حرب الأقنعة في العراق
علي سيريني
ما وراء القناع قداسة المظهر وفضاوة الجوهر
العراق ككيان سياسي معاصر، أي الدولة الإقليمية/القومية صنعٌ إنكليزيٌ (عزيز). إن تربية الأجيال على الإنشداد نحو حماسٍ ملتهب دائماً، مرفقاً بمشاعر وجدانية ذائبة في براءة مصطنعة ومثيرة، بنزوحٍ نحو الذوبان في لون الجماعة القومية، شعوراً بالإنتماء إلى الكيان (يبلغ أحياناً ذروة من الحدّة تعجز الأوصاف عن وصفه)، تمتدُ ـ تلك التربية ـ من خطوط وهمية، تريد القفز باستمرار فوق الواقع نحو الخيال، مستقراً فيه يفرض إرادةً من مفرداته (مفردات الخيال) ليجعل منها واقعاًً، ما يلبث يرتد بعنف نحو واقع حقيقي يقف على نقيض من ذلك، ويحمل فوضى عارمة، يجعل الواهم ينفصم، وينفجر غاضباً لما من بعادٍ بين الحقيقة والهوى: ما خاله من الوهم نزوحاً نحو مبتغى غير محصول.
إن الحماس للوطنية العراقية، كان ولم يبرح على هذا المنوال!
صانع المشهد، الإنكليزي(كناية عن صنّاعه الغربيين المتجانسين المتحالفين) يمتّعه هذا الجري، وهذا الدوران الذي يشبه في وجه منه، دوران الروليت، كلّما ازدادت دوراته، رمى بالأموال نحو صاحبه، فيما الخاسرون في كمدٍ، خاويةٌ أحداقهم إلا من الخيبة والحسرة. هذا هو حال الإنكليز وإخوانهم مع العراق، والعراقيين إصطلاحاً.
العراق منذ ولادته، ليس تخصيصاً، فالداء عضال أصاب كيانات المنطقة كلها، يعيش الدمار والجوع والخوف. لم يستقر هذا البلد عهداً إلا وكانت النوازل به تقيم.
ومردّ هذا البؤس كما يود بعضهم تفسيره، ليس الأكراد أو الشيعة، اللهم إلا إذا سلّمنا بداية أن نجيز العقل صرفاً في نقاش المسألة.
الشيعة في هذا تحديداً أقحِموا في التهلكة، كما حال تكوينات أخرى في كيانات أخرى وليدة، أقامها إحتلال خارجي مظفر، مثل سوريا، تركيا، كويت، لبنان والدول الأخرى.
يجب لتمام الرؤية، وشمول النظرة، معرفة أن هذه المنطقة ـ شئنا أم أبينا ـ كانت خاضعة لإرادة مشتركة بشكل عام، منذ فجر الإسلام وإلى أفول الدولة العثمانية. تحبُّ هذا التأريخ أم تكرهه، تقبله أم ترفضه، هذا ما جرى!
العراق ككيان وليد هو جزء من محيط متجانس بتفاوت. إقتطع الإحتلال الخارجي هذا الجزء من رقعة أكبر بكثير، وأقام فيه ملكاً عضوضا تلاه زمنٌ عضوض، فسلطة لا تقوى على القيام إلا بالقيامة على رؤوس خلقه، خلق العراق.
وعبر تقسيمات ذاك الإحتلال اختلط الحابل بالنابل، فغبنت فئات، ورفعت فئات إلى مقامات ذليلة، وإن بدت ذات وجاهة وسطوة، بالقياس مع المغبونين (الكُرد مثلاً)، لأن رقابها ظلّت ملفوفة بحبل الأمر والنهي، الذي مسك به الإحتلال مذاك وإلى اليوم!
وعبر هذا استطاع هذا الإحتلال التحكم بكل زوايا االرقعة، حتى إذا حرّك طرفاً كانت الأطراف الأخرى تهتز وفق نغمته ومشيئته!
هذا هو العراق!
العراقيةُ وطنيةً ولُحمةً، مُشتركٌ لفظي وشعاري بين الفئات العراقية، على إختلاف تلاوينها وأشكالها.
لكن المشترك المذكور، ليس سوى ذلك القناع/الأقنعة، التي تستر الوجه الحقيقي للفئات والجماعات المتصارعة في العراق.
وخلف كلّ قناع يبرز قناع، حتى إذا بان الوجه الحقيقي كان في قبحه أكره على النظر رؤيته، ناهيك عن التصفيق له وإتباعه في وهم الإنتماء والكينونة/السراب.
العراق بهذا الوصف نموذجٌ للدولة الشرقية الإقليمية/القومية، قليلاً أو كثيرا،ً بين هذه الدولة أو تلك (لغةً فقط أما إصطلاحاً فأقلّ من دويلة).
يُخوّن بعضٌ، من هذه الفرقة العراقية أو تلك، فرقة أو جماعة أخرى، في ما يتعلق بالإلتزام الوطني العراقي. والحال ليس هناك منهم من هو أكثر إلتزاماً بالوطنية من الآخر.
تيارٌ ما يتهم تياراً أو إتجاهاً آخر، بالخيانة أو البراءة من العراق، ويطرح نفسه ضمناً كمجسدٍ لهذه الروح الـ”متشبعة” بالعراق. ولكن الواقع على نقيض من ذلك.
إذن الخصومة والعداء الإلغائي قائمٌ بقوة، بين هذا وذاك “العراقي”. لكنه خاضعٌ لمنطق معادلات القوة والإرادة. من يملك السلاح والقضاة والحجّاب يظفر.
وليس من مانع أمام هذه الجماعات التحالف مع الإحتلال أو الشيطان، من أجل القوة والتمكين. والخلاف بين هذه الإتجاهات هو على سعة السلطة، وليس على نوع العلاقة مع الخارج أو القوى الدولية.
فالسنّي الذي يلغي الشيعي في ذاكرته وعمقه الكينوني، لا يرى العراق إلا وفق طرازه وهواه: هو الحاكم والمهيمن والآمر والناهي. وما دناه من المختلفين أناسٌ لا شأن لهم إلا كشأن الجمادات تملأ حيّز الوطن. أما الشيعي فيجد العراق بستاناً سواده من الشيعة، فحقّ له حكمٌ بمذهبه، وسطوةٌ بغضبه، وثروةٌ إلى كنوزه وهو الذي يعتبر العراقي الآخر (الشريك)، في مستقر عقله وصدق مشاعره غير الناطق في هذا المقام (سياسةً أو تقيّةً)، أسوأ من المحتل الأجنبي وأخس من عدوّه “الديني”. العرب في غالبيتهم قبل سقوط نظام البعث وبعده، قبل غزو الكويت وبعده، قبل وبعد إحتلال العراق أخيراً، يعتبرون الكُردي عنصراً مضاداً يقلق الوجود القومي/القطري لهم. وبالطبع لم يكن بدافع الذود عن كركوك وديالى، كان الجيش العراقي “الوطني الباسل” يقتل الأكراد المساكين في القرى، في الثمانينيات من القرن الماضي، بل وكان يحرق أشجار الجوز من جذورها، لأنها في الذاكرة ترمز إلى المختلف قوميّاً.
كان إنتقاماً من الآخر القومي في هذا المقام (لأن الآخرين كثيرون ولهم تصانيف ومراتب). لكن هذا القناع كان الأول في سلسلة متتابعة.
الكُردي في السياسة، وما يبوح به في سرّه إلى أخيه القومي، كارهٌ ورافضٌ للعربي بصلابة شديدة الوقع في نفسية الإنسان من تأثير. لكن هذا أيضاً هو القناع الأول تتبعه أقنعة أخرى، في مسيرة مضطربة من إنتماءات متضاربة متعاركة عقيمة، كما هي المسألة عند الآخرين في العراق كلّه.
والكُردي يندفع نحو كركوك بروحه القومية، لكن ذلك ليس سوى القناع الأول، تليه أقنعة أخرى.
الآخرون هم على نفس الشاكلة، منهم من يقدر، ومنهم من لا يقدر. ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر دوره، وما بدلوا تبديلا.
والمشهد في عمومه العراقي هو هكذا. قناعُ عربي يواجه قناعاً كُردياً. لكن القناع العربي يخفي خلفه أقنعة أخرى شيعية وسنيّة وحزبية وعشائرية متناقضة. وخلف كلّ قناع من هذه، هناك أقنعة أخرى متخاصمة ومتناقضة لا تتفق بتاتا على صيغة حضارية في ما بينها للعيش المشترك، إلا وفق منطق الغالب والمغلوب. لا يحتاج العراقي أن يؤتى بمثال. فعلاقة الفئات العراقية، حتى من الصنف الواحد مذهباً ولساناً وسكناً، تبيّن مدى الإضطراب والفوضى والتناقض بينها.
والحال هذه الأقنعة لا تعيش إلا في الفوضى، لذلك فإنها تمد هذه الفوضى بأسباب الديمومة!
خلف قناع القومية الكُردية (كُردايَتي) تكمن أقنعة أخرى متصارعة ومتناقضة ومتضاربة. القناع الكُردي في العراق يواجه القناع العربي والتركماني (وللتركمان أقنعتهم الكثيرة المتناقضة والبائسة)، من أجل كركوك بسم القومية. لكننا إذا كسرنا هذا القناع لنرى المشهد المختفي ورائه، نجد قناعين كبيرين يحاول الواحد إلغاء الآخر ما أمكن. وهذان القناعان تصارعا، إلى حيث لم يسمح أحدهما (الحزب الديموقراطي الكُردستاني) بعودة كركوك إلى إقليم كُردستان، منذ عام 1991 وإلى الفترة الأخيرة قبل قيامة إعلام الحزب “القومي”. والسبب أن المدينة المذكورة تحتوي على رقعة سكانيّة عظيمة، من أكراد كانوا يوالون خصم الحزب اللدود، الإتحاد الوطني الكُردستاني.
أحد كاشفي الأقنعة (محمود عثمان وهو سياسي كُردي) أكد أن عدم عودة كركوك إلى إقليم كُردستان كان بسبب الصراع بين الحزبين. أي أن “الديموقراطي” حاول جاهداً إبعاد كركوك عن إلحاقها بمناطق كُردستان، حتى لا يقوى عدوّه المقنّع “الإتحاد الوطني” بها.
خلف قناع الحزب في كُردستان هناك قناع العشيرة. وخلف قناع العشيرة هناك قناع العائلة. وخلف قناع العائلة هناك أقنعة تتكشف لبعضها البعض، أشخاصاً يظفر الأقوياء منهم بالحكم والرزق الوفير. ولكلّ قناعٍ أسبابه ودوره وحيَله وحشمه.
فكيف للشيعي أن يجيّش عوامه لمواجهة السنّة، إن لم يثر الوجدان في تأريخ مكلومٍ مُدبـــِر؟
وإن لم يُدغدغ العصبية القومية، أنّى له إيجاد الحيَل لكسر ظهر المتصارع الآخر (الكُردي) للظفر بثروة كركوك، لتقوية القناع الذي يتستر بالقومية/الوطنية العراقية؟
وذلك القناع الذي يحرسُ ورائه، أشخاصٌ وأحزابٌ متفرقة، متخاصمة ومتصارعة على القصعة.
السنّي يضع قناع الوطنية العراقية لإلغاء الآخر القومي، ويلهب الآخر المذهبي (الشيعة) بعصبية قومية، كي تبقى كركوك خارج مناطق كُردستان، لأنها أقرب إلى السنّة العرب منها إلى الشيعة، وبقاؤها سيقوي المركز السنّي وهو قناعٌ عظيم، لم يمنع رفاق البعث أن يتآمروا على بعضهم منذ بدايتهم مروراً بعام 1979 ومحاولة الإنقلاب الشهيرة، وإلغاء بعضهم بعضاً، وإلى حسين كامل وسقوط النظام، وظهور أقنعة أخرى بعضها إسلامي جهادي (لم يعلن العرب السنّة الجهاد في زمن صدام، مع أنه كان قد عطّل أحكام الشريعة لأكثر من ثلاثة عقود، بل وكان العرب السنّة يقفون في معظمهم ضد جهاد الإسلاميين الأكراد ضد نظام البعث!)، تختفي ورائها أقنعة أخرى مخادعة.
إذن الإنتماءات التي تجيّرها هذه الأقنعة في الصراع على القوة والموارد، تنكسر باستمرار على إنتماءات أخرى أصغر، وأكثر حدّةً وصلابة. وبدورها تنكسر مرة أخرى على إنتماءات وولاءات، أكثر حيوية وإستحكاماً، من فوضى وضياع الإنتماءات الأخرى الأكبر والأوسع.
فالقوميّة الكُردية تنتهي، بانتهاء المواجهة مع القوميات الأخرى في العراق. وخلف هذا القناع القومي هناك مشهد متناقضٌ بائسٌ دموي بين الحزبين، وبين السوراني والباديني (قبل فترة جُُمع أكثر من خمسين ألف توقيع للبادينيين من أجل رفض جعل السورانية اللغة الرسمية للأكراد، فضلاً عن الهوراميين الذين يعتبرون أنفسهم أقليّة قومية لا كُردية، على منوال طوائف كُردية أخرى)، وبين الشعب وسلطة مافيوية، وبين فئات أخرى كثيرة.
والشيعي الذي يضع قناع القومية والوطنية العراقية أمام الكُرد، ليس بدّ من تفوق ولائه المذهبي (المشدود نحو هيمنة فارسية)، على الإنتماء العروبي، الرابِط إيّاهم مع سنّة العراق العرب. وخلف هذا الولاء تكمن صراعات دموية بين تيارات من الجنس نفسه، تتفوق في حدّة إلغائيته الصراعات التي تخوضها للولاءات المقنّعة، خارج دائرة المذهب، مع السنّة العرب مذهبياً أو الأكراد قوميّاً ومذهبياً.
أما السنّي العربي، فلا يرى في العراق، القناع الكبير، إلا هذا المركز الذي يقيم فيه: عروبي عنصري إلغائي. وخلف القناع العربي ينتصب قناعٌ مذهبي، يودّ لو أقصى الشيعة إلى أبعد من سور الصين. وخلف نفس القناع هناك قناع العصبية العروبية، التي تريد حرق الأكراد وهم أحياء. وخلف القناعين تبدأ صراعات أقنعة أخرى دموية ووحشية، شاهدنا أجزاءً مهمة منها بين تياراتها وجماعاتها القبلية والسياسية والدينية المتناقضة والمتضاربة.
ولكي تجيّش الجماعة الأصغر الجماعة الأكبر نحو أتون القتال والموت، عليها بوضع قناع مقدس. ولكلّ ساحة ودائرة قناعٌ مقدسٌ خلفه أقنعةٌ أكثر قداسةً.
إنها الأقنعة/المظاهر المقدسة التي تمدنا بجوهر وطن فارغ وخاوي، إلّا من الدم والدمار والموت!
أما القرار الكبير في الحرب والسلم، في الرفع والنصب، هو بيد إحتلال خارجي ممسك برقبة البلد وخصيتيه منذ عقود. إنه يعلم حق اليقين كلّ الأقنعة، والأقنعة التي تتستر ورائها، وتلك التي تليها!
إنها رحى عالمٍ سفلي، وساحات وغى عارمة، طعامها في كلّ حين شعوبٌ مغلوبة، وأفرادٌ مساكين، ولاعبون خاسرون، شاء السيد الكبير خروجهم من الحلبة!
ولم تزل حروب الأقنعة في بلادنا تخوض الغمار!
ايلاف