تهديد الليبرالية الجديدة!
عدنان السيِّد حسين
في أخطر تصريح للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن الأزمة المالية، الأميركية والعالمية، قال: (الأزمة المالية الأميركية تشير الى نهاية نظام السوق الحرة).
هذا يعني تهديد الليبرالية الجديدة في أحد أهم أسسها الفكرية والاقتصادية: السوق الحرة. أو بعبارة أخرى تحرير الأسواق من تدخل الدولة، وتركها تنتظم وفق قانون العرض والطلب في علم الاقتصاد.
الدولة تتدخل اليوم. الدولة ليست محايدة، أو متفرجة. إنها متدخلة. أو أننا نعود الى فكرة الدولة التدخلية لإعادة الاستقرار الى الأسواق المالية، والأسواق التجارية. هذا ما يتناقض مع فلسفة الليبرالية الجديدة التي نشأت في العقد السابع من القرن الماضي.
ها هي الادارة الأميركية تتدخل، وتطلب من الكونغرس، وبإلحاح، إقرار ضخ نحو سبعماية بليون دولار في الأسواق المالية، بما في ذلك شراء الديون الرديئة للمؤسسات المالية خلال العامين المقبلين. أي ان هذه الخطة المالية سوف تنسحب على الرئيس الجديد سواء كان أوباما أو ماكين، ومن هنا هذه الضجة الكبرى التي تعصف بالحزبين المتنافسين.
صحيح ان هذا التدخل، هو الأكبر في عصر الهيمنة الأميركية على النظام الدولي. وصحيح انه أتى بعد إفلاس رابع أكبر مصرف أميركي (ليمان براذرز)، وإفلاسات أخرى في القطاعين المصرفي والمالي… بيد ان فكرة التدخل ليست جديدة، فهي مسبوقة منذ العام 1929 ـ تاريخ الأزمة الاقتصادية العالمية ـ من خلال الأفكار الكينزية. وفي الأمس القريب، تدخلت الادارة المالية الأميركية لمعالجة أزمة الرهن العقاري، وكانت الخسائر المالية نحو تريليون دولار!
على وقع الأزمة المالية الراهنة، تتدخل المصارف المركزية في لندن وباريس وبكين وموسكو… فيما يحذر أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون من أزمة مالية عالمية، ستهدد التنمية، وتقضي على الوعود التي أطلقتها قمة الألفية في مطلع القرن الواحد والعشرين، بمناسبة انعقاد الدورة السنوية للجمعية العامة.
التحذير الأممي يتزامن مع وجود أزمة غذاء عالمية، وأزمة تهديد البيئة الطبيعية مع التغيير المناخي الحاصل… فهل تقوى الليبرالية الجديدة، والحال هذه، على الصمود ومقاومة الأزمات المتعاقبة والمتداخلة؟
تجيب الدول الصناعية بضرورات تدخل الدولة، والمنظمات الدولية والاقليمية، وفي طليعتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هل تنشأ كينزية جديدة؟ نعم، لقد بدأت نُذرها في الولايات المتحدة نفسها، وعدد من الدول الصناعية.
بالطبع ستنعكس هذه الأزمة المالية، والاقتصادية، على الانتخابات الرئاسية الأميركية، وسوف يتراجع حظ الحزب الجمهوري في النجاح مهما أغدق من الوعود، وساند خطة الرئيس جورج بوش التي تقوم على فكرة التدخل في الأسواق المالية كما أسلفنا.
الأزمة المالية هذه رفعت سقف الدين العام الأميركي من 10.6 الى 11.3 تريليون دولار، فيما يشكو نحو نصف الأميركيين من صعوبة تسديد المستحقات المالية المتوجبة على الأفراد والأسر.
أكثر من ذلك، تُطرح مسألة الشفافية داخل الادارة الأميركية، مع ما يرافقها من أسئلة حيال غياب الرقابة المالية الكافية على المؤسسات وعدد من الأفراد النافذين. ويطالب عدد من أعضاء الكونغرس بفتح تحقيقات حول أداء الادارة المالية ومن يقوم بها من المديرين!
بتعبير آخر، ثمة عودة الى فكرة الدولة التدخلية، بعيداً من فكرة الليبرالية الجديدة، وما اعتورها من ثغرات في بنيتها الفكرية وفي تطبيقاتها المعاصرة. إن مطلب الاصلاح ليس حكراً على الدول النامية، التي كانت تسمى حتى الأمس القريب دول العالم الثالث، وإنما صار مطلباً في عالم الشمال الصناعي. وعليه فإن مبدأ حرية السوق، أو نظام السوق الحرة، لم يعد قادراً على معالجة الأزمات المالية والاقتصادية المتوالية. ثمة حاجة ماسة الى التدخل، من خلال المصارف المركزية، والتشريعات القانونية الجديدة التي تعزز رقابة المؤسسات الرسمية، وصولاً الى تمكين السلطة القضائية من ممارسة دور فاعل في مواجهة الفساد والافلاس.