الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لجريمة رجل أعمال
إفتتاحية الأهرام
هناك جوانب عديدة للقضية التي تفجرت أخيرا، ووجهت فيها النيابة العامة إلى هشام طلعت مصطفى، النائب البرلماني ورئيس ومالك إحدى الشركات العقارية الكبرى في مصر تهمة التحريض على قتل فنانة لبنانية وجدت مذبوحة في دبي، وانتهت تحقيقات النائب العام فيها بتوجيه الاتهام إلى ضابط شرطة سابق بارتكاب الجريمة، بتحريض من هذه الشخصية الاقتصادية والسياسية المرموقة. فلقد حملت هذه القضية لنا جميعا أخبارا سيئة من زاوية أن هناك مواطنين منا قد تردوا إلى هذا المستوى من الجريمة، وهو ما عكس حالة من الإحباط لدى الكثيرين، ولأن موضوع الجريمة بكل مشتملاتها يتعلق بقضية العدالة التي نثق بها، فإننا يجب أن نتركها للقضاء، فهو وحده القادر على أن يدين أو يبرئ من وجه إليه الاتهام.
ولكن ما يجب أن يستوقفنا هو الجانب العام لهذه القضية التي هي بحق إحدى قضايا الرأي العام من كل جوانبها. وهذا الجانب من الأزمة يثير فينا بعد الثقة، بل الاعتزاز من زوايا عديدة أهمها ما يلي:
أولا: المهارة والقدرة الفائقة لأجهزة التحقيق في مصر التي تتسم بالسرعة في الوقت نفسه، والتي مثلها النائب العام عبد المجيد محمود الذي اتسمت قراراته بالحكمة وبعد النظر والسرعة والحسم معا. فقد أدرك منذ الوهلة الأولى مخاطر التحقيق في قضية رأي عام بمثل ما تمثله هذه القضية، فمنع النشر وأجرى التحقيق بسرعة ودقة، وتم التوصل الى تحديد القاتل والمحرض. وصدر قرار الاتهام وأصبح الجميع أمام العدالة بكل قوتها وفاعليتها في بلدنا، مؤكدا ما نعرفه من تجذر العدالة والحقوق في مصر، وقد علمتنا السوابق قدرة قضائنا وأنه ينأى بمكانته عن أن يكون محلا للنقد، ويكشف مثل هذا النوع من الجرائم لنا دائما أن مصر بلد لا أحد فيه فوق القانون والأدلة عديدة.
فالكثيرون ممن كانوا يتصورون أنهم أصحاب نفوذ وسلطة ومال من وزراء ومحافظين ورجال أعمال وغيرهم كثيرون، واجهوا العدالة فأدانتهم أو برأتهم في درجات التقاضي المختلفة التي تضمن العدالة بمساواة كاملة بين الجميع.
ثانيا: إن ما يروجه البعض عن نفوذ أو تدخل في القضاء هو الكذبة الكبرى التي لا تصمد أمام الحقيقة التي أصبح الجميع يعرفونها، وأنه لم يعد في مصر أصحاب نفوذ أو مراكز قوى منذ سقوطها في السبعينات. إذ لم تعد مرة أخرى، وعلى من تحكمهم عقدة المؤامرة أو إثارة الشائعات أن يعيدوا التفكير، حيث لم يعد أحد فوق القانون في مصر ولن يكون.
وما يعطينا الثقة في استمرار هذا المنهج هو قدرة ومهارة واستقلالية السلطة القضائية التي تثبتها كل يوم أمام المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها مصر بكفاءة تحسد عليها، وكذلك مساحات حرية الرأي الواسعة التي تنتشر في بلدنا، والتي تجعل الرأي العام مشاركا أصيلا لا يمكن اغفاله، ومؤثرا، بل وتحكم مؤشراته كل مستويات القرارات في مصر بما لايسمح بتجاهله. وهذان الضمانان: استقلالية القضاء، ومساحات الحرية الواسعة التي تضمن المشاركة هما مصدر الثقة في عدالتنا، وفي حفظ حقوق جميع المواطنين والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات واحترام القانون وتنفيذه.
ثالثا: ما أحدثته الجريمة بكل أبعادها المثيرة من الأثر السلبي على قطاع اقتصادي مهم لمصر، وهم مجموعة رجال الأعمال، وما تركته من الأثر المدمر عن أن القطاع الخاص عبارة عن مجموعة من الرأسمالية المتوحشة التي ترتكب الجرائم الشديدة الغباء وتنتقل الجريمة هنا من محاكمة شخص – مهما يكن جرمه – إلى محاكمة الثروة أو محاكمة فئة معينة، وبالتحديد محاكمة رجال الأعمال كلهم ووضعهم جميعا في قفص الاتهام مع هشام طلعت مصطفى، وبدلا من التخصيص عادة ما يتجه الرأي العام إلي التعميم… وتلك خطيئة كبرى.
وإذا كانت الجريمة هنا تخص الشخص، فإنها يجب ألا تمس الشركة أو حتى العائلة، وهنا أذكر أن مؤسس هذه الشركة المهندس الراحل طلعت مصطفى، كان من رجال الأعمال العصاميين وكانت سمعته وأداؤه المهني في قطاع المقاولات محل احترام وتقدير في الأسواق في كل سنوات حياته وعمله. وهنا نعيد تأكيد أن جريمة شخص ما حتى ولو أدين، لا تعني أن احترامنا المبادرة الفردية سوف ينقص، أو أن الجريمة تنسحب على كامل أعمال الشخص، إذ يجب أن يظل احترامنا للقطاع الخاص، المنتج والمبدع والخلاق، قائما لأننا من المقتنعين بأن إنتاج السلع والخدمات يجب أن يكون مسؤولية هذا القطاع، وليس مسؤولية الحكومات، وأن اهتمامنا ورعايتنا القطاع الخاص
ليست رعاية لأفراد بعينهم أو مجموعات أو أسر محددة، ولكنها رعاية للفئة المنتجة، وحماية المجتمع لضمان تطوره ونموه باستمرار، لأن القطاع الخاص هو قاطرة التنمية في عالمنا المعاصر ولا يتغير هذا الاقتناع بارتكاب جريمة فردية يجب أن يحاسب صاحبها عليها وألا يمتد تأثيرها أو يعمم على كل المنتجين، وإلا وقعنا في خطيئة كبيرة لن تكون ضد الآخرين أو الأبرياء، ولكنها ضد أنفسنا ومجتمعنا ومستقبل تطوره فلن ينهض اقتصاد على أيدي الحكومة أو القطاع العام وحدهما. فقد مرت مصر بمراحل صعبة وعديدة في الإصلاح الاقتصادي عومل فيه المنتجون أو من يطلقون عليهم الرأسمالية المصرية معاملة شديدة الجفاء والإجحاف، بما جعلها تتخوف وتعجز عن المشاركة سنوات عديدة، ولعل الآباء الذين تحملوا مسؤولية إنشاء الشركات وتطويرها، ودفعوا القطاع الخاص الى الأمام، يشعرون اليوم بالخوف من جريمة فردية للأبناء، قد تدفع المجتمع إلى توجيه الاتهامات وإثارة المخاوف من المستقبل.
ولكننا هنا، وقد عشنا مع جيل الآباء ورأينا معاناتهم في إنشاء الشركات ودفع اقتصادنا للأمام. علينا أن نعيد تربية الأبناء على قيم حقيقية، وأن نعيد ترشيدهم على روح المنافسة واكتساب العلم والقيم الحقيقية للتطور والنمو، وأن يعرفوا أن المجتمع في مرحلة تطوره الراهنة قد أعطاهم الكثير ومنحهم ميزات اقتصادية، حققت لهم تراكما رأسماليا وثروة لا تحدث في أجيال عديدة، وعليهم أن يدركوا مخاطر إدارة هذه الثروة وتنميتها، وأن هذه الأموال ليست ملكهم وحدهم، ولكنها ملك للمجتمع، وأن الثروة مسؤولية تلقي على أكتافهم أعباء كبرى والتزامات وضرورات جديدة عليهم أن يتحملوها بشجاعة وأن ينبذوا من بينهم المنحرفين.
ولا يفوتنا هنا أن ننوه إلى قدرة الاقتصاد المصري على إدارة مثل هذه الأزمات، فعندما يسقط أحد رجال الأعمال الكبار ويقدم للمحاكمة تتأثر عادة الأسواق.
ولكننا نشير هنا إلي تطورين اقتصاديين مهمين.
أولهما: ما بدأ تطبيقه في مصر بعد تشرين الاول عام2000 من زيادة الاهتمام بمشكلات الشركات العائلية الكبيرة، والاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المضمار والتي كان من نتائجها الانهيار الذي أثر على شركة إنرون الأميركية وترتب عليه تطبيق ما عرف بعد ذلك بنظام حوكمة الشركات بمعنى الضوابط التي تحكمها وليس تحويلها إلى حكومية، والذي خلق هياكل جديدة للشركات وظهرت معه مجالس الإدارة القوية التي ضمت عددا من المستقلين من أصحاب الخبرة الذين ليست لهم مصلحة مباشرة وليس كل أعضائها من الملاك أو أفراد العائلة المالكة للشركة أو المؤسسة، كما تغيرت قواعد القيد في البورصة والتي كان من نتيجتها عندما طبقت في عام2005، خروج 500 شركة لا تنطبق عليها قواعد القيد ليكون هناك ضمان كامل لحقوق المساهمين.
وهذا النظام أدى إلى نضج نظام الشركات في مصر وتطورها وزيادة قدرتها وتحولت إلى شركات مساهمة حقيقية وقوية تحمي حقوق الملاك الصغار أمام المالك الكبير، كما وضع النظام مصالح الأقليات في الاعتبار وأعطى ضمانات للشركات باستمرارها ونموها، ولأن معظم الشركات العائلية كانت تتعرض دائما للتدهور بعد الجيل المؤسس، وتزداد الخلافات العائلية والشجارات بين أفراد الأسرة الواحدة بعد الجيل الثالث، فقد وجد أصحاب الشركات في القواعد الحاكمة لنظام الحوكمة فرصة لاستمرار شركاتهم. فإذا كان الجيل المؤسس يريد العائلة واستمرارها فإنه من هذا المنطلق يسعى للحفاظ على الشركة، فالقواعد المنظمة والشفافية وظهور مجالس إدارة حقيقية مستقلة هي ضمان للعائلات المستثمرة، واستمرار رأس المال ونموه باستمرار، وبالتالي لاتتعرض للانهيار أو الخلافات أو للسقوط بتأثير مباشر للأحداث أو الخلافات أو المشكلات المختلفة.
أما التطور الثاني الذي يهمنا في قضية الشركة العقارية الكبيرة التي تعرضت للتغيير والتأثر بعد الحادث الأخير، والذي حمى المودعين والمتعاملين مع شركة طلعت مصطفى فيتعلق بالقواعد التنظيمية التي وضعها البنك المركزي لضبط الائتمان الموجه لشركات التنمية العقارية حتى تؤمن المصارف والاقتصاد المصري من هزات غير محسوبة مثل تلك التي حدثت في مطلع التسعينات والركود الذي طال السوق العقارية.
وتلك الهزات التي أصابت أسواق المال العالمية أخيرا من جراء قروض الرهن العقاري، والتي كان من أهمها أن الائتمان يغطي التكلفة الحقيقية للمشروعات، وليس القيمة السوقية عند بيع الوحدات وبالتالي يخلق هذا الأسلوب قدرا لا يستهان به من التمويل الذاتي من هذه المشروعات، كما تتضمن أن يكون الائتمان متماشيا مع نسب ومعدلات التنفيذ والبناء، وضوابط كثيرة أخرى لضبط الائتمان وحماية المصارف من أن تتعرض لهزات تتأثر بسوق العقارات. هذه السياسة كشفت عن أننا استفدنا كثيرا من الهزات الاقتصادية التي أثرت على أسواقنا طويلا، وسببت كثيرا من الركود وتأخر معدلات النمو.
ولعل أهمها أزمة شركات توظيف الأموال التي استمرت من عام 1988 ولم تنته إلا في عام 2000 عندما وضعت الحكومة برنامجا للحل واستمرت هذه الأزمة لمدة12 عاما، وأقلقت الناس وأثرت في الاقتصاد المصري وكانت لها آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة، وتبعثرت على أثرها مدخرات الناس التي بلغت في ذلك الوقت أربعة مليارات وخمسمئة مليون جنيه وتأثر بها في ذلك الوقت نحو 600 ألف وبلغ عدد الشركات المنهارة 104 شركات تعمل في توظيف الأموال.
أما عن مشكلة التعثر التي واجهت الاقتصاد المصري في التسعينات، والتي كان من الممكن أن تمتد الى إفلاس كامل للشركات والمصارف العاملة، فقد كان حجم التعثر كبيرا وكان سببا في ركود وتأخر النمو الاقتصادي لعقد كامل كما أنه أوجد معدلات بطالة كبيرة وكان لتجاوزها آثار إيجابية كبيرة على إصلاح أوضاع الجهاز المصرفي وتأثير سحري على الاقتصاد المصري وزيادة معدلات النمو وقدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية.
ومن ثم فإنه يجب تحصين الاقتصاد المصري من العودة إلى دوامة الأزمات والتعثر بزيادة قدرته على مجابهة مثل هذا النوع، فلا نريد ركودا أو شركات توظيف أموال أو نواب قروض أو شركات متعثرة، ومن الضروري ان يمتد هذا التحصين من قطاع المقاولات إلى قطاعات أخرى في الاقتصاد المصري ولا نريد لاقتصادنا أن يواجه أي نكسة أو يتأثر في المستقبل.
ولا أعتقد أن حادث جريمة عاطفية أو جنون وقتي أصاب أحد رجال الأعمال ودفعه إلى الجريمة مع معرفة أن كثيرا من الجرائم التي تتفشي في عالمنا ترجع إلى بعض الجوانب العاطفية أو حالة من الإحساس بالقوة المتولدة عن تقدير مرضي حتى ولو كانت في إحدي الشركات الكبري التي لها تأثير في حياة الناس… لا اعتقد أن هذا الحادث سيؤثر في قوة اقتصادنا واندفاعاته للأمام.
ولكن يجب علينا تحصين الوعي الشعبي بأن جريمة رجل أو حادثا فرديا لا تنسحب على الجميع أو على السياسات التي نتبعها لتشجيع التنمية والتطور والنمو والاعتماد على القطاع الخاص، وأننا لا يمكن أن نستمر في أي سياسة اقتصادية إلا بالقبول الشعبي لها.
فالقبول الشعبي لدور القطاع الخاص في التنمية هو عملية استراتيجية وضرورية وستقع المسؤولية علي رجال الأعمال لتلافي الأثر السلبي، الذي يتولد من مثل هذه الجرائم على المجتمع، والناس، وليدرك الجميع أن السياسيين لا يعملون إلا بالقبول الشعبي، وان أخطاء وجرائم بعض رجال الأعمال تولد في المجتمع ولدى الناس مخاوف لا يمكن تجاهل تأثيرها بسهولة.
*(رئيس التحرير)