صفحات أخرى

أزمة النظرية السياسية في الإسلام.. جدل التأصيل والواقع

مراجعة: ريتا فرج
إذا كان الإسلام ثورة الشرق على حد تعبير هيغل، فإن التحولات التي شهدها التاريخ الإسلامي المبكر بدءاً من اجتماع السقيفة كانت بمثابة المنعطف الجذري، الذي ولّد حالة من التذرير والانقسام المتجذر على خلفية قيادة أمر الجماعة بعد وفاة الرسول؛ ورغم أن الصراع بين المسلمين الأوائل اتخذ طابعاً سياسياً وقبلياً، لكن افتقاد النص المقدس للخطاب الإلهي الذي يمكن أن يقنن هذ الصدام بإستثناء “وأمرهم شورى بينهم” زاد من فعالية الأزمة التي تركت مؤثراتها حتى الوقت الراهن على قاعدة الافتراق لا الاتفاق.
في أطروحته “السلطة في الإسلام نقد النظرية السياسية” ينطلق عبد الجواد ياسين من فرضيتين أساسيتين، أولاهما، النظرية السياسية في الإسلام نظرية وضعية لم يؤسسها النص، بل التاريخ؛ ثانيهما، عدم استجابة هذه النظرية لمعايير الحداثة السياسية والإجتماعية؛ ومن خلال ما أسماه “تعددية السلفيات الإسلامية” يدرس الكاتب ثلاثة نماذج في مقاربته لإشكالياته، أهل السُنة والجماعة، الإمامية الاثني عشرية، والإباضية أي الخوارج، التي أسست بدورها لعقول لا يجمعها سوى الخلاف على السلطة، وهنا أدت الفرق الكلامية والمذهبية دورها في تأجيج جدلية الصِدام عبر حشد أكبر قدر ممكن من الأدبيات السياسية، التي لم تخرج بنظرية تحمل بذور التطور لجهة ما يفرضه الواقع من متغيرات، مما أحالها الى نوع من التكرار الفقهي تحت لواء الخلافة حيناً والإمامة حيناً آخر. وبكثير من القراءة الواقعية يؤرخ ياسين للمشهدية التاريخية المنتجة لهذه السلفيات؛ فمنذ نشأتها لم تعمل على مقارعة نظريات الحكم خارج مجالها، مما جعلها عبارة عن طاقة فقهية تدخل في سياق الرد والرد المضاد، ولم تستطع حتى اللحظة تحديث ارثها السياسي، فدخلت في ما اصطلح عليه ياسين بـ”أزمة العقل الإسلامي المعاصر”.
يصنف الكاتب رؤيته لنظريات الحكم في الإسلام، فالخلافة عند السُنّة قامت على أساس “تنصيب التاريخ في موقع النص”، والإمامة “حولت التاريخ الى نص صريح”، أما العقل الإباضي فقد بنى سلفية خاصة، فهو لا يأخذ كثيراً من التراث لكنه أقرب الى السلفية السُنيّة. وعلى قاعدة التعارض قامت نظريات الحكم أو الآداب السلطانية، فالسنّة نادت بالإجماع، والشيعة قالت بالنص لمواجهة دعوى الاجماع مما أدى الى نوع من التنصيص السياسي. وفي قراءته لموقع المحكوم أو الرعية بين النظريتين، يلفت الى غياب “الجمهور”، ويحيله الى مسألة الحرية التي لم ترد في الجدل الكلامي، واستخدم مكانها مصطلحات من مثل خلق الأفعال والقدر والاختيار؛ ولعل ما أشار اليه ياسين يشكل فحوى أطروحته، فالرعية المُغيبة عن السلطة تمثل إشكالية الإشكاليات، فهل التصادم بين الخلافة والإمامة ساهم في عزل الفئات الجماهيرية عن الحكم بسبب انشغالها في تأكيد مشروعيتها؟ غياب الاستبداد الأوتوقراطي عن الوعي الجمعي، هو الذي بلور هذه الوضعية، فالتعاقب الطويل لتسلط نظام الحكم في الإسلام طوال المرحلة الأموية والعباسية، كان له التأثير الأعمق، وعليه الى أي مدى يمكن الحديث عن نوع من العبودية المختارة؟
تحت عنوان “السلطة تنظر الى السلطة” يفند ياسين الارث الفقهي لمفهوم الخلافة منظوراً اليها على قاعدة ولاية المتغلب والصبر على ظلم الحاكم، وعبر جزمه بأن “الخلافة ليست نظرية في الدولة أو الحكومة بل هي نظرية في الحاكم” يستنطق الكاتب الآداب السلطانية المؤسسة لهذا الطرح، مؤرخاً لبداياتها التنظيرية التي بدأت منتصف القرن الثاني، وأسفرت عن حقل كلامي، وأستقرت بإقرار شرعية السلطان المتغلب زمن العباسيين. وفي مقارعته لنظرية الخلافة، يقسمها الى ثلاث مراحل تاريخية تبدأ بدولة الراشدين وتنتهي بدولة التفويض السلطانية التي أنشاها البويهيون. مع الدولة الأولى القائمة على أهل الحل والعقد واستخلاف الحاكم، تمّ التدشين لمفهوم الخلافة السُنية التي شكلت الجواب العكسي للإمامية الاثني عشرية، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي، كان بمثابة المصدر الأهم في معالجته للخلافة، وهنا يتساءل ما الذي جعل بيعة أهل الحل والعقد ملزمة للأمة؟ وهل هم طرف أصيل يمثل ذاته؟ أم هم وكلاء عن الأمة فمن الذي فوضهم؟ وبرأيه أن نظرية الخلافة اكتفت بالاجماع في اختيار الحاكم، عدا أن التشريع السُني لم يعمل على تأصيل الأحكام فأغفل المصدر الحقيقي لمبدأ الاختيار، ويلفت الى أن مسألتي التوريث والشورى تعتبران من الأعراف السائدة في الثقافة القبلية قبل الإسلام وبعده، والذي عزز حضورها النتاج الفقهي المتمثل عن الماوردي وابن حزم وغيرهما؛ بدليل أن التوريث كان حاضراً في الحقبة الجاهلية وتحول مع الوقت الى حكم ملكي عرف تجلياته في الخلافتين الأموية والعباسية؛ فأين هي المعارضة عند السلفية السياسية السنية؟ تحت مسمى أحكام البغاة التي تعني الخروج المسلح على سلطة الحاكم بوصفها بغياً يستوجب القتال، يجيب الاتجاه الرسمي عن هذا التساؤل، فالفقه الشافعي، يعرف البغاة بأنهم “مسلمون خالفوا الإمام ولو جائراً بخروج عليه”.
على الجبهة الأخرى من النظرية السُنية في الحكم، ظهرت نظرية الإمامة الاثني عشرية، التي صاغت ملامحها الأولى، مع التشيُع المبكر، حين أبدى الإمام علي بن أبي طالب معارضته لنتائج اجتماع السقيفة، بعد أن اعتبر أن الخلافة هي استكمال للوصية، مما أدى الى التنظير للإمامة الوراثية. لم يختلف التشيع السياسي عن الخلافة، فقد تمّ تحويل توريث القرابة القبلية الى وصية منصوصة من خلال حشد أكبر قدر ممكن من الروايات والتأصيل لها، عبر قلب التاريخ الى نص صريح؛ والإمامة تجلت على يد الباقر في القرنين الثاني والثالث، وبنت نظريتها على فكرة “الامامة بإعتبارها منصباً في الدين يجاور منصب النبوة ويتممه”، والإمام لا يرادف الخليفة ووظيفته مكملة للنبوة، الى أن أكملت عدَّتها في التأسيس لنائب الإمام أو النيابة العامة، وفقاً لخط استخلافي أقامته نظرية ولاية الفقيه وإن بأزمنة متأخرة، قوامه: الله، الوحي، الرسول، النص، الإمام، النيابة العامة، الفقيه.
رغم محورية التقسيم الثنائي للنظرية السياسية في الاسلام بين السنَّة والشيعة، يطرح الفقه الاباضي تنظيره أيضاً، والاباضية التي تلقب نفسها باسم المحكِّمة أو أهل النهر، قدمت نظرية خاصة بالفرقة وليس نظرية عامة بالسلطة، وهي تقوم على أربع إمامات، إمامة الظهور، إمامة الكتمان، إمامة الدفاع، وإمامة الشراء، وأستبعدت مفهوم القرشية برمته، ومسألة التوريث الأموي السنّي والعلوي الشيعي. ومثل الاتجاه السني يفتقد الفقه السياسي الاباضي لنظرية الدولة، لكنه يتفق معه بالأخذ بمبدأ الشورى في اختيار الحاكم من قبل أهل الحل والعقد، وليس من قبل الوصية المنصوص عليها لشخص معين كما عند الشيعة.
لقد صاغ عبد الجواد ياسين مادة علمية شديدة الكثافة، وجادل النظريات السياسية في الفرق الإسلامية الأساسية، معتمداً على مناهج متعددة في مقاربته الجادة، من تحليل مضمون الى المقارنة الى النقد الرصين. وأهمية الاطروحة تنبع من عدة اتجاهات: أولها، إستحضار النصوص التاريخية والفقهية والبناء عليها؛ ثانيها، إجراء المقارنة بين نظريات الخلافة والإمامة والجماعة؛ ثالثها، الموضوعية والابتعاد عن الخطاب الانشائي، والخروج بمساءلة جوهرية: لماذا عجزت النظريات السياسية الثلاث عن محاكاة الواقع والإجابة عن أسئلة الحداثة؟

[ الكتاب: السلطة في الإسلام، نقد النظرية السياسية
[ الكاتب: عبدالجواد ياسين
[ الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت 2009
المستقبل

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى