لماذا يتجدّد العنف في الجزائر؟
إمحمد مالكي (*)
مرَّ صيف هذا العام دامياً في الجزائر، فقد ضرب العنف مدناً في شرق البلاد، وحاول الامتداد إلى مناطق أخرى ليثبت أن وجودَه قائم، وأن قوته، خلافاً لما تدعي أجهزة الدولة، تتنامى باستمرار.. ففي يومي 19 و20 من شهر آب 2008 حصدت آلة الإرهاب خمسة وخمسين قتيلاً، معظمُهم من المدنيين، وتركت عشرات الجرحى والمعطوبين، وبعد يوم من وقوع التفجيرات تبنى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي العمليتين، وهو الذي تصاعد نشاطه منذ إعلان “أيمن الظواهري”، في رسالة مبثوثة، عن تحول شمال إفريقيا نقطةَ ارتكاز لمنظمة القاعدة الأم. يُذكر أن في 11 كانون الأول 2007 شهدت العاصمة الجزائرية أعنف عملية إرهابية منذ عام 2000 قُدرت حصيلتها بسبعين قتيلاً ومائتي جريحاً، وقبل العمليتين الأخيرتين بخمسة أيام (14 آب 2008) تعرضت منطقة “سكيكدة” في شرق الجزائر لعملية تفجير مماثلة، بل إن العنف مستمر وتُرجح التوقعات تصاعد وتيرته أكثر.. إنه حقاً صيف الدم في الجزائر.
يتساءل المرء عن مصادر استمرار التفجيرات في الجزائر وديمومة الإرهاب كابوساً مرعباً للبلاد والعباد. ففي الوقت الذي بشّرت مؤسسة الرئاسة منذ عام 2005 بأن مستقبل الجزائر سيكون وردياً، والإرهاب في طريقه إلى الانقراض، وعدد الإرهابيين لا يتجاوز الثلاثمائة من الأفراد مقطوعي الأوصال التائهين في أدغال جبال القبائل، نلاحظ تصاعد وتيرة التفجيرات كميّاً، وتميزها نوعياً، بل إن الاستفتاء الرئاسي حول مشروع المصالحة الوطنية (2006) الذي نزع تهمة الإرهاب عن آلاف الجزائريين، لم يوقِف آلة التقتيل الجماعي في صفوف المدنيين والعسكريين على حد سواء. فهل يُفهَم من ذلك أن نزعةَ الإرهاب غدَت متأصلة في ثقافة جزء مهم من الجزائريين، وأن خلاصَ المجتمع منها أصبح عصيّاً على الأقل في الزمن المنظور.
ثمة قراءتان لتفسير ديمومة الإرهاب في البلاد الجزائرية: تنطلق الأولى من فرضية اندحار الإرهاب، وحتمية انتصار الدولة عليه، ويذهب أصحابُه إلى أن تصاعد موجات العنف دليل على أن الإرهابيين يعيشون لحظاتهم الأخيرة، وأن نهايتَهم وشيكة. في حين تروم القراءة الثانية التشديدَ على استمرار جذور نزعة الإرهاب في بنية الدولة والمجتمع، وتُنبِّه إلى أنها مرشحة للتصاعد إذا لم تتم مقاربتها بطريقة جدية، عميقة، وشمولية، ويبدو أن للقراءتين معاً قدراً من الصدقية في تفسير مصادر تجدد الإرهاب في بلاد الجزائر.
يصعب في تقديري فصل موجات العنف والإرهاب عن تاريخ الدولة في الجزائر. فمن المعروف علمياً أن الدولة الجزائرية تعرضت لتدمير تدريجي ومنهجي، خصوصاً خلال المرحلة الاستعمارية الطويلة (1830 ـ 1962)، حيث تمَّ تقطيع كل أواصر نسيجها الاجتماعي، أي الأجهزة الوسيطة، من زوايا وأعيان ومؤسسات المجتمع الأهلي، كما دُمرت مجمل مقومات هويتها وشخصيتها الوطنية، من دين ولغة وتاريخ. فحين استقلت البلاد وجد الجزائريون أنفسهم أمام مجتمع بدون دولة فعلية، كما لم تفلح نخبة ما بعد الاستقلال في صياغة مشروع مجتمعي مؤسس على قدر معقول من التوافق الوطني، يعيد إحياء مفهوم الدولة وتوطينه في النسيج المجتمعي العام، بل إن شيوع النزعة الشعبوية وضمور قيمة الديمقراطية في الثقافة السياسية لدى النخبة القائدة ساهما في تعميق بذور الانقسام في المجتمع الجزائري، وهو انقسام نابع عن سوء توزيع السلطة والثروة بالدرجة الأولى، وقد كشف تراجع الريع النفطي عن خطورة هذا الواقع أواخر ثمانينيات القرن الماضي، مما أدى إلى أحداث خريف 1988 التي فتحت باب الكارثة الوطنية، وساعدت على انبثاث روح العنف والإرهاب في الجزائر.. ويبدو أن المعالجات الرسمية لم تفلح حتى الآن في اجتراح مقاربة ناجعة لتطويق المأساة والتصدي لها في أصولها.
لذلك، تتأسس المقاربة الجديدة المطلوبة للتصدي لآفة الإرهاب على جملة معطيات، تبدو ضعيفة في المجال السياسي الجزائري اليوم. يتعلق المعطى الأول بإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد، يُخرج الدولة الجزائرية من الانسدادات التي طالت مؤسساتها وثقافتها السياسية منذ ثمانينيات القرن الماضي. في حين يخص المعطى الثاني مشروع المصالحة الوطنية الذي قدمته مؤسسة الرئاسة حلاً للأزمة المستدامة في الجزائر، وطرحته بمرسوم على الاستفتاء الشعبي دون فتح نقاش وطني واسع وشامل حول حيثياته ومقاصده، والحال أن مشروعاً من هذا النوع كان يتطلب تحسيس كافة الإرادات الوطنية لإنضاجه وتوفير شروط نجاحه.
ومن اللاّفت للانتباه أن قطاعات واسعةً من المواطنين الجزائريين ومكونات الطبقة السياسية تتساءل وهي تكابد حُرقة الإرهاب، عن دور المصالحة الوطنية في إنهاء موجة الإرهاب، واستعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع الجزائر، والأكثر تستغرب صمت مؤسسة الرئاسة أمام تزايد حصيلة الضحايا الأبرياء من المدنيين والعسكريين.
(*) أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز الدراسات الدستورية والسياسية، مراكش ـ المغرب.
المستقبل