… عن الانتخابات والمدن والمجتمعات: سؤال التحولات والجدوى
إبراهيم غرايبة
قد يكون مدهشا أن نتائج الدراسات والمسوحات التي أجريت لمعرفة أسباب العزوف عن الانتخابات والإقبال عليها تؤكد أن العزوف عن الانتخاب ليس مرده إلى موقف سياسي كما يتبادر إلى الذهن تلقائيا عند محاولة تفسير الظاهرة، فهل لظاهرة العزوف عن المشاركة في الانتخابات علاقة بالحالة الاقتصادية والاجتماعية القائمة للمدن في الدول العربية؟ وأين يمكن وضع السؤال في سياق الخصخصة والتحولات الاقتصادية الجارية وعلاقة ذلك بالمشاركة العامة؟
تشكل ظاهرة العزوف عن المشاركة في الانتخابات تهديدا للديموقراطية بالانهيار وفقدان المعنى والشرعية، وهي ظاهرة عالمية تقريبا، فكثير من الانتخابات التي تجري في العالم إنما تتم بأغلبية ضئيلة، ومن ثم فإنها تعبر عن رأي وموقف أقلية من الناس ولا تمثلهم تمثيلا صحيحا.
الدراسات التي أجريت لتحليل الانتخابات والإحصاءات على الانتخابات وعدم الانتخاب حاولت أن تربط المشاركة وعدم المشاركة بمجموعة من المتغيرات التقليدية، مثل التعليم والدخل والعمر والمهنة والجنس والحالة الاجتماعية والعرق ومكان الإقامة، والرؤية العامة التي وصلت إليها الدراسات ربطت عدم المشاركة بثلاثة عناصر رئيسة تشكل البيئة السياسية والعامة للانتخابات، وهي الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، والقوانين المنظمة للانتخابات، والثقافة السياسية السائدة.
ربما يكون أهم اكتشاف معروف عن الإقبال على التصويت هو أن المواطنين الذين ينتمون لمنزلة اقتصادية واجتماعية أعلى يشاركون أكثر في الحياة السياسية، وينطبق هذا التعميم أيضا على التعليم ومستوى الدخل، وقد يساعد ذلك في الإجابة عن سؤال لماذا يصوت البعض أكثر من غيرهم؟
فالتعليم يزيد الضغط الأخلاقي للتصويت، ويزود المواطنين بالمعرفة حول المسائل السياسية التي تمكنهم من المساهمة الإيجابية والإحساس بالعالم السياسي، ويميل المتعلمون إلى الاشتراك في القيمة الجوهرية للتصويت، وإلى الشعور بالرضا العاطفي حين ينتخبون.
ووجد الباحثون علاقة إيجابية بين الدخل والإقبال على المشاركة في الانتخابات، فيزيد الإقبال بزيادة الدخل، ولكن تفسير الظاهرة قد يكون مختلفا عليه، أو يصعب تحديده على الأقل، ويمكن تقدير عدة أسباب لذلك، فالأغنياء يميلون أكثر إلى اكتساب المهارات والمصالح التي تقود إلى المشاركة في الحياة السياسية، ويمتاز الأغنياء بارتباط مصالحهم بالنظام السياسي، وهذا يشكل دافعا للمشاركة في الحياة السياسية لتحديد الخيارات الصحيحة أو المرغوب فيها للنظام السياسي، وهذا لن يكون بالطبع دون المشاركة فيه عن طريق الانتخابات.
ويعتقد بعض المعلقين السياسيين أن الإقبال المتدني على الانتخابات يعكس استياء شعبيا من الخيارات المتوافرة، فإذا وصل المرشحون الصحيحون أو الأحزاب الصحيحة إلى الترشيح فإن الشعب سيندفع إلى مراكز الاقتراع، ولكن المسوحات أظهرت أن المواطنين الذين يشككون بالسياسيين والحكومة يشاركون في التصويت بالنسبة ذاتها التي يشارك فيها الذين يثقون بالنظام السياسي وبنوايا السياسيين.
وفي جميع الأحوال يجب النظر إلى الانتخابات والمشاركة فيها بعناية كبيرة لأنها الطريقة التي تختار بها الشعوب في الدول الديموقراطية حكوماتها، كما أنها المصدر لشرعية الحكومة، والوسيلة التي يؤثر بها المواطنون على السياسة العامة، وفي غالب الأحيان يكون التصويت هو الشكل الوحيد للممارسة السياسية.
والخلاصة التي يمكن الوصول إليها ببساطة عن علاقة الخصخصة بمستوى المشاركة هي أن الخصخصة إذا أدت بالفعل إلى ارتفاع مستوى المعيشة والمستوى الاقتصادي للمواطنين فإن مستوى مشاركتهم وفاعليتهم في الديموقراطية والحياة العامة سيزيد بالتأكيد، وإذا أدت الخصخصة إلى تهميشهم اقتصاديا فسوف تؤدي بالتأكيد إلى تهميشهم سياسيا وإضعاف مشاركتهم السياسية والعامة، حتى مشاركتهم وهم فقراء ستؤدي إلى نتائج غير ديموقراطية، لأن الفقر يؤدي غالبا إلى عدم الاستقلالية في الانتخاب والتفكير والتعامل مع الخيارات السياسية.
إن الديموقراطية هي بامتياز منتج مديني، وارتبطت تاريخيا بالمدن (أثينا وروما) وكانت تجربة الولايات المتحدة الأميرك ية عام 1776 أول ديموقراطية على مستوى الدولة، وفي الحقيقة فإنها كانت اتحادا لمدن وولايات مستقلة، ولكن أمكن تطوير التجربة مع الزمن والممارسة لتكون ديموقراطية مركزية لدولة كبرى، ومن ثم فإن التطلع إلى الديموقراطية يرتبط حتما بمدن حقيقية وطبقات وسطى وغنية واسعة ومؤثرة، وهكذا فإننا في سؤالنا الأزلى عن سبب غياب الديموقراطية قد نجد الإجابة في مدن وطبقات تتفق مصالحها مع الديموقراطية، وبغير ذلك فربما لن تفيدنا الانتخابات برغم نزاهتها وتكرارها.
ولذلك فإن تمدين العواصم وجعلها مدنا حقيقية يجب أن يكون أولوية قصوى للدولة والمجتمعات والشركات أيضا، لأنه بدون هذا التمدن فسوف نهدر الإنسان والمصالح ونخسر التقدم الاجتماعي والاقتصادي المرغوب برغم الجهود والنفقات التي تبذل للوصول إليه.
وفي حالتنا الراهنة يكون السؤال: كيف تكون الخصخصة سبيلا لتمدين المدن والعواصم أو ترييفها؟ هذا السؤال ربما يكون غائبا إلى حد كبير برغم أنه السؤال الأكثر أهمية (ربما) والذي يجب أن يشغل النخب والمخططين والناخبين ودافعي الضرائب، لأن التمدين هو الحلقة الغائبة والتي تضيع عندها وبسببها دائرة التقدم الاجتماعي والاقتصادي المفترض تشكله حول الموارد والأعمال السائدة اليوم في المدن والمجتمعات، ولأنه ببساطة لا تتطور هذه الموارد والأعمال ولا تتقدم إلا في دورة من التفاعل معها تعود عليها مرة أخرى على هيئة موارد وأعمال جديدة.
الاقتصاد في أغلب المدن العربية اليوم يقوم على الخدمات والأعمال والمهن، وهذا يقتضي بالضرورة نشوء مجتمع مديني ينظم نفسه على أساس من الاحتياجات والأولويات الجديدة المتشكلة حول هذا الاقتصاد، ويفترض ذلك نشوء تجمعات وبرامج تنتظم أصحاب الأعمال والمصالح والمهن والأمكنة لتؤثر على الانتخابات على النحو الذي يحمي مصالح الناس وتطلعاتهم ويقدم حلولا لمشاكلهم المتعلقة بحياتهم وأعمالهم، ويؤدي غياب هذا الرابط المديني بين الناس إلى انتخابات مغيبة عن الهموم والأولويات الحقيقية للناس والمجتمعات، ومن ثم ضياع فاعلية الانتخابات والديموقراطية برغم التكرار المتواصل لهذه الانتخابات، لأنها تجري وفق قواعد وأفكار أخرى بعيدة ومختلفة عن الأولويات المفترضة، ومن ثم فإنها (الانتخابات) تتحول إلى برامج وطموحات فردية وعائلية لا تقدم ولا تؤخر في حراك المدن والمجتمعات والنخب والقيادات.
الحياة – 14/09/08