من أجل فكر ديموقراطي في سورية
علي المحرز
لقد تفكك المعسكر الاشتراكي، وسقطت أنظمته الشمولية، وذهبت شعوبه إلى صناديق الاقتراع لتنتخب ممثليها وحكوماتها، وبدأت تنتهج اقتصاد السوق، وتمارس السياسة في عالم حر.
كانت نهاية المعسكر الاشتراكي انتصاراً للمعسكر الرأسمالي، الذي لم يوفر جهد بالإعلان الدائم عن أنها نهاية حتمية. وفي غمرة الانتصار، أعلن فرنسيس فوكوياما، الذي استحضر مقولة لهيغل عن الدولة، في أن النظام الرأسمالي، بفكره، وسياسته، واقتصاده، هو النظام الأمثل والأخير في التاريخ.
وما زلنا نحن – أبناء يَعْرُبٍ – في صفِّ المتفرجين الحياديين على حيوية شعوب الأرض، وأُممها في صناعة مستقبلها. لكنْ للأمانة التاريخية، البعض منا يحُلُم في تجربة صناديق الاقتراع، واختيار الممثلين.
إنها حقبة الديمقراطية، التي وُظِفتْ، لأجل نشر قيمها، كل ماكينات الإعلام، والسياسة، وحتى الجيوش حاربت باسمها. وبجرّة قلم، كما يقولون، أُضيفت كلمة الديمقراطية إلى اسم أغلب الأحزاب المعارضة، وغير المعارضة في سورية، وفي دنيا العرب. على اعتبار أن النظام الديمقراطي هو نظام الحاضر والمستقبل، الذي كُنّا حتى الأمس القريب، نعتبره جلبابَ كهنوتٍ زائفاً ومخادعاً يُخفي قُبحَ العالم الرأسمالي. كما واُعتبرت، الديمقراطية، شرطاً لازماً لإعادة الاعتبار للدولة الوطنية التي لم تستوفِ شروطها التاريخية، بالمعنى الجمهوري. ولم تكن الحكومات المتعاقبة على الحكم في سورية، منذ الاستقلال وإلى الزمن الحاضر، على مستوى المسؤولية التاريخية لإنجاز هذا الاستحقاق الوطني. باستثناء تجربة برلمانية يتيمة، كانت الأولى في العالم العربي، وهي تجربة عام 1954.
أخذنا بالديمقراطية، واستخدمناها شعاراً، وعنواناً، يفتتح خطابنا السياسي. لكن الديمقراطية، الفكرة والثقافة هُمشّتْ، رغم افتراضنا بضرورتها لأجل التغيير، الذي لا يكون إلا بالفاعلين الاجتماعيين الذين يشكلون الأساس الأول في أي عملية تغيير، وفي أي نظام ديمقراطي. نحن بحاجة لإطلاق الديمقراطية، كفكر وثقافة، قبل إعلانها، كعنوان للتغيير. وقبل ذلك كله، يجب التفكير في استحقاق أهم، ألا وهو كيف تستطيع الجماهير، أو الرعية المسلوبة الإرادة والحرية، في أن تكون فاعلة، لتحدّ من سلطة الدولة التعسفية كي تكون دولة حق وقانون تقود وترعى كافة أشكال الفصل ما بين السلطات.
إن دولة الحق والقانون، هي بالضبط مضمون الدولة الوطنية التي أسست لها البرجوازية في الغرب، والتي تَعتبِر حرية الأفراد إحدى مضامينها، وهي دولة الاقتصاد الحر الذي يُنتِج مجتمعاً مدنياً، وتراتبيه اجتماعية، ومواطنية تنبثق منها فكرة قانون الأغلبية التي تناضل لإلغاء التراتبية الاجتماعية من أجل المساواتية. مضمون الدولة الديمقراطية. الدولة التي تقوم كذلك على فكرة الحرية الليبرالية، وعلى فكرة العدالة الاشتراكية التي لا تُعقلْ إلا بإرجاعها إلى مفهوم الأغلبية، أحد مضامين الديمقراطية؛ لا إلى مفهوم السيادة الشعبية. إذ أنه، باسم الشعوب، ولأجل سيادتها، جاءت الدولة القومية الاستبدادية، والدولة الشمولية الشيوعية. لذلك لا أرى أن الديمقراطية تساوي الليبرالية زائد مفهوم الشعب. الديمقراطية بمعناها الحديث، تقوم على فكرة الحرية الليبرالية زائد مفهوم الأغلبية.
إن ما يُفضي إلى مفهوم وقانون الأغلبية، ليس مفهوم الشعب، بل مفهوم المواطنية. كما تُفضي الحرية إلى النمو على كل الصعد، الأمر الذي يتيح في المجال الاجتماعي، ولادة المجتمع المدني – أحد أهم بنى النظام الجمهوري الحر- الذي يعتبر ساحة مصالح لا تعبر عن ذاتها إلا سياسياً. وفي مرحلة تاريخية لاحقة، يستطيع المجتمع المدني خلالها، التعبير عن ذاته حقوقياً وقانونياً وسياسياً، فتنشأ الجمعيات والمنظمات والأحزاب، وتظهر شرائح الأكاديميين والمفكرين. من هذا الوسط بالذات، تولد إرادات فكرية وسياسية، تمتاز بالحس الوطني، وتستطيع حينئذ، صياغة مطالب عامة، تمس حياة أغلبية أفراد المجتمع. وكل ما يحصل بعد ذلك، يخدم الخيار الديمقراطي. إن الفاعلين الاجتماعيين، والمجتمع المدني، هما قوتا التغيير في المجتمعات الحديثة.
وللمجتمع المدني، خاصية أخرى، بحكم موقعه الوسط بين الدولة، والفاعلين الاجتماعيين. هو الأكثر قدرة على التعبير السياسي عن مصالح الفاعلين، والأكثر قدرة على الحدّ من سلطة الدولة.
في قولنا السابق، صورة عن مجتمع، استطاع فعلاً تجاوز معضلاته التاريخية، وبدأ يعذُّ خطواته باتجاه الحداثة. أما في المجتمعات العربية، وسورية مثالنا الحيّ على ذلك، حيث يغيب الفاعلون عن الفاعلية، ولسان حال المجتمع ينطق بالأهليّة، أي أن مجتمعنا أهليّ أكثر منه مدنيّ. أهليّتُنا، ما قبل الحداثية، تميل إلى التضامن والوحدة، عبر قنوات العائلة والعشيرة والدين والعروبة والقومية. رغم أن ذلك هو شرط تاريخي وطبيعي للشعوب في مرحلة ما من تاريخها، إلا أنه لم يصل إلى غاياته المنشودة في مجتمعاتنا. فالعوامل المهيئة لذلك، من دين، وأرض، ولغة، وجغرافيا، وشعوب، أفرزت بدل الوحدة، وباسمها، ظاهرة الدولة التسلطية، مُجيّرةً كل العناوين السياسية والفكرية للنهضة، التي شكّلتْ وعينا وضميرنا، مثل الأمة، والقومية، والدين، لأجل تكريس وتجذير نظام التسلط والقهر والاستبداد، لدرجة الصعوبة في إمكانية الفصل بين ذاتنا وعوامل هذا القهر.
هذا لا يعني أننا – كشعب ودولة – معفيون من المسؤولية الأخلاقية، والوجودية، لما نحن عليه. لقد ارتضينا لأنفسنا نظاماً جمهورياً، منذ الاحتلال الفرنسي، لم يكن أميناً لقيمه في مسألة الحقوق، والحرية، والمواطنية، التي تعتبر مدخلاً إلى النظام الديمقراطي. كلها رُحِّلتْ إلى المجهول باسم الوحدة والاندماج، ليبقى الاستبداد، ومجتمع الرعية.
لذلك، نحن بحاجة لإعادة الاعتبار للدولة التي تقوم على القانون والحق، الدولة التي تعتبر بحق، المدخل الوحيد إلى الدولة الديمقراطية. دولة تُؤَسس على سلطات تمارس عملها بمعزل عن بعضها، وتعتمد على القوة الاجتماعية والسياسية، الضامن الأكيد لتحويل دولة الحق والقانون إلى وجهة تلائم مصالح المحكومين. إذ لا يسع فكرة الديمقراطية أن تكون منفصلة عن فكرة الحقوق، ولا يمكن لها أن تقتصر على مسألة حكومة الأغلبية إلا باعترافها مسبقاً بحقوق الأقليات. إن مفهوم الأغلبية والأقلية المعترف به في النظام الديمقراطي يقوم على أساس المصالح الاقتصادية والسياسية. لا على المعترف به الآن في مجتمعنا، والقائم على أساس الانتماء الديني والعرقي.
إن الديمقراطية تقوم على ثقافة التنوع والاختلاف، وعلى فكرة الحرية لأكبر عدد ممكن، وعلى فكرة التعارض القائم بين حقوق الإنسان وواجبات المواطن. وأية رؤية للديمقراطية تأخذ في الاعتبار حق الاستحواذ، والاعتراف بالمذهبية، والطائفية، كما في لبنان والعراق، وتُبقي مجال التسامح قائماً، تعتبر رؤية متعارضة مع النظام الديمقراطي، والثقافة الديمقراطية، التي تُعرّفْ كجهد للتوفيق بين الوحدة والتعددية، وبين الحرية والاندماج من جهة؛ وبين رابطة الأنظمة المؤسساتية المشتركة مع الحق في تعددية المصالح والثقافات من جهة أخرى. أما المواطن، والفرد، والحُرّ، لا يكون إنساناً، إلا في انتمائه للجماعات الاقتصادية أو الثقافية. وكل علاقة مباشرة بين سلطة وثقافة معينة ليس للأغلبية مصلحة فيها؛ وبين دولة وديانة بشكل خاص، هي في طريق الديمقراطية كالعصي في العجلات.
لقد أثبت النظام الديمقراطي نجاعته، وجدواه، لدى أغلب شعوب العالم. لكنّ هذا لم يعفِهِ من العيوب، والقابلية للانجراح، والتعرض المتكرر للامتحان. إنه النظام الأكثر شفافية، والأكثر مخاتلة، لأنه يقوم على فكرة الديمقراطية التي تحمل على جناحيها طوبى العدالة والمساواة؛ ولأنه النظام الذي يمثل القوة، والنفوذ، والمصالح، مستفيداً من كل العلوم والتكنولوجيا كي يلعب بالإنسان لأجل تدجينه، وإبقاء السيطرة عليه. وما شهدناه من ادّعاء دول العالم الرأسمالي بانتصارهم الديمقراطي، الذي ينتهي عنده التاريخ، كان ادّعاءً مغالياً؛ إذ أنّ مؤشرات الضعف في المساهمة السياسية، وشعور الأفراد بأنهم مُستَهَلِكون أكثر مما هم مواطنون في ظل كافة أشكال السيطرة من السلطات على الأفراد، وعلى الرأي العام. باسم الشعب والأمة والتاريخ التي تقلق من أن تؤول إلى منح الدولة شرعية لم تعد تأتيها من انتخابات حُرّة، والتي بدأت تهتم فعلاً بالأجهزة الأمنية والمراقبة والتنصت. كل هذه الممارسات تتنافى مع تعريف الديمقراطية في تحديد السلطة، والاستجابة لطلبات الأغلبية. وتتطابق مع كل دعوة في مجتمعنا تحت عنوان الأمة ، أو مصالح الشعب، أو الانتماء إلى زعيم. وتتنافى مع الدعوة الليبرالية ” كمرادف للحرية ” للدفاع عن الفاعلين الاجتماعيين ضد الدولة. الحرية التي لا تشتمل على فكرة التمثيل ، وفكرة المواطنة، بل تضمن فقط غياب أشكال القهر.
لقد حاول المفكر الفرنسي آلان تورين في كتابه ” ما الديمقراطية “، تقديم ثلاثة أنماط للنظام الديمقراطي، هي:
1- النمط الأول: يسبغ أهمية مركزية على تحديد سلطة الدولة بواسطة القانون والأعراف، بالحقوق الأساسية، كما في بريطانيا.
2- النمط الثاني: يولي أهمية كبرى للمواطنية، والدستور، أو الأفكار الأخلاقية، أو الدينية، التي تؤّمن تلاحم المجتمع، وتمنح القوانين أساساً صلباً. فتحرز الديمقراطية تقدماً هنا بفعل إرادة المساواة أكثر من الرغبة في الحرية، كما في أمريكا. هذا ما يؤكده دي توكفيل، بالقول، أن هذا النمط ذو مضمون اجتماعي أكثر منه سياسي، وهذا انتصار للمساواة.
3- النمط الثالث: يُلّحُّ إلحاحاً أكبرعلى الصفة التمثيلية الاجتماعية للحاكمين، كما في فرنسا التي تعتبر متميزة عن باقي الدول الديمقراطية بدستور علماني صرف.
إن أنماط النظام الديمقراطي التي صنّفها آلان تورين في كتابه، هي أنماط غير محدِدة لتطبيقات الديمقراطية على مستوى العالم. إذ ليس للديمقراطية نمط مركزي. إن النظام الديمقراطي رحب، لأنه يقوم على فكرة الديمقراطية ذات الآفاق المفتوحة، مما يتيح لأي شعب ممارستها بما ينسجم وخصوصيته، ما يضفي عليها اغتناء دائم. الديمقراطية ممكن أن تكون دستورية، أو ليبرالية، أو تنازعية، لكنه قائمة على علاقات بين مبدأ شمولي ومصالح فردية ومجموع السياسي. وفصل بين السلطات. لكنها لا تُعَرّفْ بناء على ذلك، وإنما تُعَرّفْ بناء على الروابط بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي والدولة. إن قاعدة الديمقراطية هي حقاً تحديد سلطة الدولة. وأرى، أنّ مدخلها إلى مجتمعا على قاعدة المواطنية، وحق العيش للجميع بكرامة، وحماية الأفراد من تعسُف السلطة غير المحدود لتماهي الزمني بالروحي. مما أضفى على النظام هيروقراطية ( مقدّس الحكم )، الدين كدين معفي منها، ومن أن يكون خصم الحرية والعقل.
بعد هذا النقد للدولة، لكنها تبقى الأساس الثالث للديمقراطية، بشرط أن تكون في خدمة المجتمع وإرادات أبنائه في الحرية، وتحمُّلْ المسؤولية، وليس فقط ، وهي في خدمة البلاد. لكن لا توجد دولة ديمقراطية بحدِّ ذاتها، نظراً لمجموع وظائفها التي تتمثل في الدفاع عن وحدة المجتمع وقوته، الناتجة عن حق التعدد الثقافي مع الولاء للوطن. ومن الأخطار الخارجية، وفي الدفاع عن الذاكرة الجماعية، والتخطيط. كلها مهمات لا تمتُّ للديمقراطية بِصِلة. فقط المهن والمؤسسات السياسية هي مكان الديمقراطية، التي في مضمونها ليبرالية، وخصوصاً عندما تتماهى الليبرالية مع الديمقراطية في مهمة تحديد السلطة. علماً أنّ النظم الليبرالية ليست بالضرورة ديمقراطية، لكنّ الفكر الليبرالي الأوروبي مهّد للديمقراطية، وهو يحارب الاستبداد والإقطاع والكنيسة.
أما التحول، في أوروبا، من النظم الليبرالية إلى الديمقراطية، فقد جاء على يد الشعوب وحركاتها العمالية، عندما أفقرتها التراتبية الاجتماعية والسياسية والحقوقية. مؤسسة بذلك للمساواتية التي تعتبر ساحة الديمقراطية النشطة من خلال مطالب اجتماعية وعروض سياسية متوافقة معها، بين مئات اجتماعية وأحزاب سياسية.
أما خطر الأحزاب على الديمقراطية، ذلك عندما تُعَبّر هذه الأحزاب عن مصالح أقليات، ومع بعض التحالفات، ممكن أن تكسب نفوذ لا علاقة له بقيمتها الموضوعية. إنّ الأحزاب التي تصوغ مطالب عامة هي التي يمكن أن ترتكز على معارضة اجتماعية حقيقية. وإنّ أي انحياز من قبل الأحزاب لصالح الدولة، يدمّر ويعيق التحقق الديمقراطي، ويتنافى مع شرطها الأساسي ” تحديد السلطة “، والأخطر في الديمقراطيات الغربية، مثل أمريكا وإيطاليا، هو تكديس المال على حساب أعضاء الأحزاب، لضمان نجاح مرشحين معيين. والأخطر من ذلك كله، ما يجري في مجتمعنا من ممارسة غير ديمقراطية، وباسمها، عندما تستهلك المعارضة السياسية ذاتها، بحرب المحاصصة، والتخوين بالقرب من سلطة الداخل، أو التخوين بالعمالة للخارج. علماً، أنّ الممارسة الديمقراطية هي في الالتفات إلى ما يُعَبِّرْ فعلاً عن تطلعات المجتمع في الحدِّ من الظلم، أي إيجاد التوافق بين مطالب المجتمع والعروض السياسية للأحزاب. والعمل على نشر ثقافة الديمقراطية، مثل الوعي بالعدالة والمواطنة والحقوق الأساسية والحريات.
إنّ ما يعتبر ضرورة الآن، هو الجهاد الديمقراطي للفاعل السياسي، لاستحضار الفاعل الاجتماعي من رحم المجتمع، والتعاضد معه، لأجل إعادة الاعتبار للدولة الوطنية، دولة القوانين الأساسية والدستور، على الرغم من معارضتها الشكلية للدولة الديمقراطية، كونها تقوم على اتحاد الدولة بالمجتمع، لكنها هي التي تسمح بمساحة حرية، يمكن اعتبارها الضامن الأول، للانتقال السلمي إلى الدولة الديمقراطية.
أما الضامن الثاني للديمقراطية، فهو التربية على قيم الديمقراطية، انطلاقاً من كون الديمقراطية ثقافة إنسانية.
والضامن الثالث للديمقراطية، هو اقتصاد السوق الذي يُطْلِقُ المبادرة ويُحَرِّكُ عجلة التنمية؛ مع الحدّ من سلطة الدولة، لأنه يناضل دائماً لأجل حيّزه وحريته التي لا ينافسه في ذلك سوى الدولة. وما نراه حالياً في سورية، من توجه اقتصادي حر، بإدارة مالية واقتصادية من قبل النخب الحاكمة، أو الدولة، والذي يُعاب عليه تعثّره، وضعف جدواه. إلا أنّه المدخل إلى مجتمع تختلف أولوياته عن أولويات المجتمع الحالي، ومهما تكن رقابة الدولة حينها، رقابة صارمة على المجتمع، لن تكون كافية كي تمنع حصول مطالب عامة بدلالات سياسية لذلك المجتمع.
نحن في زمن، لا تُفهم الديمقراطية فيه إلا على قاعدة الاختلاف والتماثل. هذه الطبيعة المزدوجة للعلاقات الإنسانية تتوافق وطبيعة الفعل الاجتماعي. كل فرد مختلف عن الآخر، وهو متماثل مع الآخرين في الانتماء إلى جماعة؛ هذا ما ينتج حركية فردية تترافق مع هدف عام، يمضيان معاً كروح لماضي ومستقبل. وهذا يَفتَرِضُ، أولاً، كي تكون الديمقراطية حقة وفاعلة، أن يكون المثقف الديمقراطي على مستوى المسؤولية الأخلاقية، التي تُعَرِفُ به، المثقف الذي واجبه في التأمل ونشر ثقافة الديمقراطية، بدءاً من مبادئها، وإلى مضامينها الإنسانية، والكونية. لا يوجد مجتمع إلا وينزع إلى العدالة والمساواة، وإلى الحرية والعيش بكرامة؛ هذا ما يُعَرِّف بالديمقراطية ومبادئها، أمّا مضامينها، فآفاقها مرتهنة بخصوصية أي مجتمع، لكن ليس لمجتمع قضيته الأساس لقمة العيش، ومستقبل أبنائه. ويَفتَرِضُ، ثانياً، أن تكون المرأة في صلب التفكير والفاعلية الاجتماعية، لا ديمقراطية بدون المرأة، الحب، والحنان، والأم، والمدرسة. الديمقراطية بدون أنوثة، هي صَلَفُ رجال في عالم القوة.
إنّ فهمنا للديمقراطية متواضع، لكنّ هذا لا يمنعنا من أن نبدأ بها من منازلنا، ومن ثُمَّ إلى حياتنا ونشاطاتنا. مع جهود المثقفين الذين كلما ساهموا بنشاط أكبر، كلما تمّ التعرف على مجالات جديدة للديمقراطية.
النداء