوريّة في المناورة، وصولاً الى استعادة “وحدة المسارين”، ما يفسّر الإصرار على الاحتفاظ بالصوتين معاً، بالإفادة من تطوّرات لبنانيّة وإقليميّة باتت معروفة، وربّما من “عودة الحرب الباردة” (على رغم إدانة الرئيس الأسد لاحتمال هذه العودة، وهو على مقربة من الرئيس ساركوزي).
كائناً ما كان الأمر، كان أحرى بقيادات 14 آذار التقاط هذا التبايُن داخل اللغة السوريّة، وشرح أسبابه الكامنة في تركيبة النظام وتوجّهاته، وإرفاق التحذير من الصوت السلبيّ بتشجيع الصوت الإيجابيّ داخل اللغة إيّاها. أما القول السقيم الذي سمعناه (وليس للمرّة الأولى) من أن اللبنانيّين آخر من يسالمون، فأقرب إلى عنتريّات ضيعويّة لا تقنع أحداً، فيما تمعن في إضعاف صدقيّة أصحابها. والبائس أن هذه الصدقيّة غدت واهنة بحيث لم تعد تحتمل المزيد من تعريضها للقضم والاستهلاك.