حوار ودفاع
حسام عيتاني
لدى اللبنانيين الكثير مما يتعين أن يتحاوروا بشأنه، لكن لديهم القليل من فرص النجاح في الحوار.
لديهم، أولا وقبل »الاستراتيجية الدفاعية«، إعادة النظر في علاقاتهم الداخلية ومواقعهم من السلطة أو بالاحرى حصص الطوائف منها. فعلى الرغم من الهزات العنيفة التي أصيب بها النظام اللبناني منذ اتفاق الطائف الى اليوم، لم تخرج الدعوات الى النظر في طبيعة الحكم من حيز التحريض الطائفي السطحي على طريقة ميشال عون وأَضْرَابه، الى فضاء البحث الرصين عن بدائل توفر على اللبنانيين المرور بمحن دورية كل بضعة أعوام.
تعديل صيغ الحكم والمشاركة لا تُختصر بمنح صلاحيات لهذا المنصب وسحبها من ذاك، أو التلميح الى ضرورة العودة الى ما قبل الطائف، بل في الإقرار بأن كل الصيغ التي اعتُمدت منذ العام ١٩٤٣ اصطدمت، من دون استثناء، بمتغيرات الديموغرافيا والصراعات الاقليمية وانهارت أو لامست الانهيار، على ما نشهد اليوم.
السجال حول توسيع المشاركة في الحوار أو إبقائها على ما هي عليه لم يخرج، بدوره، من أطر التذاكي الطائفي. وفي الوقت الذي يعرف فيه المشاركون في الحوار ان هامش التوصل الى نتائج عملية ضئيل للغاية، يأخذون جميعا مقاعدهم حول طاولة الحوار لانعدام القدرة على تعديل موازين القوى الداخلية في انتظار الانتخابات التشريعية في اوائل الصيف المقبل. بهذا المعنى لا يكون الحوار سوى عملية شراء للوقت تتسم بذات السمات الطاغية على هذه المرحلة: غياب آفاق التغيير السياسي، ما يعني استئناف الدوران في حلقة السياسة التقليدية المولدة للانقسام والنافية لأي صفة عابرة للطوائف عند الاطراف اللبنانية.
ويمكن فهم ما يتعلق بالاستراتيجية الدفاعية، الموضوع الوحيد على جدول أعمال الحوار، على النحو المبسط الآتي: ثمة جهة تبرعت وأنشأت جيشها الخاص الذي لا هم له سوى الذود عن حياض لبنان، ولوجه الله، من دون أن يكلف دافعي الضرائب اللبنانيين قرشا واحدا. غير ان الطابع النكد لبقية سكان هذه البلاد، وعمالة بعضهم للخارج، يدفعانهم الى رفض هذه النعمة وإبداء الشكوك الممزوجة ببطر من لا قبل له على القتال. السؤال البديهي في السياق هذا: لمَ الإصرار على تفكيك المقاومة أو دمجها في الجيش أو الاستغناء عن خدماتها ما دام لبنان في دائرة خطر الاعتداءات الاسرائيلية ما دام غير قادر على بناء قوة عسكرية رادعة؟
الجواب يحمل في طياته تشكيكا في الطابع »الخيري« للمقاومة ووقوفها خارج الانقسامات الداخلية، بحسب التجربة الشهيرة في أيار الماضي حيث استخدم »السلاح للدفاع عن السلاح« وبسبب الارتباط البنيوي لهذه المقاومة بمحاور وسياسات إقليمية لا يمكن مساءلتها ولا فهم علة كرم أصحابها الطائي على المقاومة ما لم يكن أرباب السياسات هذه متأكدين من حصولهم على خراج دعمهم وجزيته، في نهاية المطاف كما في أوله.
ولعل رغبة حزب الله في زيادة عدد المشاركين في الحوار ترمي الى إبعاده عن مركز السجالات المتوقعة. لكن يجوز هنا الذهاب الى استنتاج يقول ان المقاومة، بما هي تعبير عن تطلع الطائفة الشيعية، أو الأجزاء الأكبر منها، الى تعديلات ملموسة في آليات السلطة وممارستها، غير راضية عن تعريتها من رمزيتها. فوضعها على طاولة الحوار، بندا وحيدا في إطار البحث عن استراتيجية دفاعية، يحرمها من إطارها الذهبي، كحركة صراع ضد الاحتلال ومن ثم الخطر الاسرائيلي، ويجعلها مادة محض طائفية ومسحوبة من السياق الذي جهدت لتقديم نفسها فيه.
النظام اللبناني غير مطروح للنقاش اليوم على مائدة الحوار إذاً، بل ان الاستراتيجية الدفاعية وحدها هي موضوع البحث. بيد أن ذلك يخفي مسألتين مهمتين، أولاهما أن الاستراتيجية المذكورة تهدف الى الدفاع ليس عن بلد مؤلف من جبال وسهول وكمية من البشر فحسب، بل قبل هذا وذاك، عن نظام سياسي يتعرض الى الأخطار من داخله قبل الخارج، وفق ما بينت التجارب الماضية والحاضرة. والثانية ان الموافقة على بقاء المقاومة على سلاحها، يفترض توسيعا لتفويضها الممنوح لها، في البيان الوزراي وفي الامر الواقع، الى الدفاع عن النظام السياسي الذي يشكو جمهورها منه، قبل غيره من اللبنانيين.
لكن، على جاري عادة لبنانية، حصل التعويض عن العجز الكلي بفعل جزئي. فامتناع النظام اللبناني على النقاش، على ما ظهر في الأحداث التي قادت الى اتفاق الدوحة، جعل البحث يتجه الى تناول هواجس كل طائفة بمفردها ابتداء من هواجس طائفة المقاومة (والتنمية).
وليس مفهوماً على وجه الدقة ما الذي يتوقعه »أقطاب« الحوار من جلساتهم. لكن اذا كان الخيار بين القنابل الليلية والاشتباكات المفاجئة وبين الجلسات الحوارية، فما من شك أن الأريب يختار الجلسات وان على مضض وبرم.