انهيار “أصولية” السوق
د.خالد الحروب
ربما لم يدر بخلد الباحثين لاري إليوت ودان أيتكنسون مؤلفي الكتاب الصادر حديثاً بعنوان “الإله الذي سقط: كيف تسبب الإيمان الأعمى بالأسواق في خسارتنا مستقبلنا” أن الانهيار في الأسواق المالية سيكون بهذه السرعة مؤكداً أطروحتهما في الكتاب. والتوصيف الذي يوردانه في دراستهما فيه توقعات بالغة الدقة ومثيرة عند مقارنتها بالمشهد العالمي الراهن. لكن بعيداً عن الكتاب فإن ما صار متفقاً عليه الآن هو أن الأزمة المالية الحادة للرأسمالية العالمية تعيد طرح الأسئلة الأولية التي لا تني تبرز بحدة عند كل منعطف أو أزمة تاريخية يمر بها المشروع الرأسمالي كخيار ناظم ليس فقط للاقتصاد بل وأيضاً للاجتماع المحلي والدولي. ثمة مقاربات لا تحصى للتأمل في الانهيار المدهش لإمبراطورية المال الأميركية والغربية، والتي ستؤثر في شكل العالم الاقتصادي، وما زالت في بداياتها. وهناك أطروحات تبدأ من الحد الأقصى “المُبشر” بنهاية الرأسمالية وتنتهي إلى الحد الأقصى النقيض المُستخف بتأثيرات الأزمة على جوهر الفكر الرأسمالي، وبين هذين الحدين رؤى وتحليلات أوسع من قدرة أي قراءة موجزة على الإحاطة بها.
بيد أن الانهيار، وهو وصف حقيقي وليس تهويلياً، لم يحدث في الفكرة الرأسمالية نفسها، بل في نسختها النيوليبرالية المتطرفة التي أسست لها الحقبة الريغانية-التاتشرية في الثمانينيات من القرن الماضي، وترسخت عبر جبروت العولمة المالية والنقدية وتحطيم الحدود أمام انتقال رأس المال بيُسر وسهولة وخاصة في الأسواق المالية. جوهر النيوليبرالية إطلاق السوق من كل قيد، والارتكان عليه لتصحيح نفسه بنفسه أو تعديل أية اختلالات يمكن أن تنشأ في شكل الاقتصاد وحركة الاستثمارات ومستويات العرض والطلب. ويعني ذلك كف يد الحكومات عن التدخل في ضبط الاقتصاد والاكتفاء بدور “المُنظم” و”المُسهِّل” لحركة السوق واتجاهاته. حتى عندما يتعرض السوق والاقتصاد الداخلي لانتكاسة كبيرة فإن المنطق النيوليبرالي المحض ينص على وجوب بقاء الدولة في موقع الحياد، لأن السوق نفسه يتولى معالجة تلك الانتكاسة ويعاود النهوض. وأن آليات الانتكاس ومعاودة النهوض هي جزء من الحراك الرأسمالي الذي يشتغل للمحافظة على التوازن العام لحركة المال والاقتصاد. ونظرياً، وبحسب التحليل النيوليبرالي، فإن الانتكاسات والأزمات المتلاحقة التي يعمل السوق على معالجتها ذاتياً تكون خلاصة تراكمية لممارسات غير متناغمة مع آليات السوق، ولهذا فإن السوق لا يلبث أن يلفظها عن طريق إعادة الهيكلة الآلية.
رأسمالية ما قبل النيوليبرالية، خاصة في نسختها الأوروبية الاجتماعية المحافظة، ضمنت للدولة دوراً مركزياً في إدارة الاقتصاد ورعاية المجمتع ومراقبة تغول رأس المال والحفاظ على مصالح الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة. تلك الرأسمالية (الأوروبية) المُطعَّمة بجرعات اشتراكية ولَّدت “دولة الرفاه الاجتماعي” التي كانت شبه الحل الوسط بين الرأسمالية الأميركية الخالية من المؤثرات الاشتراكية والاشتراكية نفسها التي كان يطبقها وينادي بها الاتحاد السوفييتي وكتلته الشرقية. لكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي وبروز صلافة تاتشر وريغان إزاء تفكيك القيود الحكومية عن رأس المال، تضعضع النموذج الرأسمالي الأوروبي وبدأ يتبنى تدريجياً، وتحت وطأة المنافسة على الوصول إلى أسواق مالية جديدة في العالم، النسخة النيوليبرالية من الرأسمالية. وتسرَّبت القناعة بفكرة قدرة السوق الُحر على مواجهة أزماته بنفسه.
تعرض هذا “الإيمان الأصولي” بالسوق وقدرته الخارقة المُفترضة على تعديل ذاته وتصويب الأزمات الاقتصادية إلى انتقادات شرسة من جهات عدة. وتخطت مصادر تلك الانتقادات المربعات المتوقعة سواء أكانت قوى اليسار، أم أنصار البيئة، أم بعض القوى الاجتماعية القلقة من انفلات رأس المال. وقد كان بعض ذلك النقد ينطلق من أرضية رأسمالية بحتة، تعتقد بقوة بنجاعة فكرة رأس المال الحر، لكنها ترفض انعتاقه من أي قيد. لكن وعلى العموم كان أن عملت العشرون سنة الماضية، وخاصة في الولايات المتحدة وجزء لا يُستهان به من أوروبا، على تزويد دعاة النيوليبرالية بعتاد عملي للتدليل على نجاح وفاعلية السوق الحر المطلق. إذ رغم الأزمات العديدة التي تعرضت لها الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة إلا أن أياً منها لم يصل إلى درجة زعزعة “الإيمان اليقيني” بالسوق وإمكانياته في تصويب نفسه كما أحدثت الأزمة الحالية. وما يحدث الآن هو ردة حقيقية عن النيوليبرالية وإعادة الاعتبار لدور الدولة وعودتها إلى السوق ليس كمراقب ومنظم لـ”حركة السير” فيه، بل كفاعل أساسي تختلف أهدافه وهواجسه عن أهداف وهواجس رأس المال المُنطلق من أي قيد. فتدخل الحكومة الأميركية بقوة فائقة وبرساميل مالية فلكية لإنقاذ السوق المتهالك فيه نفي شبه مطلق لكل النظرية النيوليبرالية المُطالبة بوقوف الدولة على الحياد حتى في أحلك الظروف الاقتصادية.
ومن المُهم الإشارة هنا إلى أن أنصار النيوليبرالية وعتاة منظريها كانوا، مثلاً، وعلى الدوام ضد تدخلات الحكومات في الدول النامية في الاقتصاد المحلي وخاصة لجهة دعم المواد الأساسية، باعتبار أن مثل ذلك الدعم لا يُضعف الميزانية العمومية فحسب بل ويُشوِّه الاقتصاد ولا يتركه ليعدِّل ذاته بذاته. كما كانوا ضد تدخل حكومات الدول الآسيوية لإنقاذ اقتصاداتها وأسواقها المالية التي تعرضت للانهيار في أواخر التسعينيات، منطلقين من نفس الاعتبار وهو أن التدخل الحكومي في حركة السوق سوف يعيق آلياته الطبيعية لتعديل الاختلالات بطريقة آلية.
ولاشك أن أحد الاختلالات الكبرى للنيوليبرالية والذي ربما يحظى بالإجماع النقدي الأكبر هذه الأيام يكمن في خلق اقتصادات افتراضية في أسواق المال والاقتراض والاتجار بالديون بأشكال لا حصر لها. ففي هذه الأسواق تطورت ثروات ورساميل بعشرات التريليونات وعابرة للقارات على رغم أنها مجرد رساميل مفترضة ورقمية. وكانت علاقتها مع الاقتصاد العيني والحقيقي غامضة ومثار تساؤل، من دون التقليل من مساهماتها في دعمه. لكن الخلاصة النهائية أن الجبل العملاق والافتراضي من هذه الرساميل انهار دفعة واحدة مهدداً كل جوانب الاقتصاد العيني والاستثماري الحقيقي في العالم.
وذلك كله يقود إلى القول إن “أصولية” السوق الحر كما عبرت عنها النيوليبرالية الجبروتية باتت برسم الدفن لوقت ليس بالقصير إن لم نقل إلى الأبد. ويشكل التدخل الحكومي الأميركي الهائل بـ700 مليار دولار مجتزأة من الميزانية العامة، وعلى حساب دافع الضرائب وبرامج الخدمات الاجتماعية المختلفة، شاهدة القبر التي لا تخطئها العين. وأضيف إلى ذلك أيضاً ومؤخراً، وعلى مستوى أوروبي، قرار قمة الأربعة الكبار في الاتحاد الأوروبي (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا) بعقد قمة دولية هدفها إعادة النظر كلياً في قواعد النظام المصرفي العالمي -أي عملياً إعادة النظر في النيوليبرالية الحالية. وهذا بالضبط ما يحتاجه العالم، وخاصة الطبقات الوسطى والفقيرة التي لم تكن ذات أهمية في جدول اهتمامات النيوليبرالية الشرسة. والحال أن الرأسمالية الاجتماعية والمسؤولة والتي تبني على التجربة الأوروبية وتطورها، وتبقي على دور مركزي ويقظ للدولة، هي التي أثبتت التجربة نجاعتها مقارنة بغيرها من النماذج الاقتصادية والمالية. وهي التي يمكن أن تخلع على العولمة الوجه الإنساني الذي تاق إليه كثيرون.
جريدة الاتحاد