الاستسلام للتبسيط إذ يجمعنا بالمبسّطين
محمد الحداد
يعاني الخطاب الثقافي العربي الكثير من الخلط في المفاهيم والمصطلحات بسبب نزعة التبسيط المفرطة التي يتميز بها. يبدو المثقف مضطرا من جهة أولى للانخراط في هذا التبسيط لأن هاجس المناضلة أقوى عنده من هاجس البحث والتنقيب، فهو يشتغل على الوقائع وليس على المفاهيم كي لا يفقد دوره الاجتماعي وينكفئ في برج عاجي معزولا عن محيطه. ويبدو من جهة ثانية مضطرا للتعبير عن تعقيدات الواقع من خلال مصطلحية ضعيفة محدودة، فلا تسعفه اللغة السائدة بالزاد المعجمي المتنوع الـذي يمكّنه من تنويع التعبير والتسمية. ومعلوم أنه كلما تراكمت المدلولات تحت الكلمة الواحدة ازدادت فرص الغموض وسوء الفهم.
ومن أمثلة الخلط البارز في السنوات الأخيرة تداخل مفهوم الكونية بمفهوم العولمة وانحصار الموقف بين خيار يقول: إذا كنت تؤمن بالكونية فعليك أن تقبل بكل ما يدور في هـذا العالم المعولم، وآخر يقول: إذا كنت ترفض بعض سمات السائد فعليك أن تقاوم باسم الخصوصية وترفض دعوى الكونية. وقد ترتب على ذلك تضخم الجدل حول علاقة الـذات بالآخر والتقوقع في هـذه الإشكالية بدل الانفتاح على ما هو أولى وأهم، أقصد تحديد الـذات أولا، ما هي؟ وهل هي جوهر ثابت نعارضه بآخر يصور أيضا في صفة الثبات؟ وأقصد مواجهة الـذات بالموضوع ثانيا، لأن الـذات ليست مضطرة أن تتحدد بعلاقتها بالآخر ولكن بما تريده كينونة لها، سواء تقاطع ذلك مع الصورة المفترضة للآخر أم تباين.
لقد عدنا إلى التبسيط في طرح القضية لأننا خلطنا بين العولمة والكونية. ففي الطرف الأول تقف سردية حداثوية ساذجة تريد إقناعنا بأن العالم كله في خير عميم وهو يعمل بأنوار سبينوزا وروسو وفولتير، وما علينا إلا أن ننزع نعلينا وندخل جنة الحداثة راضين مرضيين. وفي الطرف الثاني تقف سردية قومجية ساذجة تريد إقناعنا بأن جنكيز خان لم يمت وأنه يواصل ضرباته المميتة لحضارتنا العتيدة المجيدة فعلينا أن نواصل محاربته بفتاوى الفقهاء وتعويذات الأولياء الصالحين.
العولمة هي تعميم مجتمع الاستهلاك وثقافته وقيمه، وهي ليست ظاهرة سلبية، فقد اتجهت الحضارة الإنسانية نحو المساواة وأصبح الاستهلاك حقا للجميع بعد أن كانت المجتمعات القديمة طبقتين، طبقة الخاصة التي تعيش البذخ وطبقة العامة التي تعيش على الكفاف. لكن هـذه الظاهرة تحتوي أيضا على العديد من الآثار السلبية، فهي تحول الاستهلاك إلى قيمة وحيدة في حياة الأفراد والمجموعات وتقتل الجانب الآخر من الإنسان الذي هو أيضا جزء من حضارته الطويلة، تقتل فيه الشعر والفلسفة والفن الراقي والحساسية والشهامة وضبط النفس والتضحية من أجل القيم النبيلة. العولمة ليست فردوس الحداثة المفتوح للعابرين ولا هي جهنم الغرب يريد تسليطها على الآخرين، إنها نتيجة طبيعية لتطور تقنيات الاتصال وقد بدأت منذ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر ثم استؤنفت بقوة بعد ثورة الأنفوميديا في نهاية القرن العشرين. لكن التطور التقني لا يترادف دائما مع خير الإنسانية، بدليل تطور الأسلحة وأجهزة التعذيب والتجسس وتقنيات التلاعب بالعقول فضلا عن نسخ الخلايا البشرية. من هنا تظل قضية القيم مطروحة، ماذا نأخذ وماذا نرد؟ ليس جواب هـذا السؤال بالفتاوى والتعويذات ولكن بتوسيع دائرة الحرية ليساهم كل فرد في رسم معالم المستقبل، فالحرية هي التي تنشئ القيم وليست القيم هي التي تصادر الحرية باسم الحقائق المطلقة.
لكن الحرية هي أيضا مسار إنساني طويل فيه بعض من التوفيق وكثير من التيهان، والإنسانية تتعلم من خيباتها وتبني قيمها بما رسخ لديها من التجارب والخبرات، فتنشأ بـذلك القيم الكونية المعبرة عن المشترك الإنساني، ويكون من حق البشر أن لا يقبلوا بالتراجع عما استماتت أجيال في الدفاع عنه. والكونية بهذا المعنى ليست مجتمع الاستهلاك وثقافته، ولا هي العولمة الجامعة بين السلبي والإيجابي، بل هي التعبير عن التطلعات الإنسانية الراقية مند أقدم الأزمنة والحضارات. والكونية بهذا المعنى لا تفترض التخلي عن الحس النقدي والمناضلة ضد إرادات الهيمنة وعمليات التلاعب بالعقول، بل هي السلاح الأكثر نجاعة في ذلك. وهي أكثر نجاعة من الفتاوى والتعويذات. وليست الكونية سذاجة الهروب من الواقع والاحتماء بيوطوبيات الفراديس المفقودة أو الموعودة، إنها تتجسد أيضا من خلال الجهد اليومي من أجل تحقيق الخير البشري العام.
يقول البعض: إن المناضلة تفترض التبسيط واستعمال نفس وسائل الخصم. ربما، لكن يخشى أن ينتهي ذلك بالوقوع في نفس بساطته والالتقاء موضوعيا معه في تعميق الخلط المفهومي الـذي يشكو منه الخطاب الثقافي العربي.
الحياة – 14/09/08