يـحــدث فـقـط فـي لــبــنــان
الصورة التي التقطت لفتاة لبنانية (ربما تكون أجنبية) تدخن النارجيلة عند مسبح “السان جورج”، وهي ترتدي “البكيني” وتضع النظارة الشمسية على عينيها، انتشرت على شبكة الأنترنت وفي وسائل الاعلام المكتوبة كأنها أسطورة او خرافة او كائن غريب. لم يكن انتشارها على هذا النحو بسبب جمالية الصورة فحسب بل خصوصاً لأن الفتاة العارية مع النارجيلة تحمل الكثير من المعاني والتأويلات التقليدية، ومَن نشر الصورة اراد ان يقول ان لبنان “جسد امرأة”، أو هذه هي المرأة ايها الرجل، عليك التحدي او الاستسلام لجمالها وهي “تستولي” على عدّة رجولتك المفترضة.
1
تلك الفتاة في الصورة التي لا نعرف هويتها، بدت في شكل من الاشكال وجها من وجوه “الثقافة” اللبنانية، وتراودنا فكرة البحث عن صاحبة الصورة لمعرفة رأيها في نفسها، وماذا يعنيها ان تشاهد صورتها في وسائل الاعلام. والحال، انه لم يعد لافتا ان المصور التقط صورة الفتاة وهي ترتدي “البكيني”، بل كانت المفارقة ان الصورة تجمع الانوثة اللبنانية (الجسد) مع الموروث الذكوري التقليدي (النارجيلة) في مشهد عابق بالتأويلات اذ جاز التعبير، ويمكن ان تتحول الصورة الى لوحة من نوع الـ”بوب آرت” اذا اراد احدهم ان يفعل ذلك. الفتاة تلك قد تكون مدخلا الى رواية بصرية، فهي جلست وحيدة، لا نعرف إن كانت برفقة صديقها او زميلتها. اتكأت على البلاط، وحملت النربيش بيدها اليمني، وراحت تنفث دخان “المداعة” كما تسمّى النارجيلة في اليمن، وتنظر الى الافق. لا نعرف، أهو المشهد الذي يلفتها ويثير انتباهها، أم هي ربما تحلم بالسفر الى بلاد بعيدة، ام بشقة تطلّ على البحر، أم تفكر بفارس احلامها، أم… تفكر بالخلاص من رجل في حياتها؟! ربما تكون تطمح الى الغناء كالكثير من الفتيات اللبنانيات. لا نعرف ايّ نوع من التنباك اختارته الفتاة، أهو العجمي أم المعسل ام التفاحتان ام العنب؟ أياً يكن، فقد باتت موضة النارجيلة رمزا من رموز المقاهي التي يختلط فيها النساء والرجال، وحاضرة بقوة في زمن الميديا ولها ثقافتها وروادها الجدد الذي اعطوها نكهة جديدة في امكنة جديدة.
اعطت الفتاة ظهرها لرواد المسبح الاخرين ولمبنى “السان جورج” الذي اصيب بالخراب والدمار بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، اذ تطايرت شرفاته وبات يحتاج الى ترميم من جديد. هكذا، فإن صورة الفتاة تجمع بين مشهدي الخراب والجمال، خراب الواقع اللبناني وجمال الانثى المجهولة الهوية بالنسبة الينا. أما ما نستشفه نحن من لقطة الكاميرا فهو “روح الصورة” وروح المعنى.
اتكأت الفتاة على بلاط المسبح، جمعت بين لغة الماء ولغة الجسد، شفتاها لهما لغة اخرى، كما “البكيني” الذي ترتديه. انها فتاة صيف وسباحة بجسد راقصة شرقية. فتاة لبنانية بـ”لوك” غربي على احد شواطئ بيروت المتهالكة. هي الذاهبة للاستجمام على شاطئ البحر، لم يكن في خلدها ان صورتها ستصبح شهيرة الى هذا الحد، وتتصدر واجهات الصحف والمجلات والشبكة العنكبوتية. هي فقط قد تكون ارادت الاسترخاء اكثر وطلبت نارجيلة، بعد لحظات السباحة الحميمية مع الماء.
2
تأخذنا صورة الفتاة الى مقال كتبته الباحثة اللبنانية حُسن عبود في دورية “باحثات” عنوانه “ذكورة الاركيلة وتمييع الحدود بين الخاص والعام”، تتناول فيه مسألة تعاطي السيدات والشابات للنارجيلة في المقاهي كأمر هو في الصميم من المسألة الثقافية. ففي وقت كانت الجدة البيروتية تأخذ نَفَساً مع زوجها في البيت، ها هي اليوم تمسك النربيش في المقهى، تماما مثل الرجل، وكأن الامساك بالنربيش في هذا الحيز العام يشكل خطوة اختراقية لمجال كان حكرا على الرجال في المقاهي التي كانت مقفلة، حيث في هذا المكان، يأنس الرجال بعضهم الى بعض، وكأن الزجاج الذي يفصلهم عن الطريق يجعل لهم خصوصية الناظر والمنظور في آن واحد. السيدات والشابات اليوم يمسكن النربيش، هكذا في الحيز العام، من دون أي خصوصية ومن دون حدود أو سواتر زجاجية. وهذه اشارة الى ثقافة الرجولة التي تشغل الباحثين الاجتماعيين وخصوصا في المدة الاخيرة مع تنامي ثقافة العولمة وتداخل التقاليد. يذكر الباحث شوقي الدويهي في كتابه “مقاهي بيروت الشعبية” ان دخول المرأة حتى الى المقاهي الحديثة، أي تلك التي تتيح الاختلاط بين الجنسين، لم يشكل ظاهرة بكل معنى الكلمة الا ابتداء من الأربعينات والخمسينات من القرن المنصرم، هذا اذا استثنينا بعض الأندية الخاصة التي كانت ترتادها علية القوم. وكان غياب المرأة عن تلك الأمكنة له ما يبرره من اعتبارات قائمة على فرز تاريخي بين جنس الرجال وجنس النساء. وعلى هذا يبدو ان المسافة اقتربت كثيرا بين النساء والرجال من خلال ارتياد الأمكنة.
3
نستخلص من صورة الفتاة مجموعة تأويلات، ففيها شيء من تحدي “الذكورة”، وشيء من الاغراء، ولحظة من لحظات الفردية والحرية التي تعيشها الانثى على شاطئ البحر بعيدا من أعين الفضوليين، وشكل من اشكال الاستشراق الفوتوغرافي. فالشبان حين يتبادلون هذه الصورة كأنهم يقولون انها المثال الابرز عن النساء اللبنانيات، او هذه هي المرأة اللبنانية، وهي تذكّرنا ايضا بقصة وردت في كتاب “الاستشراق جنسيا” لمؤلفه ارفن جميل شك (ترجمة دار قدمس)، تقول القصة ان مصورا في تركيا ارسل إلى صحيفة لندنية صورة لبيت تركي بناء على طلب الصحيفة، وكان البيت البورجوازي يبدو في مظهره وأثاثه مثل البيوت الغربية، فأعيدت الصورة إلى صاحبها مع التعليق الآتي: “الجمهور البريطاني لن يقبل هذه الصورة لحريم تركي”. فالبيت التركي كما في الرسوم والكتابات الغربية قائم على بركة في داخل البيت مع عدد كبير من النساء العاريات المتكئات على الوسائد وهن يدخنّ النارجيلات، وهذا المشهد هو الذي ينسجم مع آمال الجمهور البريطاني، وليس صور قطع الأثاث الأوروبي الممل.
يُختصر الشرق في الذهن الغربي الاستشراقي بكلمة “الحريم”، هذا التجمع النسوي المفترض أن يكون معزولا عن الرجال والغرباء، فيطلق ذلك مخيلة التلصص الذكوري الغربي الذي يعيد إنتاج نفسه بهذا التلصص الخيالي متظاهرا بأنه ينقل صورة الآخر. حاول الغربيون دائما أن يجعلوا العالم ملحقا بهم، فهم أعادوا اختراع الشرق، لا كما رأوه وعرفوه، بل بما يتلاءم مع أهدافهم وأغراضهم، فالشرق في نظر الأوروبيين، كما تشكل عبر الاستشراق، ليس إلا كما يصفه إدوارد سعيد “خشبة مسرح ملحقة بأوروبا”.
4
لبنان ليس تركيا، ولكن لا شيء يمنع من تلاقي الثقافات، والفتاة التي اتكأت لتنفث دخان النارجيلة، لا نعرف إن كانت تعلم بوجود كاميرا المصور، ولا نعرف إن كانت تعلم بتاريخ “السان جورج”، هذا الفندق الشهير الذي صممه المهندس الراحل انطون تابت عام 1929، وبات من اشهر العمارات في بيروت في اعتبار انه شيّد بالباطون المسلح، واعتبر على مدار ربع قرن واحداً من أهم سبعة بارات فندقية في العالم، ومركزاً لرجال الأعمال والسياسيين والإعلاميين العالميين الذين وجدوا في أجوائه الهادئة والمريحة ظروفاً ملائمة لتبادل الخدمات الظاهرة والمستترة وعقد الصفقات الكبرى في ميادين السياسة والحب والجاسوسية والاقتصاد. من الافضل ان لا تعلم تلك الفتاة بدهاليز “السان جورج” حتى لا يفسدوا عليها صيفها ووقتها على الشاطئ.
5
صورة الفتاة على شاطئ “السان جورج” تأخذنا أيضا الى “ثقافة الجسد” في لبنان، اذ يمكن وصف المشهد اللبناني بأنه صراع بين اجساد النساء الجميلة (الثروة القومية) وبين اجساد المقاتلين (ابطال الصمود والتصدي) الذين يعيشون في الظل. او لنقل ان في لبنان صراعاً بين مناخ مغنيات الجسد ومناخ اصحاب الخطب والتخوين، وهذا الأمر ليس بجديد، ففي بداية السبعينات عادت جورجينا رزق الى لبنان حاملة لقب ملكة جمال الكون، منتصرة ومبتسمة، واستقبلها موكب من السيارات الحكومية اللبنانية، وشبّه احد المراقبين فوزها بالنسبة الى العرب كعودتهم الى بوابات فيينا. خصص لها فندق “السان جورج” غرفة بمواصفات خيالية، اذ طليت مقابض ابوابها وحنفياتها بالذهب الخالص كما حمل باب الغرفة الرئيسي الحرفين الاولين من اسمها اللذين كتبا ايضا بالذهب. كانت جورجينا رزق علامة على ثقافة مرحلة منفتحة قبل ان تتزوج ابو حسن سلامة، بل قبل ان تذهب في زيارة الى الوزير السوري السابق مصطفى طلاس الذي كتب في مديحها ديوان “تراتيل”، ويوم اصدر الكتاب عام 1982 كان لبنان قد دخل في اتون الخراب والدمار، ولم يكن طلاس معنيا على ما يبدو، بل كان مهموما بزيارة “السيدة الكونية” التي اختفت لاحقا في احضان زوجها المطرب. المهم القول ان فوز جورجينا بلقب ملكة جمال الكون وزيارتها “السان جورج” والاحتفاء بها، من علامات ثقافة مرحلة لها معانيها. واليوم، يبدو مشهد “السان جورج” مرآة لخراب لبنان في مختلف الميادين، كأن اللبنانيين لا يتذكرون مرارة الحرب، وكأن الرصاص لم يثقب ارواحهم. بعد الحرب، بدا مناخ بيروت محجباً، او ظهرت المدينة العريقة للمستقبل “مكسورا خاطرها” كما تقول الأغنية. ورزحت الضاحية الجنوبية تحت جناح “امة حزب الله”، الذي صار علامة من علاماتها البارزة.
وكان “الجسد” اللبناني والسياسي والاجتماعي والثقافي الذي خرج من دائرة الحرب، يحتاج الى الترميم واعادة التأهيل كما فندق “السان جورج” نفسه الذي عاد وتصدع بعد اغتيال الحريري مثلما تصدع لبنان، واصبحت السياسة قائمة على التكاذب والتجميل مثل الاجساد نفسها، واصبحت عمليات تجميل الانوف والشفاه مثل الختان. فالكثير من الفتيات، يقمن بعمليات تجميل من دون سبب، فقط ليدخلن في نسيج الموضة وتداعياتها، ونتج من ذلك أن الوجوه أصبحت متشابهة بين الفتيات اللبنانيات، وذلك كله تحت تأثير الثقافة البصرية. اهل السياسة اللبنانية يحاولون بشكل من الاشكال اجراء عمليات تجميل كل يوم، ويريدون الظهور بمظاهر الفتاة الغاوية التي تسحر الجمهور. وتالياً، بات اهل السياسة في تشابه من خلال التضليل. الأمر نفسه في الثقافة الحالية التي تعيش ازمة الحنين الى رموز الماضي.
6
لصورة تلك الفتاة حكايتها وللفتاة حكايتها وللنارجيلة حكاياتها وللمكان حكاياته ايضا. وصلت الينا الصورة عبر شبكة الانترنت مع صور اخرى تعبّر عن الواقع اللبناني المرير، صور لدراجات نارية في استعراضات قاتلة، ولبقرة تجتاز الاوتوتستراد، ولامرأة حزينة في باب محلها، ولفتاة عارية البطن، ولامرأة خليجية ترتدي التشادور، ولفتاة اخرى ترتدي الثياب الداخلية الملونة وتتمشى فوق ثلج صنين…الخ. تلك هي التناقضات اللبنانية في الصور الانترنتية، التي هي ايضا مرفقة بكلمات غاية في الفظاظة، وخصوصا كالتي تقول “ممنوع الحكي بالسياسة والطائفية والدين وكرة القدم، مسموح الحكي بأمور العمل فحسب”، او بعبارة نقرأها على زجاج احدى السيارات “كلب صديق احسن من صديق كلب”، و”يقبرني الكيلوت” و”ممنوع التبول”، و”يا اولاد الشر… لا ترموا الزبالة هنا” و”مكتب تسليم الخدم”. هذه أشكال من اشكال الجسد اللبناني الوطني المهتوك. وربما تنقذ ما تبقّى منه صورة تلك الفتاة على شاطئ “السان جورج” ¶
شوقي ن