طرابلس »نسيج مجتمعي«
حسام عيتاني
هل تكون المصالحة الطرابلسية مقدمة لأخرى مشابهة على مستوى لبنان بين تيار المستقبل وحزب الله، أم إن مصيرها سيكون شبيهاً بالتفاهم المعلق بين الحزب وعدد من الجمعيات السلفية؟
ثمة ما ينبغي الانتباه اليه في المسار الذي أفضى الى المصالحة. بعد جولات من القتال، ظهرت تصريحات من مسؤولين عرب يحذرون فيها من أن الوضع في عاصمة الشمال يهدد بانفجار واسع. السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو: هل »يُطمئن« المسؤولون المذكورون توقيع وثيقة بين قوى محلية يقال إنها، أو بعضها على الأقل، تصرفت بدفع وتحريض وتمويل من الخارج؟
السؤال أعلاه لا يرمي الى تعكير أجواء الارتياح السائدة بقرب انتهاء الاضطرابات في طرابلس (وليس »عودة الوضع الى طبيعته« حيث ان الوضع هذا لم يكن طبيعيا منذ أعوام وهذه مسألة تبدو معالجتها من الصعوبة بمكان)، غير انه يهدف الى تلمس الاطر التي جاءت المصالحة فيها بمعنى حيازتها موافقة الاطراف الخارجية التي يقال انها سلحت وحرضت…الخ الطرابلسيين بعضهم ضد بعض طوال الأشهر الماضية، أو بالاحرى هل تكفي المصالحة بالشكل والمضمون اللذين جاءت بهما، للحيلولة دون تجدد الانفجار اذا استأنف المحرضون والممولون سيرتهم الاولى؟
ليست حدود المصالحة الطرابلسية واضحة تماما. واذا كانت قد وضعت في إطار الصراعات العربية ـ العربية، من جهة، وتلازمت مع خطوط الانقسام اللبناني، من جهة ثانية، والاوضاع المأساوية لأهالي طرابلس من جهة ثالثة، فإن البنود »اللبنانية« و»التنموية« ـ اذا جاز التعبير ـ من وثيقة المصالحة، لا تشي بوجود ضمانات بتوقف التدخل العربي على الساحة الشمالية، باستثناء رفض تصفية حسابات الآخرين على أرض طرابلس. بل ان الاقرب الى منطق الامور هو توقع تعليق اللجوء الى العنف في طرابلس والشمال في انتظار حدوث تغيرات في المنطقة، سلما أو حربا. بكلمات أخرى، إلحاق طرابلس بحالة الجمود اللبناني العام، وهو تطور إيجابي، على الرغم من تواضعه نظرا الى انه يحجب دماء بريئة، أولا وأخيرا.
أمر آخر قد يكون من المبكر أو من غير المرحب التطرق اليه في الظرف الراهن الراهن من دون أن يلغي ذلك جسامته وخلاصته ان المواقف التي عبر عنها سياسيون ورجال دين طرابلسيون ورددت وثيقة المصالحة صداها عن اعتبار طرابلس »نسيجاً مجتمعياً واحداً«، تعبر، الى جانب النوايا الحسنة، عن الرغبات في طي صفحات الاقتتال والتناحر الذي يعاد دائما الى أسباب سياسية، الى ظاهرة لعلها ملازمة لكل مصالحة عربية وقوامها ذلك الشغف بالوحدة والاتحاد، والاصرار على الاواصر الاهلية والعائلية والعمل على إبرازها وتصويرها وكأنها علاج كل داء، وكأن التعدد والتنوع هما دائما مصدر الازمات والحروب، فيما التاريخ العربي يعج بنماذج عن حروب الاخوة. مفهوم ان مقولة »النسيج المجتمعي الواحد« تتضمن إقرارا بوجود كيانات ما دون مجتمعية في طرابلس، غير ان الاصرار على الوحدة يبدو هنا من نوع التأكيد المولد للشك.
وغالبا ما يلازم المبالغات في استجرار مظاهر الوحدة، نفي لأوجه معينة من الصراع. فكل المشكلات التي يواجهها لبنان سياسية ولا وجود لتضارب المصالح الطائفية. ولا يحتاج المرء الى نظر عميق ليرى التداخل والتماسك بين العناصر السياسية والطائفية بل وأداء الطائفة لدور النواة المحركة التي يتفرع منها التمثيل السياسي.
من جهة ثانية، لا مفر من القول إن العمل على إبراز الوحدة في مجتمعات لها ما لنا من تاريخ في الانقسامات »السياسية« والتجاذبات بين معسكرات داخلية وخارجية، لا يتوانى أهالي هذه البلاد عن وسمها بالميسم الطائفي والديني (من رفع أعلام الاتحاد السوفياتي على كنائس الروم الارثوذكس أثناء الحرب العالمية الثانية، الى اعتبار قوات منظمة التحرير الفلسطينية »جيش السنة« في السبعينيات، وسوى ذلك من رغبات في التماهي مع الجهات العربية والاجنبية انتهى أكثرها بكوارث مشهودة ومعلومة)، ان وحدة تأتي من هذه الخلفية، تحمل ولا ريب بذور انقلابها تفتتاً ومقدمة لحروب جديدة.
كان الأجدى، والحال على ما رأينا، التمسك بالتنوع الطرابلسي واللبناني عموما كسمة لا يد للأجيال الحالية من اللبنانيين فيها وليست بالضرورة عامل إغناء أو إفقار، والتأكيد على أهمية إدارة التنوع هذا سلما ووفق الصيغ الدستورية والقانونية التي حازت قبول مواطني هذه البلاد.
ويكشف نبش العراقة التاريخية وضرب الجذور في الاعماق، بين ما يكشف، عن قدرة مذهلة للغة المصالحات اللبنانية على جذب سياسيي اليوم ومحازبيهم الى الماضي، ودغدغة عواطف كل الخائبين من حاضرهم الباهت بزهو ألوان التاريخ، سيان كان أسطوريا أو مخترعا، فالمهم هو أداؤه لوظيفته السياسية (على المعنى غير الطائفي الذي يروج له) المطلوبة اليوم بإلحاح.
السفير