صفحات أخرى

هل أصبح الرأيُ مُعْتلاً؟

جاك جوليار

(ترجمة بسام حجار)

 

في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان: “سيّدة العالم”، يطرح المؤرّخ والصحافي الفرنسيّ جاك جوليار أسئلة حول الصعود الحتميّ لديموقراطية الرأي وحول أثرها، ومخاطرها.

جاك جوليار هو المدير المنتدب والمعلّق السياسيّ في مجلّة “لونوفيل أبسرفاتور” الأسبوعية الفرنسيّة، وهو أيضاّ مدير للدروس في معهد “EHESS “. له عدد من المؤلفات من بينها “قاموس المثقفين الفرنسيين” (بالاشتراك مع ميشال وينوك)، وآخر ما صدر له “الشقاء الفرنسي”. أمّا “سيّدة العالم”، الكتاب الذي اخترنا منه هذه المنتخبات، فقد صدر الأسبوع المنصرم في سلسلة “كافيه فولتير” عن دار نشر فلاماريون.

1

نحن نسير قُدُماً نحو نظام “ديمقراطية الرأي” Doxocratie . نحو سلطان الرأي المتمايز عن أشكال الديمقراطية الأخرى. إذ يسعنا، في الحقيقة، أن نميّز في لفظة “الديمقراطية” ثلاث تنويعاتٍ للسلطة الشعبيّة. هناك أولاً، الديمقراطية المباشرة، على غرار ما كان سائداً، فيما مضى، لدى اليونانيين ولدى نادي اليعاقبة (الفرنسيين)، وما يعنيه ذلك من حضور ملموس للشعب في المداولات. فنظام الحكم القائم على اجتماع الشعبِ مثل هذا لم يعد وارداً اليوم في حقلِ الممارسة إلاّ استثنائياً في فترات الأزمة: هكذا نشأ، على سبيل المثال، نظام (مجالس) السوفيات في روسيا العام 1917، والمجالس الألمانية غداة هزيمة العام 1918، والمجالس الطالبيّة في عام 1968، وسواها… ولا حاجة إلى القول هنا إنّ تجمّعات الحشود الغفيرة تكون عرضةً لأشكال الاستغلال والتلاعب من كلّ نوع، وهذا ما تدركه جيّداً جماعات اليسار المتطرّف غير الجماهيريّة. إلى ذلك، يمكن القول إنّ هذا الضرب من الديمقراطية يصطدم بعقباتٍ جسامٍ لها صلة بقياس الحجم. إذ يمكن أن نتخيّل إمكان حصولها في دوقية لوكسمبورغ الكبرى، على سبيل المثال، غير أنّها، غير ممكنة بالتأكيد، في الصين التي يبلغ تعداد سكانها 1.3 مليار نسمة.

وهناك ثانياً، النظام التمثيلي التقليدي، كما شهدناه منذ القرنين الثامن والتاسع عشر في البلدان المتقدمة الرئيسية في كلّ من أوروبا وأميركا الشمالية. وهو النظام القائم على إناطة السيادة الشعبية، من طريق التوكيل، بطبقة سياسيّة ذات هيكلية صارمة ومغلقة نسبياً، غير أن أبرز ما يميّزها هو كونها أصيلة في ليبراليتها وعقلانية في نزوعها الاجتماعي.

وهناك أخيراً ديمقراطية الرأي القائمة على التدخّل المستمرّ للرأي في الشؤون السياسية، والذي نشهده تقريباً في كلّ مكان. ولكن إذا سلّمنا جدلاً بأن ديمقراطية الرأي هي أقل غوغائية من الديمقراطية المباشرة، وأفضل تعبيراً عن الإرادة الجمعيّة من النظام التمثيلي، فإنّها لا تخلو من مثالب لا يُستهان بها.

2

ديمقراطية الرأي هي نظام يتمايز عن أنظمة الحكم الأخرى: فهي ديمقراطية إعلامية، مباشرة، دائمة.

إعلامية: لأنّها تدين بنشأتها وشيوعها إلى تعدّد وسائل التعبير: صحافة مكتوبة، ومسموعة، ومتلفزة، وعبر الأنترنت. ومن نتائجها أنّها تهفّتُ، على أكمل وجه، مثال الممثّل الوحيد، كليّ العِلم، كليّ الكفاءة، كلّي الحضور، الذي هو مثال النظام التمثيلي. ففي عصره الذهبي كان يُضفى على ممثّل الشعب مختلف الفضائل. وكان هو المؤهّل للتعبير عن الرأي في تنوّعه وعن الشعبِ بمجمله. وكمشرّع كان يدلي بدلوه في حسم الأمور كافّة. غير أنّ هذا الوهم قد تبدّد اليوم. والمنتخبون من قبل الشعب أنفسهم هم أوّل من يقرّ بذلك، فيكثرون من تشكيل اللجان الخاصة، ومجالس الحكماء، واستشاريات الخبراء. أي أن مصادر الشرعية أصبحت عديدة.

في موازاة ذلك، تحرّر الشعب من الفرضيّة المسبقة القائلة بعدم كفايته المبرمة. ذلك أنّ ديمقراطية الرأي هي البروز المفاجئ للشعب في المراكز التي يتقرّر فيها مصيره. ولعلّ الجمع بين الثورة التكنولوجية ورغبة الشعب في المشاركة هو ما أدّى إلى نشأة ديمقراطية الرأي هذه.

مباشرة: لأنّها تتحرّر من الوسطاء. فالبرلمان ـ وهنا تكمن هزيمته ـ بات يُعتبَر عقبة، لا رابطاً. ذلك أن أزمة “أدوات الحكم الثلاث” الكبرى التي أنتجها القرن التاسع عشر، أي الانتخابات العامة، والأحزاب، والبرلمان، إنّما هي أزمة واحدة وحيدة لن نتجاوزها إلاّ بسعينا لإعادة هذه المؤسسات الثلاث إلى معترك ديمقراطي بدا أنّه ابتعد عنها.

إلى يومنا هذا، يبدو واضحاً أنّ ديمقراطية الرأي تميلُ إلى قيام نظام حكم رئاسي. فالنظام الرئاسي يمثّل المواجهة المباشرة بين الرأي العام والرئيس بصرف النظر عن الهيئات القائمة. وما يفعله نيكولا ساركوزي اليوم هو الذهاب بهذا النظام إلى حدوده القصوى: ذلك أن الحكم بالرأي لا يعتمد، كما في السابق، البرلمان وسيلة للتعبير عن نفسِه، بل التلفزيون. إنّه حكمٌ بالعاطفة حيث تشقى العقلانية في العثور على محلّ لها.

دائمة: وهي السمة الرئيسية. إنّ نظام الحكم التمثيلي هو نظام ديمقراطي مرّة كلّ خمسة أعوام، وهو أوليغارشيّ (أي حكم القلّة) بين المرّة المرّة. فبعد أن ينتخب الشعب ممثليه، لا يبقى له إلاّ حقّه في أن يسدّ فمه. ومن هنا سقمه (أي الشعب) من هذه الديمقراطية المتقطّعة والوهمية، لأنّه لم يجد نفسَه فيها. والحال أنّ دوركهايم يقول: “إنّ الديمقراطية هي الشكل السياسيّ الذي يبلغ المجتمع من خلاله وعيه الخالص لذاته”. ولعلّ من لا يرى في هذا الصعود الطاغي للرأي في نطاق الشؤون العامة إلاّ طرقاً مستمرّاً على الأعصاب أو طغياناً للحظة وسبقاً مطلقاً للعاطفة، إنّما يخطئ في تقدير هذا البعد الجوهري. فالرأي هو في المقام الأول المشهد الذي ينشئه المجتمع لنفسِه. إنّه هويته التي يعيها لكي يتوصّل تدريجاً إلى السيطرة الكاملة على ذات نفسِه. إذ ليس بوسع المجتمع الذي يريد أن يكون راشداً نفسَه أن يتّكل على كبار قومه لكي يصنع لنفسه صورةً ومصيراً. متحمّلاً كلّ التبعات. ولو من تكرار الخطأ تلو الخطأ. ولتطمئنّ النُخَب التي تخشى أن تفقد دورها المركزيّ: ففي هذه الحال تغدو مهمّتها على قدر لم تشهده من قبل من الأهمية. غير أنّها لا بدّ أن تغيّر من طبيعتها: فإذا تقلّص احتكارها لدور قيادة المجتمع تدريجاً، فإنّها ستغدو مربيّته.

3

صحيح أنّ مجتمعاً كهذا يفقد على نحوٍ مأسوي كلّ نقاط اعتلامه. فلا وجود لكاهن الرعية وأستاذ المدرسة والمناضل لكي يلقنّوه الخير والشر، والعدل والظلم، والجمال والدمامة. وفي هذه الحال مَن يضطلع بمهمّة التدليل على المعايير والقواعد؟ لا أحد في حدّ ذاته، فهذه المهمّة يضطلع بها التلفزيون عموماً! لم يسع التلفزيون يوماً إلى الاضطلاع بهذه المهمّة غير أنّها أنيطت به لغياب البديل. لا ينطق بأية موعظة معلَنة، وإنّما يعرض موعظة شخصيّاته الضمنية، موعظة أبطال مسلسلاته الأميركية، وبرامج ألعابه الغبيّة، ولاعبي كرة القدم الذين ليسوا أقل غباء، ومقدّمي برامجه الذين يحلّ انتفاخ أناهم محلّ سيرهم الذاتية ومراجعهم.

إذاً ما هي هذه الموعظة؟ إنها تكمن أولاً في امتداح المال وجميع الوسائل التي تفوق أي تصوّر لكسبه. ثمّ أنها تمجيد متمادٍ للعنف، وشريعة الأقوى والأقلّ التفاتاً لتأنيب الضمير. فوراء مظاهر الترفيه والتسلية، يمتدح التلفزيون في كلّ ساعة، عبر أبطاله، قيمَ الرأسمالية المتوحّشة، تلك التي لا تقرّ بأنّها كذلك غير أنّها تمارَس على هذا النحو على الدوام. يزداد التظاهر بالخشية من ذهنية “الشباب”، الهامشيين، أبناء الضواحي، والتلاميذ الراسبين في مدارسهم، وغير ذلك. ولكن ليقل لي أحد بالله عليكم أين يبحث مثل هؤلاء عن قدواتهم؟ في التلفزيون طبعاً! ما يفاقم المشكلة في مجتمعاتنا ليس تحرّر الأفراد أو أنماط تفكيرهم والأنانية الناجمة عنها؛ بل إن المشكلة تكمن في المنبع، وتتعدّى ذلك أشواطاً: إنها تكمن في التعارض الصارخ بين روح الجمهورية وبين روح الرأسمالية. بلى، الرأي مُعتلّ، غير أنّ اعتلاله لا يكمن في النرجسية وحدها: بل في خبث طبقاته الحاكمة.

4

اليوم وقد بات تعداد سكان فرنسا 64 مليوناً، لا نرى أن طبقة السياسية أوسع مما كانت عليه في عهد مَلَكية دافعي الضريبة (من أجل الاقتراع). ذلك أن احتكار الترشيح من قبل الأحزاب هو ضمانة الطبقة السياسية التي تعاود إنتاج نفسها إلى ما لا نهاية، من دون أي تجديد تقريباً أو انفتاح على ما هو خارجها: وهذا في الحقيقة ما قد نعتبره نقيضاً للانتخابات العامّة. لو لم تتدخل أصوات المنتسبين الجدد (مقابل عشرين يورو للفرد اذا شاء الانتساب، بدل الصيغة السابقة التي كانت تقضي بالمرور بدورات حزبية) لما كان لسيغولان رويال حظّ في أن تكون هي مرشّحة الحزب الاشتراكي لانتخابات الرئاسة الفرنسية. ولعلّ فوز رويال بهذا الترشيح هو خير تعبير عن ثورة الرأي العام على الطبقة السياسية. إنّ مستقبل الديمقراطية يقوم إذاً على إمكانية التعايش، لا بل التعاون، بين النظام البرلماني وبين النظام القائم على الرأي العام. فمن دون الثاني قد يعاني الأول من الاختناق؛ ومن دون الأول قد يكون الثاني معرّضاً للفوضى.

 

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى