عندما تتلاقى الأفكار لاختراع المستقبل
تهاني سنديان
استشراف المستقبل، علم بات يستحوذ على اهتمام الكثيرين في العالم، من متخصصين فيه أو «مهووسين» به أو متابعين له، وقد صدرت وتصدر، دورياً في الغرب، كتب ودراسات وأبحاث ومجلات متخصصة في هذا المجال الحيوي الذي يوفر مناهج وتقنيات تساعد على بلورة مستقبل أفضل، وتهيئ الأجيال الجديدة للتمكن من أسباب هذا المستقبل ومفاصله، تمهيداً ليسلموها بدورهم إلى من يليهم، وهكذا في دورة بشربة مستمرة من شأنها أن تبقي الحياة البشرية في عرس تطور مستمر.
ولكي نظل متأهبين لعملية اختراع المستقبل، يقترح إدوارد كورنيشن في كتابه «الاستشراق.. مناهج استكشاف المستقبل»، أن نطور أفكاراً حول أشياء لم تحصل في السابق، ولكن يمكن أن تحدث في المستقبل. وقد صقل المستقبليون، وغيرهم، عدداً من التقنيات والآليات للتفكير الإبداعي، ويمكننا الاستفادة من المبادرات والحيل التي اكتشفوها. ويمكن استخدام معظم هذه التقنيات لعدد من الأهداف، لكنها تنطبق بشكل خاص عند اتخاذ القرارات المهمة التي تتطلب الكثير من قدرتنا الإبداعية، وكذلك من معارفنا ومنطقنا.
وفي هذا الإطار يتحدث إدوارد كورنيشن عن اكتشاف الكاتب إسحق عظيموف (متخصص في الكتابة حول المستقبل) لطريقة فعالة في توليد أفكار جديدة قادته إلى إنتاج أفضل كتبه، ثلاثية الخيال العلمي: «الأساسات». وقد هلّ الإلهام حول «الأساسات» عندما كان عظيموف يركب مترو الأنفاق في نيويورك، لرؤية محرر كتبه جون كمبل، وفيما يلي رواية ما حصل على لسان عظيموف:
لدى ركوبي المترو لم يكن لديّ أي فكرة عن رواية لتقديمها له، ولهذا حاولت حيلة مازلت أوصي بها أحياناً. لقد فتحت كتاباً بشكل عشوائي، وقرأت جملة، ثم ركزت عليها حتى جاءتني فكرة. كان الكتاب مجموعة مسرحيات لجلبرت وسوليفان كانت معي بالمصادفة، فتحت الكتاب على مسرحية «أيولانث»، ووقعت عيناي على صورة ملكة الجان تنحني أمام الشرطي «ولس» من حرس «جرنادييه»، تركت لأفكاري العنان: من حرس «جرنادييه»، إلى الجند بشكل عام، إلى المجتمع العسكري، إلى الإقطاع، إلى انهيار الإمبراطورية، الرومانية، وعندما وصلت إلى كمبل قلت له إنني أنوي كتابة رواية عن انهيار إمبراطورية المجرة.
وتشبه آلية عظيموف في إبداع الأفكار كثيرا منهجاً مستخدما منذ القدم من قبل رجال الدين في حل الإشكالات، فهم عندما يكونون قلقين من شيء ما يفتحون الإنجيل بشكل عشوائي، ثم يتأملون في الفقرة الأولى التي يرونها، وغالباً ما تدفعهم هذه الفقرة للبدء بالتفكير بطريقة جديدة مفيدة في حل الإشكال. ويمكن تحقيق التأثير نفسه بفتح قاموس ووضع الإصبع بـشكل عشوائي على كلمة، وإذا لم توح تلك الكلمة بحل للمشكل، حاول بكلمة أخرى، والسبب في أن مثل هذه الآلية قد تنجح، هو أنها تفرض علينا التفكير بطرق جديدة حول الإشكالات. فمن السهل أن تستبد بأفكارنا مشكلة ما، فالأفكار نفسها تجول في دماغنا المرة تلو المرة دون أن تنتج لنا أية فكرة جديدة مفيدة، لهذا نكون محتاجين لأن نفرض على تفكيرنا الخروج من عزلة المشكلة لتتلاقى بأفكار أخرى، ففتح كتاب بشكل عشوائي، والتركيز على أي شيء نصادفه، يفرض على تفكيرنا اتجاهاً جديداً، وكثيراً ما نكتشف إمكانات جديدة لحل مشكلاتنا باستخدام هذه الطريقة البسيطة.
وقد قام مايكل ميكالكو، وهو مستشار حول الإبداع، باستقصاء خاص حول المناهج التي استخدمها عظام عباقرة التاريخ المبدعين في توليد أفكارهم، وكانت النتيجة قائمة من طرق أو وسائل يمكن أن يستخدمها أي إنسان للتفكير كعبقري، أو على الأقل للوصول إلى أفكار إبداعية، وفي ما يلي نماذج من هذه الوسائل:
1 – انظر إلى المشكلة من جوانب مختلفة عدة: كان ليوناردو دافنشي يعتقد بأن أول أسلوب كان ينظر به إلى مشكلة ما يكون دائما منحازا إلى طريقته العادية في رؤية الأمور، لهذا كان ينظر إلى المشكلة من منظور معين، ثم من منظور آخر، ثم آخر، ومع كل تبديل كان تفهمه للمشكلة يتقدم.
2 – اجعل أفكارك مرئية: كان غاليليو يستخدم الرسوم البيانية لشرح أفكاره، في حين كان معاصروه يستخدمون المقاربات اللغوية والرياضية التقليدية، ويمكن للرسوم البيانية أن تكون وسيلة قوية في عرض الأفكار وتحفيز التفكير الجديد.
3 – أنتج الكثير: معظم ما كان العباقرة ينتجونه كان قليل القيمة، ولكن لأنهم كانوا كثيري الإنتاج، فقد كان هنالك احتمال أكبر في أن ينتجوا شيئاً ذا قيمة في نهاية الأمر.
4 – اجمع الأشياء بطرق جديدة: معادلة آينشتاين المشهورة E=MC2 ، جمعت ثلاثة مفاهيم معروفة (الطاقة والكتلة وسرعة الضوء) في علاقة جديدة بما بينها.
5 – افرض العلاقات: كان صموئيل أف.بي. مورس يحاول أن يتصور كيف يستطيع أن ينتج إشارات تلغرافية قوية بما يكفي لإرسالها كل المسافة عبر الولايات المتحدة، وفي يوم من الأيام رأى أحصنة تبدل في محطة تبديل، وهذا ما أعطاه فكرة أنه يمكن الإشارة المرسلة دفعات مقوية بشكل دوري.
6 – فكر في المتعاكسات: وهذا يبدو خطاً مشتركاً بين كل فائقي الإبداع، فهم دائماً يقلبون الأفكار (عاليها سافلها): ماذا لو كنا نكبر لنكون أكثر شبابا بدلا من أن نهرم؟ ماذا لو أكلنا الحلويات قبل الوجبة الرئيسة بدلاً من بعدها؟ لقد فكر «نيلز بور» (الحائز جائزة نوبل) بأن وضع المتعاكسات جنباً إلى جنب، يسمح لأفكار المرء بالانتقال إلى مستويات جديدة.
كاتبة من لبنان