في العرب والعروبة مرة أخرى
فالح عبد الجبار
لعلها كانت محض مصادفة ان أعيد مطالعة السير الذاتية للجيل الأول من أدباء الشام المسيحيين، الذي نادى بالفكرة العربية، وذلك قبل ايام من اللقاء بسياسي قومي عربي مخضرم هدّته السنون. وبينما كنت معجباً بذلك الجيل الأول الذي تجاوز ضيق منتصف القرن التاسع عشر (المذابح الطائفية) ليطرح الفكرة القومية في جرأة ما تزال تبدو لي استثنائية، كان السياسي المخضرم بائساً وحزيناً على ما اعتبره العودة القهقرى الى ما قبل ذلك الجيل الجريء. ولم يكن ضرباً من ضروب المفاجأة ان نكتشف ان جذور اعجابي، كما جذور يأسه، واحدة، هي السخط على الراهن، وبالذات خفوت الفكرة العربية في السياسة، كما الفكر، خفوتاً جلياً بالمقايسة مع الاربعينات والخمسينات والستينات، التي شهدت تأسيس الجامعة العربية، وقيام عدد من تجارب الاتحاد او الوحدة.
لكن المظهر الآخر للخفوت، ان الجيل الأول لمنتصف القرن التاسع عشر، رفع الفكرة العربية كفكرة حداثية لتجاوز التنظيم الاجتماعي القديم، القائم على الهوية المذهبية/الدينية، فيما نرى اليوم ان الانقسام المذهبي/الديني يحتل الواجهة. وصرنا نتحدث عن «الوحدة الوطنية» و»المصالحة الوطنية»، عوض الوحدة القومية والتكامل القومي.
الفكرة القومية، باطلاق، تقوم على الجمع بين الأمة والدولة، او ما يعرف في العلوم الاجتماعية بـ «بناء الأمة»، التي تعرف بأنها دولة-أمة Nation-State ، توكيداً لفكرة ان الجماعة (الأمة) ينبغي ان تتحقق في تنظيم سياسي-قانوني هو الدولة، وان اي تفريق بين الاثنين منبع أسى وخلل فاضح.
وعليه فهذا الخلل فشل في بناء الدولة، اكثر مما هو في بناء الأمة.
معروف ان لفهم بناء الأمة ثلاث مقاربات: الأولى هي المقاربة الأولية التي تعزو الى الأمة انحداراً يقوم على النسب، ويمتد في الزمان، في نوع من مثالية تاريخية. ولعل أول مبتكر لنسب الدم في نشوء الأمم هو الالماني فيخته، الذي ابتأس مثلنا لوجود امارات المانية مشتتة، ورفع بوجهها اللغة والتاريخ والنسب الى مصاف مطلق كتجسيد للأمة الالمانية. وكان أول من يستخدم تعبيرات قرابية لوصف الأمة (استخدم فيخته كلمة Stamme وتعني قبيلة- او جماعة تقوم على النسب المشترك).
وتلقف الروس والترك، ثم العرب والكرد (ناهيك عن اليهود) هذه الصياغة لشرعنة قيام الأمة، فيما كان تنظيم الشعوب في دول قومية قد تحول مبدأً عالمياً شاملاً خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، بديلاً عن امبراطوريات الامس، القائمة على خلائط لغوية ودينية، وعن امارات الامس، المرتكزة الى حكم امراء محليين.
المقاربة الثانية هي المقاربة البنائية الحديثة، التي تعتبر الأمم كيانات حديثة موحدة في هيكل سياسي واحد يمد تأثيراته المتجانسة على رقعة جغرافية موحدة، متجاوزاً عزلة الطوائف، وانغلاق القبائل، وتباعد المدن، المسورة بهوياتها الجزئية، المحمي بتقاليد قديمة من العهد الزراعي المتجزئ. وما كان لهذه البناءات الحديثة ان تحل محل الطوائف والقبائل والمدن المغلقة لولا الجبروت الكاسح للاقتصاد الصناعي الحديث ووسائل الاتصال والمواصلات.
والمقاربة الثالثة تعترف بان الدولة- الدولة بناء حديث وتاريخي قديم في آن. فاللغة، والتاريخ، والوعي الذاتي بتميز الجماعة، تنشأ عادة، وتنضج على نار التطور التاريخي الهادئة. لكن هذه المقاربة لا تعتبر اللغة بذاتها او الثقافة بذاتها، على اهميتها، مساوية للأمة التي هي تنظيم معقد، مركّب، ثقافي- اقتصادي- اجتماعي- واخيرا سياسي. من هنا الجمع بين الامتداد في الماضي، بالبناء الحديث في الحاضر.
ولدى مراجعة كتابات المفكرين والدعاة الايديولوجيين، ونشاطات السياسيين، على مدى هذا القرن ونصف القرن العربي، يجد المرء ان الايديولوجيين، وهم في الاغلب قادة حزبيون، ركزوا على المقاربة الأولى، وكان همهم الأول بناء الفكرة، ونشرها، رغم ما انطوى عليه تبشيرهم من افكار مثالية جزئية.
اما السياسيون فتركز همهم الأساس على بناء ركيزة قوية لسلطة الدولة، رغم ان هذا المسعى تحول، في الظروف العربية، سعياً لبناء ركيزة سلطة للزعيم (وحزبه).
اما المفكرون والباحثون فانصب اهتمامهم الأساس على المقاربة البنائية التاريخية. ولعل أول وابرز اسم جمال الدين الافغاني الذي اعتبر الدين واللغة اقوى رابطين للاتحاد في مجتمعات، ودعا في وقت ما الى تبني الدولة العثمانية للغة العربية كي تجمع في احشائها رابطتي الدين واللغة. اما عبد الرحمن الكواكبي فصاحب أول مشروع عملي لبناء دولة عربية يترأسها خليفة يُنتخب من امراء البلدان، في نوع من اتحاد (فيدرالي ام كونفيدرالي؟). وطرح المفكرون ايضا صيغة الوحدة الفورية، ثم الوحدة الفيدرالية، او انشاء سوق عربية موحدة (على غرار الاوروبية)، او قيام دول محورية عربية، بانشاء بؤرة وحدوية.
وفي اعمال كثرة من الباحثين المعاصرين محأولات جريئة في هذا الاتجاه رغم ان النسيان يكاد يطويها: الاهتمام بالدولة القطرية باعتبارها اداة توحيد للجماعات الجزئية (الطوائف، المذاهب، البلدات)، كما فعل محمد جابر الانصاري، او اداة تجاوز للقبيلة (كما فعل خلدون النقيب). وفي مقاربات جيل اسبق عناصر مفيدة: الاهتمام بوسائل الاتصال والمواصلات، كأداة تقريب، وتجميع، كما فعل معظم ليبراليي العهد الملكي في العراق، او الاهتمام باداة التجانس الثقافي، اي التعليم الحديث (ساطع الحصري).
اين ذلك كله الآن في عصر القرية الكونية والاستثمارات العابرة للأمم والدول الجزئية وانضغاط الزمان والمكان، المقرّب للأمم والاقوام؟
ادت البنى السياسية المحلية، بطابعها الاستبدادي، الى تفكيك، بدل بناء، التجانس المنشود، واضاف الاسلام السياسي الصاعد (على اكتاف الفكرة القومية) انقساما آخر، دينيا- مذهبيا، يعوم بحرية في الفضاء العربي. فهل عدنا الى ما قبل صبوات الجيل الأول الذي اراد استعادة الحضارة العربية بتجاوز الانقسام الطائفي. لقد انهارت الماركسية السوفياتية بانحطاط الدولة المركزية مخلفة وراءها نزعات قومية عدوانية انفجرت في يوغوسلافيا والاتحاد السوفياتي. وانهارت في العالم العربي النزعة القومية العربية بانحطاط الدولة المركزية التسلطية مخلفة وراءها نزعات اسلامية محافظة وعنيفة. والازمتان تحملان تشابهاً بنيوياً.
نعم، ثمة سمات مشتركة، لكنها تفعل فعلها في وضع جديد. وبإمكان الفكرة العربية ان تستعيد عافيتها باندماجها بفكرة بناء السوق الحديث والديموقراطية والمجتمع المدني، واحترام التنوع الاثني والثقافي. وهي ثيمات عولجت كمواضيع مستقلة رغم انها متداخلة.
ويمكن انقاذ الفكرة العربية من خيالات الايديولوجيين واطماع السياسييين المعنيين بالسلطة، واعادتها الى مختبرات البحث الفكري، على قاعدة فهم سبل بناء الأمم وسبل بناء الدولة الحديثة، وسبل الجمع السليم للاثنين.
الحياة – 14/09/08