تفجير دمشق: نظام الأسد يعبث بمسرح الجريمة ويتّهم.. لبنان
فارس خشّان
حتى إشعار آخر، وحده الشعب السوري يستحق التعزية على الجريمة الإرهابية التي ضربت المنطقة التي تستضيف مقر فرع فلسطين في المخابرات العسكرية السورية، المشتبه بتورّط نائب رئيسه العميد عبدالكريم عباس باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لم يخرج مؤشر واحد من دمشق يسمح بالتضامن مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد، لا بل على العكس، فإن تغطية “القبوات بالسماوات” نقلته من موقع الضحية الافتراضية للإرهاب إلى موقع صانع هذه المأساة الجديدة للشعب السوري الذي ارتضى الديكتاتورية والفقر والحكم الأقلوي والمافيوزية الاقتصادية والسلبطة الأمنية، حتى لا يجد نفسه ضحية لجريمة كالتي ضربته في ساعة مبكرة من صباح السبت الماضي.
التعاطي الرسمي السوري على كل مستوياته، السياسية والأمنية والإعلامية والدعائية، مع هذا الحدث الجلل كان مستفزاً للعقل ومنافياً للمنطق، ذلك أنّ من يُدقق بتفاصيل هذا التعاطي، يكتشف أن الضحية المفترضة سارعت إلى التصرف بما يخدم المجرم المفترض.
وهذا الاكتشاف يبني نفسه على مجموعة معطيات أبرزها الآتي:
أوّلاً، تحدثت السلطات السورية عن وقوع سبعة عشر شهيداً “جميعهم من المدنيين”، ولكنها لم تستطع أن تُذيع سوى خمسة فقط من هذه الأسماء، مما يطرح سؤالاً عن سبب التستر على الغالبية الباقية، كما ان السلطات السورية وفي معطى استثنائي غير مسبوق، أفادت بوقوع 14 جريحاً، أي أن عدد القتلى كان أكثر ارتفاعاً من عدد الجرحى في انفجار بهذه الضخامة التي جرى الحديث عنها.
ثانياً، عدّدت السلطات السورية كلّ المؤسسات الموجودة في محيط مسرح الجريمة، ولكنها تغاضت عن المركز الأمني الذي له تاريخه المشهود ضد اللبنانيين والفلسطينيين، الموجود في وسط ساحة الجريمة، مما يجعله هو هدف الانفجار، وليس أيّ شيء آخر. وبالتالي فإن السلطات السورية سلطت الانتباه على الضحايا المدنيين لتشيح بالأنظار كلياً عن البُعد الأمني للتفجير وعن ضحاياه وأسمائهم وملفاتهم وارتباطاتهم، مما يسمح للبنانيين على سبيل المثال لا الحصر، بطرح أسئلة جدية عما إذا كان أحد المشتبه بتورّطهم بجرائم إرهابية استهدفتهم جماعات جماعات أم قيادات سياسية، قد ذهب مع أسراره من قبضة العدالة الدولية، كما سبق وذهب اللواء غازي كنعان ومن بعده العميد محمد سليمان وبينهما ـ ومن يدري ـ عماد مغنية.
ثالثاً، إن الرقم الذي أعطته السلطات السورية لكمية المواد الناسفة يبدو أنه “الرقم المقدس” عند النظام الأمني السوري، ومن يراجع الرقم الذي سبق وتمّ تقديمه لحجم العبوة الناسفة التي أدّت إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومعه النائب باسل فليحان وعشرون آخرون، يجد أمامه الرقم نفسه، كما أن من يتأمل بما فعلته السلطات السورية بمسرح الجريمة في دمشق بُعيد التفجير، يتذكر ما كان يُفترض أن يحصل بمسرح الجريمة في السان جورج في بيروت. ففي دمشق سُحبت سيارتان، الأولى كانت تحتوي على العبوة الناسفة والثانية يُعتقد أنها كانت تقل عميداً في الجيش السوري.. وبعد ذلك تمّ ردم الحفرة.
رابعاً، إن السلطات السورية قدّمت توقيتاً غير حقيقي للتفجير، فهي أقصته ساعة وربع الساعة إلى الأمام، حتى توحي بأنه توقيت مدني وليس توقيتاً أمنياً (وزير الداخلية السوري تحدث عن الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين من صباح السبت في حين أن الشهود أجمعوا على ان التفجير وقع في الساعة السابعة والنصف من صباح ذاك اليوم).
خامساً، إنّ كلّ الصور التي تمّ التقاطها وتمّ نسبتها إلى منطقة التفجير، إنما كانت للأحياء المحيطة بمقر فرع فلسطين، لتغيب في المقابل أيّ صورة عن مشهد مسرح الجريمة تحديداً، ويُستبدل الاهتمام بصورة لسيارة محترقة، معزولة كلياً من محيطها.. وربما عن زمانها أيضاً.
أمام هذه المعطيات الخمسة، وهي جزء يسير من معطيات كثيرة أخرى، يتضح ان السلطات السورية تعمّدت إخفاء أمور جوهرية كثيرة ليس خدمة للحقيقة إنما خدمة للدعاية السياسية فقط، حتى بدا للكثيرين أن النظام السوري أطلق النار على قدمه في محاولة منه للخروج من لائحة المتهمين والدخول في لائحة الضحايا.
وفي انتظار ورود إيضاحات، على طريقة تلك التي كشفت اغتيال العميد محمد سليمان بداية فوظيفته “الاستقصائية” في تقرير مدير وكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي لاحقاً، حتى يستطيع المراقب تحديد الاتجاه الذي تصبّ في سياقه جريمة التفجير الإرهابية في دمشق، فإن المتابعة التفصيلية للاتجاهات التي يحاول فريق الدعاية التابع للمستشارة الإعلامية والسياسية في الرئاسة السورية بثينة شعبان أن يوحي بها، تُظهر بما لا يقبل الشك توافر نية قيادية سورية، ليس من أجل تعميق الشرخ العربي ـ العربي فحسب، بل أيضاً وقبل أيّ شيء آخر، من أجل الركوب على جناحي الانفجار للهبوط في دائرة تشريع تدخلها أمنياً في لبنان، على اعتبار أن مصدر السيارة المفخخة قد يكون قب الياس في البقاع أو طرابلس في الشمال (كذا).
وكان يمكن لهذا الادّعاء أن يستقيم كعنصر من عناصر التحقيق لو أن السلطات السورية حافظت على مسرح الجريمة واستدعت خبراء دوليين للكشف عليه والتدقيق بمن يسيطر عملياً على المعابر الحدودية الشرعية وغير الشرعية، وتالياً هل يمكن أن يستقيم ادّعاء تمرير سيارات مفخخة من لبنان إلى سوريا، أم أن ذلك متاح فقط من سوريا إلى لبنان؟.
وعلى أساس هذا الادّعاء، يُصبح لغز الانتشار العسكري السوري الحدودي بسرعة هائلة فاقت كلّ توقعات الجهات اللبنانية التي كانت على اتصال مع وزارة الدفاع السورية ورئاسة أركان الجيش العربي السوري، مقروءاً، بعد محاولات باءت بالفشل سابقاً لفكفكة طلاسمه. وبهذا المعنى فإن الرئيس السوري بشار الأسد سيدّعي في مراسلاته مع المخابرات الأوروبية وفي اتصالاته مع الرئيس اللبناني ميشال سليمان، أنه كان يتحرك في ضوء معلومات مؤكدة وردته أن هناك عمليات تخريبية تستهدف سوريا مصدرها لبنان، وما التفجير الذي حصل في دمشق سوى واحد من الأدلة، مستغلاً ذلك من أجل المطالبة بحق التدخل لتصفية الأوكار المعشعشة في لبنان، في حال لم تُنجز القوى الأمنية اللبنانية عملية تنظيف شاملة في المناطق التي يُحدّدها لها الأمن السوري مرفقة بلوائح اسمية.
على أيّ حال، وبغض النظر عن الأهداف الأسدية الصانعة للتفجير أو المستغلة له، فإن ما يحصل في سوريا بدأ يُثير علامات استفهام كثيرة حول قدرة النظام السوري على ضبط الأوضاع، مما يدفع الجهات التي حمت هذا النظام في السابق بصفته صمام أمان إقليمي، إلى بدء تفكير جدي بالبدائل، على اعتبار أن الأنظمة الديكتاتورية يبدأ عدها العكسي عندما تبدأ أكل أبنائها، أو عندما تقف عاجزة أمام من يلتهم أبناءها، أو عندما يتحوّل ميدانها إلى ميدان حركة لقاتل قويّ مجهول، أو عندما يرتد الوحش الذي ربّته إلى أكل أبنائها.