عولمة الطبقة الوسطى وآثارها الاجتماعية
غازي دحمان
تعتبر البنى الطبقية متعدية الجنسية من أهم الفاعلين في العولمة الرأسمالية، حيث تشكل مع المؤسسات متعدية الجنسية، وأيديولوجيا الثقافة الاستهلاكية، أضلاع مثلث عملية العولمة الرأسمالية، حيث يعمل كل نمط إنتاج محدد على خلق بنيته الطبقية المتوائمة معه والمحققة لأهدافه في الوجود والاستمرارية والفاعلية، وهي العملية التي تتحدث بوتائر متفاوتة في سرعتها ومدى عمقها كماً ونوعاً.
وقد عمدت العولمة الرأسمالية، ومن منطلق سياسات الليبرالية الجديدة، إلى خلق شرائح وفئات طبقية وأخرى وسطى معولمة متعدية الجنسية، ذات أنشطة ومصالح تقع على أرضية مشتركة، في حين قلقت من دور وفاعلية شرائح وفئات وسطى تقليدية ذات طابع محلي، إلى جانب تفتيتها لكيان الطبقة العاملة التقليدية والتي قد تزداد كماً في الوقت الراهن في حين تتضاءل نوعياً على كافة المستويات.
وتشغل شرائح الطبقية الوسطى المعولمة، جزءاً مهماً للغاية من البنية الطبقية متعدية الجنسية: تنبع هذه الأهمية من نوعية الدور الذي تلعبه تلك الشرائح الطبقية إزاء رأس المال الكوكبي، فإذا كان للشرائح الطبقية الرأسمالية ملكية وحيازة فعلية في رأس المال الكوكبي ذي الطابع المؤسسي، فإن الشرائح الطبقية الوسطى تقوم بعمليات التسهيل والتيسير الفعال والنشط لتمدد وتوسع رأس مال السوق الكوكبية فنياً وإدارياً. فمع بزوغ الشركات متعدية الجنسية برزت نظرية تقول بأن الفضاء الاجتماعي يشهد مولد نخبة من نوع جديد تكاد تكون بمنزلة القومية. هذه النخبة العالمية تتكون من رجال أعمال ومديرين تنفيذيين في الشركات متعدية الجنسية، ومعهم أعداد كبيرة من الصحافيين، والديبلوماسيين، وأصحاب المكاتب الاستثمارية، والفنيين البارزين في مجال تكنولوجيا الإنتاج والاتصال.
ويدور نشاط هذه النخبة حول قضايا ومشكلات ذات طبيعة عالمية أو متعدية الجنسية، وهي غالباً ما لا تبقى لفترة طويلة في بلادها الأم، فهي كثيرة السفر والترحال، وحياتها اليومية في كل مكان معلقة بالأنشطة العالمية. هذه الوضعية الجديدة أفضت إلى حالة يتقوض خلالها المجتمع الجماهيري لصالح بروز مجتمع يتكون من فئات أو جماعات متقاربة في المصالح والمهارات، والثقافة. وفي حين أنها متواصلة عالمياً مع بعضها البعض، فإنها قد لا تكون متكاملة قومياً.
وقد طرح زيانيج بياو Xiang Biaoعدة خصائص تميز هذه الشرائح الطبقية الوسطى متعدية الجنسية تتمثل في ما يلي:
1 ـ إن مصلحتهم الجماعية تكمن في خدمة رأس المال الكوكبي أكثر من خدمة الاقتصاد المحدد بالحدود المحلية. وهم في ذلك يتجهون للدفاع عن الاقتصاد الرأسمالي ذي الأيديولوجية الليبرالية الجديدة.
2 ـ إنهم ليسوا في موقع وسط بين رأس المال والعمل فقط ولكنهم يشغلون نفس الموقع أيضاً بين ما هو كوكبي وما هو محلي، حيث تقوم الشرائح الطبقية الوسطى بعملية اختراق رأس المال الكوكبي للمجتمع المحلي، وكذا يقوم بتحريك الموارد المحلية لصالح رأس المال الكوكبي، فضلاً عن الإشراف على آليات العمل المحلي لتحقيق الهدف نفسه.
3 ـ تشارك هذه الشرائح في عملية العولمة بشكل رئيسي من خلال عولمة قوة عملها. فهي تبيع قوة عملها لمن يدفع أكثر، بغض النظر عن جنسيته، وهي العملية التي يعيد هؤلاء من خلالها تصنيف مواقعهم والتكيف مع الأوضاع الجديدة باستمرار.
إنهم، إجمالاً، يمثلون شرائح طبقية متعدية للجنسية تتسم بخصائص مشتركة إلى حد كبير، سواءً في أدائها لأعمالها أو في استخدامها لمصطلحات ومفردات تتسم بخصوصيتها وتمايزها عن غيرها من فئات وجماعات اجتماعية أخرى داخل مجتمعاتها المحلية.
ووفقاً لـ ريتش E. Rich، فإن هؤلاء النخبة الاجتماعية الجديدة تتفق بذكاء لتأهيل ذاتها لتكون قادرة على بيع وتسويق مهاراتها، ومعارفها، واستبصاراتها في السوق الكوكبية. وهم يشكلون طبقة فائقة جديدةA New Over Class . هذه الطبقة، أو بالأدق الشريحة الطبقية، ليست محدودة بحدود البنية الطبقية لمجتمعاتها المحلية بالمعنى التقليدي السائد في التحليلات النظرية الكلاسيكية للطبقة الاجتماعية.
وبقدر أكبر من الإجراءات، يشير زيانج بياو X. Biao في دراسته عن المبرمجين الهنود في مجال تكنولوجيا المعلومات والذين عرفوا بـ أناس الكومبيوتر Computer People وهم ينتمون بشكل أساسي للشرائح الوسطى متعدية الجنسية، إلى أنهم أغنياء، منافسون، والأكثر أهمية قادرون على الانتقال عبر البحار في أي وقت يشاؤون، وهم يكسبون بما يعادل مرتين إلى خمس مرات مقارنة بالمهندسين الذين لا يعملون في مجال تكنولوجيا المعلومات، كما تتجاوز وضعيتهم الاجتماعية نطاق بلدانهم إلى العالم، فهي وضعية اجتماعية متعدية الجنسية، وهي تحصّلت لهم كنتيجة لعلاقتهم الوثيقة برأس المال الكوكبي.
ولا تقتصر هذه النخبة على مصممي البرامج وأنظمة المعلومات بل تضم أيضاً مهناً أخرى متنوعة مثل الباحثين العلميين والفنيين الذين على صلة بصناعة وتطوير الكومبيوتر. كما يتزايد دور المهندسين المدنيين والعلماء، والباحثين في مجال الاستثمار، ومنتجي البرامج التعليمية، وصانعي الأفلام، والناشرين، والمشتغلين بالإعلام ووسائل الإعلام، وهي وظائف من الممكن توصيف العاملين فيها على أنهم من عمال المعرفة (Knowledge Workers).
إنهم، وفق التعبيرات، مهنيون وإداريون يعون قيم العصر ومفرداته، ويطوّرون بأنفسهم مهاراتهم الشخصية، كي ينالوا فرصة العمل التي يبحثون عنها. يتعلمون اللغات، ويتقون التعامل مع الكومبيوتر، ويتدربون على لقاءات الاختبارات الشخصية التي تسبق الالتحاق بالوظائف التي تحتاج إلى مهارات خاصة. ولأنهم مبادرون، يسعى الكثير منهم إلى العمل المناسب في لحظة محددة. ولأنهم متخصصون، يعرفون قواعد السوق وقوانينها الجديدة، ويتفهمونها وينتقل بعضهم وراء الأجر والمميزات بين موقع وآخر.
على جانب آخر، يلفت هسن ليينج ود Hisnling Wud النظر إلى الارتباط بين النخبة متعدية الجنسية وما أطلق عليه المدن الكوكبية، وذلك بدراسته التي ركز خلالها على مدينة شنغهاي الصينية، باعتبارها رمزاً قوياً دالاً على الانفتاح العالمي، والمتأثر بشدة بتطوير السياسات ذات الطبيعة الليبرالية، حيث يرصد كيف تساعد هذه النخب المهنية على تحويل صورة شنغهاي التقليدية لتتلاءم مع سمعتهم وخصائصهم، والمتمثلة في خلفياتهم التعليمية العليا، ومعارفهم ومهاراتهم المهنية المتخصصة، ودخولهم المادية المرتفعة، ومن ثم ارتباط مظاهر النزعة الاستهلاكية الجديدة في شنغهاي باحتياجاتهم وتطلعاتهم.
في العالم العربي، تنقسم المواقع الطبقية الوسطى، جزئياً، إلى قسمين: أحدهما تقليدي، خاضع لأنماط إنتاج ما قبل تقليدية حديثة رأسمالية، ويضم أصحاب الحيازات الزراعية المحدودة، وأصحاب الحرف التقليدية الذين يعملون بأنفسهم ولا يستخدمون أحداً، أو قد يستخدمون عدداً محدوداً من العمال المساعدين، وصغار تجار التجزئة، إلى جانب أصحاب المشروعات الصغيرة الذين يستخدمون وسائل إنتاج تقليدية (يدوية ميكانيكية) في نشاط صناعي أو خدمي.
أما القسم الآخر الحديث فيرتبط بنمط الإنتاج الرأسمالي ويمكن التمييز داخل هذا القسم بين ما هو متبلور، كالمشتغلين بمهن الطب والهندسة والمحاماة والتدريس …إلخ، وما هو بازغ، وأهم ممثليه هم الفئات المشتغلة بمهن أفرزتها العولمة الرأسمالية وآلياتها المتعددة، والتي خلقت فئات مهنية متعدية الجنسية تعمل في مجالات كالبرمجة، والاتصالات، والاستثمار، والمنظمات غير الحكومية.
ويتميز هذا الجانب الحديث، إجمالاً، بأنه لا يقدم سلعاً مادية بالأساس، وإنما خدمات معرفية وفنية، ويمتلك المنتمون إليه وسائل إنتاجهم، وهي في الغالب غير مادية، وإنما رمزية أو ذهنية، مكتسبة عن طريق التعليم والتدريس والمهارات.
وكان عقد التسعينات من القرن العشرين قد شهد جدالاً واسعاً بين المثقفين العرب، ما بين قائل بانكماش وتدهور الحجم النسبي للمواقع الطبقية الوسطى، وآخر يقرر بأنها في حالة تنامٍ وازدهار، غير أنه قد تبيّن أن من الأصوب عدم إصدار حكم كلي مطلق، فالأوقع هو النظر في العوامل المحددة لوجود الفئات والشرائح الطبقية واستمراريتها وديناميكيتها، وكذا العوامل التي قد تفضي إلى العكس، حيث التدهور والتكلس. ولعل من المعلوم أن العامل الرئيسي في تحديد نوعية البيئة الطبقية لأي مجتمع من المجتمعات يتمثل في طبيعة نمط الإنتاج المهيمن، فضلاً عن نوعية البناء السياسي والأيديولوجي، ومن ثم نجد أن هيمنة نمط الإنتاج في الرأسمال المعولم على مجتمعاتنا العربية، بداية من تسعينات القرن الماضي تقريباً، قد واكبته عملية إعادة بناء وفرز طبقي على نطاق واسع وعميق، شملت المواقع الطبقية الوسطى لطبيعة المال، حيث صعدت الجماعات والشرائح والفئات الطبقية الحديثة، أي ذات الخبرات والمهارات والمفاهيم والقيم المتسعة مع هذا النمط الإنتاجي والتي تتمتع بالقدرة على التواصل معه عبر آليات ووسائط متعددة، في حين تدهورت أحوال ذوي المواقع الطبقية التقليدية التي يغلب عليها طابع الإنتاج السلعي الصغير الممتزج بإدارة عائلية أبوية، والأكثر ارتباطاً بالأسواق والأوضاع المحلية، والتي تنتمي في معظم الأحيان، إلى أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية.