انتفاضة أميركا اللاتينية ضد واشنطن
توفيق المديني
«فلتذهبوا إلى الجحيم أيها اليانكيز. نحن شعب له كرامته..فلتذهبوا إلى الجحيم مئة مرة»، بهذه الجمل الحادة والخارجة عن الخطاب الدبلوماسي المألوف في العلاقات الدولية، لخص الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز الموقف من الولايات المتحدة الأميركية، حين أعلن طرد السفير الأميركي لدى كاراكاس باتريك دودي، تضامنا مع الرئيس البوليفي إيفو موراليس، الذي اتخذ قرارا مماثلا بطرد السفير الأميركي في لاباز عاصمة بوليفيا، وسط اتهامات لواشنطن بالضلوع في مؤامرات لإسقاط الحكومات اليسارية في بلدان أميركا اللاتينية.
ويعتبر هوغو شافيز الرئيس الطليعي في أميركا اللاتينية الذي يخوض نضالا قاسيا ضد سياسة الهيمنة الإمبريالية الأميركية ليس على مستوى القارة الجنوبية فحسب، بل إنه يسعى إلى تشكيل جبهة عالمية مناهضة لليبراليةالجديدة، إذ غدت فنزويلا شافيز الناطق الإقليمي الذي يعبر عن المعارضة للهيمنة الأميركية على مستوى كوني. وتشهد العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وكل من فنزويلاو بوليفيا من جهة أخرى، أزمة حادة، ولاسيما بعدما اتهمت واشنطن في الفترة الأخيرة، ثلاثة مسؤولين من المقربين جدا للرئيس الفنزويلي هوغو شافيز بتزويد القوات الثورية المسلحة الكولومبية «فارك» بالسلاح ومساعدة مهربي المخدرات، واتخاذ وزارة الخزانة الأميركية عقوبات في حق مسؤولين اثنين في الأجهزة السرية هما رئيس دائرة الاستخبارات العسكرية الفنزويلية هوغو أرماندو كارفاخال باريوس ورئيس إدارة أجهزة الاستخبارات والوقاية هنري دي خيسوس رانخيل، ووزير التربية والعدل السابق رامون رودريغيس تشاسين. أما من جانب بوليفيا، فإن الأزمة نشبت بسبب مساندة واشنطن المعارضة الليبرالية في بوليفيا التي تخوض معركة شرسة ضد الرئيس إيفو موراليس اليساري، المزارغ السابق لنبات الكوكا وأول رئيس لبوليفيا من أصل هندي، بسبب إقدامه على تنفيذ خطط لإصلاح الدستور، وتقسيم المزارع الكبيرة لتوزيعها على الفلاحين الفقراء، الأمر الذي قاد إلى احتدام موجة العنف الأهلي في عدد من الأقاليم في البلاد.
في مواجهة هذا الوضع، قامت الولايات المتحدة الأميركية بطرد السفيرين الفنزويلي برنار دو ألفاريز والبوليفي غوستاف غوزمان من واشنطن، ردّاً على قرار كراكاس ولاباز طرد السفيرين الأميركيين باتريد دادي، وفيليب غولدبرغ.
ويجمع المحللون في العالم على أنه بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وانتقال مركز ثقل الاستراتيجية الأميركية لخوض الحرب على الإرهاب المستمرة فصولا في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الصغرى، انعطفت القارة الأميركية الجنوبية والوسطى نحو اليسار، مستفيدة من إخفاقات السياسة الخارجية الأميركية، ولاسيما أفغانستان والعراق. فقد عاشت القارة الجنوبية والوسطى سنة كاملة حافلة بالانتخابات:17 استحقاقا انتخابيا خلال عام 2006، إضافة إلى الاستفتاء حول توسيع قناة بنما. وحدها المكسيك، هي التي فاز فيها اليمين وبشق الأنفس.
واعتبرت الانتخابات هذه كرهانات حقيقية لترسيخ الديمقراطية التمثيلية.. فبعد سقوط الديكتاتوريات العسكرية الفاسدة وإرهاب الدولة، والالتزام الصارم بمبادئ الليبرالية الجديدة التي فرضها «إجماع واشنطن» في عقد الثمانينيات، وموجة الديمقراطية التي اجتاحت أميركا اللاتينية في عقد التسعينيات من القرن الماضي، ها هي الخريطة السياسية تؤكد التوجه الإجمالي للناخبين نحو اليسار أو وسط اليسار. وبذلك أصبح الاشتراكي المناهض للسياسة الأميركية معطى جديدا في القارة الجنوبية والوسطى.
وتعيش أميركا اللاتينية منذ سنتين تحولا عميقا رصينا. إنها تتحرر من النماذج الاقتصادية المستوردة التي طبعت كل تاريخها منذ عقود، لقد اعتنقت بلدان أميركا اللاتينية نهج الليبرالية الاقتصادية في سياق العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تقودها واشنطن، فإن شعوبها زادتها العولمة فقرا على فقر، وفاقمت عندها التفاوتات الاجتماعية الحادة، عوض أن تنتشلها من واقعها المتردي الذي أوقعتها فيه الديكتاتوريات العسكرية بعد مرحلة الاستقلال. فمن البنيوية إلى النقدية، ومن الماركسية إلى الليبرالية، رقصت القارة الجنوبية كلها رقصة دائرية من البراديغمات، متأقلمة في المدارات الإستوائية، ورفضت الدروس القادمة من الجار الكبير الشمالي.
من دون شك، شكل فوز الأنظمة اليسارية -على الرغم من خلافاتها الأيديولوجية- في بلدان أميركا اللاتينية خلال السنتين الأخيرتين، تحديا استراتيجيا لهيمنة رأس المال العالمي والليبرالية الجديدة الأميركية على المستوى الاقتصادي، لأن تمرد أميركا اللاتينية هذا بات يقضّ مضجع الرأسمالية العالمية. كما مثل هذا الانتصار للأنظمة اليسارية تحديا أيضا للنظام الأميركي الأحادي القطبية ،إذ بدأت أنظمة أميركا اللاتينية تنتهج نهجا سياسيا استقلاليا على صعيد السياسة الخارجية، يقوم على رفض عودة الهيمنة الأميركية ،والتضامن مع كوبا، ورفض مخططات واشنطن التي ما انفكت تعمل لعزل فنزويلا بقيادة هوغو شافيز، وكل الأنظمة اليسارية المتحالفة معه.
كاتب من المغرب