صفحات سورية

حذار النظريات الخطيرة التي تكافئ المرتكب بدلاً من مقاضاته

null
نيويورك – راغدة درغام
عندما يتوافد الرؤساء والوزراء الى نيويورك الاسبوع المقبل للمشاركة في الدورة 63الـ للجمعية العامة للأمم المتحدة، سيجدون أنفسهم وسط أجواء انقسام واستقطاب تكاد تذكّر بعضهم بالدورة الـ33 أثناء الحرب الباردة. فالدول اليوم منشغلة بأولوياتها الوطنية وبالأجندا القومية التي تهمها ولم تعد في وارد صنع الإجماع، كما كانت قبل مجرد سنة. هذا زمن التوتر والفوضى والانانية في العلاقات الدولية وهو زمن خال من قيادة نافذة وفعّالة. ولأنه هكذا، ستعمل دول على الاستفادة منه متحصنة بإحياء نموذج التكتلات العقائدية المعهودة أو التكتلات النفطية الجديدة. بعضها سيتحصن بخوف الآخرين من متطلبات مواجهتها – عسكرياً أو عبر أدوات المحاكم الدولية – وسيصعد ميدانياً بالوسائل الموضوعة أساساً تحت المراقبة، وديبلوماسياً بالطرق التي أدت الى فك العزلة عنها. والبعض من الدول سيراهن على الفراغ الذي يحدث في الولايات المتحدة في فترة ما يسمى بالبطة العرجاء للإدارة المغادرة وعلى الانشغال الأميركي بالانتخابات الرئاسية وبالأزمات المالية التي تكبّل هذه الإدارة وكذلك الإدارة المقبلة، أقله في مطلع عهدها. وهناك بالطبع دول تنظر الى أوروبا وانقساماتها وتستنتج أن لا خوف منها ولا تأثير فعلي لها على أي حال. فمع انحسار الاستعداد والرغبة و «المعدة» للتدخل العسكري لأي هدف كان بما فيه في اطار «مسؤولية الحماية» في دول فاشلة أو في مناطق تستلزم التدخل الدولي للحماية من إبادة جماعية – تتصرف الحكومات والأنظمة المختلفة بثقة عارمة بأنها لن تعاقَب. يضاف الى ذلك انحسار الخوف من المحاكم الدولية لأن هناك حفنة دول ومنظمات غير حكومية تستسيغ فكرة تأجيل وتمييع المحاكم من أجل الحوار باسم الاستقرار وبأعذار محدودية الخيار.
وهذا في حد ذاته يحذف من المعادلة أداة العزل للتأثير وتغيير الوجهة. ولأن أنظمة عربية بين الأنظمة التي ما زالت تقع تحت الرقابة والمجهر، يجب على جامعة الدول العربية وشركائها من الدول والشخصيات المنهمكة في ايجاد المخرج الاقليمي من فكي الكماشة الدولية، التنبه الى أضرار تشجيع هذه الأنظمة على الاستهتار والرهان على انحسار أدوات لجمها في زمن الانقسام والاستقطاب. فالاستقطاب ليس بالضرورة في المصلحة العربية ولا النسق الجديد من التكتلات.
احترام القرارات الدولية والأجهزة القانونية الدولية هو في المصلحة العربية في نهاية المطاف. انهاء الإفلات من العقاب مبدأ مفيد للعرب قبل غيرهم لأن ضحايا الإفلات من العقاب هم أفراد وشعوب عربية. معظم القضايا العربية يجد قرارات مجلس الأمن الأساس الشرعي لحلولها، بدءاً بالقرار 242 ومبدأ الأرض مقابل السلام. ومعظم المسائل المطروحة في الأمم المتحدة تبدو عربية.
لذلك ليس في المصلحة العربية الانتقاص من الشرعية الدولية والمحاكم الدولية والقوانين الدولية، ولا الانخراط في مبادرات التسويف والتأجيل كوصفة علاج، ولا التشجيع على تكتلات هي في واقع الأمر على حساب مستقبل القضايا العربية.
روسيا اليوم منغمسة في أولوية اوسيتيا الجنوبية وابخازيا لتلقين جورجيا درساً ولابلاغ كل من يعنيه الأمر في القوقاز وفي الجمهوريات السوفياتية السابقة أن روسيا فلاديمير بوتين عازمة على حفر مكانة عالمية تنتقم لها مما فعله يلتسن بالاتحاد السوفياتي.
فروسيا اليوم ليست روسيا الأمس في زمن استقطاب الحرب الباردة حين استخدمت النزاع العربي – الاسرائيلي أحد أهم وسائل الاستقطاب. اليوم، ليست القضية الفلسطينية ضمن أولويات موسكو. حتى في موضوع الاستيطان الذي تريد الدولة العربية طرحه في مجلس الأمن، ليس هنا مؤشرات على استعداد روسيا تبني هذه المبادرة. القرار الوزاري العربي بالضغط على مجلس الأمن كي يصدر موقفاً ضد الاستيطان غير الشرعي الذي طالبت «اللجنة الرباعية» بالكف عنه والذي تمضي به اسرائيل ضاربة بالشرعية عرض الحائط، ضغط في محله. ولكن، حذار ألا تكن الدول العربية جاهزة لاستثمار وزنها وراء هذا الطرح ببالغ الجدية وبأطروحات واستراتيجيات تبين البدائل العربية في حال فشل خيار المفاوضات السلمية من أجل حل الدولتين وقيام فلسطين بجانب اسرائيل. عندئذ سينظر الى هذه المبادرة باستهزاء وستكون النتائج عكسية.
كذلك، وفي مسألة أخرى يريد بعض العرب طرحها في مجلس الأمن، من الضروري التنبه لانعكاسات محاولات استصدار قرار للمجلس فحواه مجرد تعليق اجراءات المحكمة الجنائية الدولية بشأن دارفور استناداً الى المادة 16 من لوائح المحكمة. وتنص هذه المادة على أنه لا يحق للمحكمة اجراء تحقيق أو اجراءات ملاحقة خلال الـ12 شهراً التي تلي طلب مجلس الأمن منها «تعليق النظر» في قضية لها. ومعروف أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو اوكامبو، وجه اتهاماً الى الرئيس السوداني عمر البشير بالمسؤولية عن جريمة «ابادة جماعية» في دارفور وطلب اصدار مذكرة توقيف دولية في حقه.
ما قيل عن مواقف بريطانية وفرنسية تدعم تعليق النظر، بلا مقابل ملموس على نسق توقيف مسؤولين رئيسيين ترى المحكمة انهما ارتكبا جرائم حرب ما لبث ان تبين انه كلام غير صحيح. فليس أمراً عابراً لفرنسا وبريطانيا ان تقوّضا المحكمة الجنائية ورئيسها لا سيما في مسألة كهذه. وبحسب المطلعين على هذا الملف عن كثب، ليس في مجلس الأمن ما يكفي من أصوات تسعة لدعم مشروع قرار التعليق.
لا انتقاد لقيام جامعة الدول العربية والاتحاد الافريقي ببذل الجهود لمعالجة عملية لهذه الأزمة والسعي لإقناع الرئيس السوداني بـ «حزمة حل» لا نعرف تفاصيلها رسمياً. المعروف عن هذه الحزمة أنها تتضمن التأكد من جدية القضاء السوداني في التحقيق والعقاب لمن ارتكب الفظائع في دارفور، وجدية الحكومة السودانية في ايجاد تسوية سياسية للنزاع في الاقليم الغربي للسودان.
توجه جامعة الدول العربية الى مجلس الأمن – وان كان سوية مع الاتحاد الافريقي – بهدف تمييع العدالة وتقويض المحكمة الجنائية الدولية ليس أبداً في المصلحة الافريقية أو العربية. هذه يجب ألا تكون مهمة منظمة اقليمية لا سيما إذا كانت تضم دولاً لطالما اعتدت على العدالة ولطالما اضطهدت واغتصبت وقتلت وأبادت بذرائع مختلفة – انما دائماً من أجل السلطة. فالمجازر المخجلة بمعظمها ارتكبت في افريقيا، باستثناء مجازر سيربرنيتسيا في عقر الدار الأوروبية، ولا داعي للادعاء بأن تصويب الأنظار الى افريقيا عنصرية. ففي رواندا وبوروندي وكينيا والسودان ارتكبت المجازر. وهذا ليس من صنع المخيلة الدولية. لذلك وإذا كان في جيب الجامعة العربية والاتحاد الافريقي ضمانات بمواعيد ملزمة وتعهدات واضحة من الرئيس السوداني بمسار قضائي وسياسي جديد نوعياً، يجب عليهما ابراز هذه الضمانات عند توجههما الى مجلس الأمن لإقناع اعضائه بجدوى المادة 16. فهناك معارضة لا يستهان بها لتطبيق هذه المادة من منظمات حقوق انسان. ومهم ايضاً ألا ينساق الوسطاء وراء انطباعات تتركها مؤسسات ومنظمات غير حكومية هدفها الايحاء بأن آراءها تعكس اجواء حقيقية فيما واقع الأمر هو أنها تسوّق آراء لها وللعاملين فيها. احدى هذه المؤسسات «مجموعة الأزمات الدولية» التي يترأسها غاريت ايفنز، وزير خارجية استراليا السابق، ترى أن من المفيد أحياناً تعليق العدالة الى حين الانتهاء من معالجة الأزمات، ومن المضر للاستقرار إحداث تغيير في الأنظمة من خلال تطبيق العدالة الدولية، ومن الضروري التعامل مع المحاكم الدولية بحساسية وليس بمعزل عن الواقع السياسي والعملي على الأرض.
غاريت ايفنز اصدر كتاباً بعنوان «مسؤولية الحماية» الجماعية لانهاء الجرائم الجماعية عرض فيه فلسفة المسؤولية الدولية الجماعية للوقاية والحماية بأدوات مختلفة آخرها التدخل العسكري في حال لم يعد هناك أي خيار آخر. رأيه أن الأدوات الديبلوماسية والسياسية أفضل ادوات الحماية بهدف الاقناع، وأن العزل ليس الوسيلة الأفضل بل الانخراط أولاً. رأيه ان الادوات القانونية مثل المحاكم الدولية مفيدة في اطار «التهديد» للحض على التجاوب، انما الواقع قد يستلزم تجميدها وتغييبها في فترة محاولة ايجاد صنع علاج للنزاع، وأن ضمان عدم الإفلات من العقاب ممكن بعد انتهاء النزاعات لا اثناءها.
لربما الأخطر بين مجموعة أفكار ايفنز – ومجموعة «كرايسز غروب» – أنه يدعم التفاوض على متطلبات العدالة باسم الواقعية السياسية وخوفاً من «موازين العواقب» انطلاقاً من أن العدالة في رأيه «نظرية»، فيما استمرار البؤس «واقع» يتطلب «المساومة».
هذه النظرية الخطيرة تكافئ بدلاً من أن تقاضي، تساعد على الافلات من العقاب بدلاً من دعم جهود وضع حد له، وهي في غاية الضرر لمبدأ ونظرية وعقيدة «المسؤولية الدولية للحماية» والتي ستكون بارزة في مداولات الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذه الطروحات تضلل الذين يعتقدون أن الفرصة مواتية للمضي في المجازر والاغتيالات السياسية لأن الافلات من العقاب ممكن، بتشجيع من مؤسسات فكر دولية. فهؤلاء سيصابون بخيبة عندما يدركون أن المحاكم الدولية لن توقفها مؤسسات تقوم على النظريات ولا حركات ديبلوماسية لمجموعات اقليمية ودول لها شغف للحلول بتأجيل العدالة وتمييع مؤسساتها باسم الحوار للاستقرار وحشد أكبر رصيد من النجاح الديبلوماسي في احتواء الأزمات.
أجواء الجمعية العامة في دورتها الـ63 ستساهم بدورها في التضليل العام في مختلف الملفات، لأنها ستتميز بإحياء التكتلات العقائدية وأساليب المواجهة والتحريض والغوغائية. خطاب رئيس الدورة، القس النيكاراغوي السانديني، ميغيل ديسوتو بروكمان، ومؤتمره الصحافي أفادا بأن لديه حنينا إلى الحرب الباردة وزمن التفرقة والانقسام والاستقطاب، وأنه بقي مجمداً في الستينات والسبعينات. لعل أدق ما قاله ان القضية الفلسطينية «أكبر مسبب للفشل في الأمم المتحدة» وأكبر دليل على «عجزنا» على تنفيذ قرار تم تبنيه قبل 61 سنة، في إشارة الى قرار التقسيم. إلا أن خطاب القس ميغيل اتسم بمعظمه بغوغائية التحريض بعيداً عن أنماط مسؤولية العمل من أجل الوفاق الموكلة تقليدياً إلى رئيس الجمعية العامة.
كل هذا يجب أن يؤدي بالوافدين من العرب إلى الأمم المتحدة أن يفكروا ملياً ما إذا كانت هذه الفترة مواتية أكثر للتقدم بمبادرات واستراتيجيات جدية، أو ان كان الأفضل خلالها الابتعاد عن المهاترات والتكتلات والمزايدات. أي شيء يقع في خانة «ما بين» سيكون مسيئاً جداً للعرب وقضاياهم المتعددة.
الحياة     – 19/09/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى