لا ملائكة.. لا شياطين
أُبيّ حسن
في كل زيارة أقوم بها إلى لبنان, أُسأل من قبل زملاء, غالباً أكون قد تعرفت عليهم للتو: “ألا تخاف على نفسك جرّاء جرأتك في كتابتك؟”. والسؤال ذاته كنت أواجهه في سوريا عند تعرفي على شباب وشابات جدد.
غني عن القول إن المقصود بالخوف هنا, هو الخوف من بطش بعض السلطة والأجهزة الأمنية في سوريا. وهو سؤال مشروع لاعتبارات عدة من المفترض أننا ندركها جميعاً.
لا أكون قد بحت سراً إذ قلت بأن السؤال بات يشكل لي حرجاً شخصياً, كي لا أقول جرحاً, وكنت كي أتحايل عليه أصعّد من لهجتي وجرأتي في الكتابة(سابقاً), غير أن المأساة إن السؤال ذاته كان يتضاعف من حيث لا أدري ولا أحتسب! ولعلها من المفارقات المضحكة المبكية أنني خسرت عدداً لابأس به من أصدقائي في محيطي الاجتماعي (القروي), طبعاً بسبب كتاباتي, لكن بعدما اكتشفوا (في ذلك المحيط) أني لم أدخل السجن بعد اعتقدوا أني “مدعوم” (وايدي طايلة كتير), فراحوا يتوددون ويتقربون مني مجدداً معتبرين كتاباتي شرف لهم وللمحيط!.
لنضع جانباً ما سبق ذكره. اللهم, وفي حال توخيت الإنصاف, اشهد: إني لم أتعرض إلى أية مضايقات سواء أكان جرّاء كتاباتي أم جرّاء مكان نشرها الذي بدوره كان حريصاً عليّ إلى درجة(كان) يحذف معها عبارات من مقالاتي خوفاً عليّ من مساءلة أو أذى قد أتعرض اليه من قبل بعض الأجهزة. حتى ولم أسمع أية كلمة نابية من أي جهاز سلطوي في سوريا باستثناء ما سبق أن سمعته (بما فيه من تهديد ووعيد) بتاريخ 3 آب 2004 من قبل أحد الجهلة في إحدى الفروع. ومن المؤكد أني لست الوحيد في سوريا الذي يكتب ما يشاء دون أن يتعرض لمضايقات أمنية أو سلطوية وما شابه, لاسيما إن لم يكن محزباً في تنظيم معارض, أو ينشط في صفوف الطلبة وهو ما يعتبره النظام خطاً أحمر على ما يبدو.
قد لا يرضي هذا الكلام الكثيرين, لا في سوريا ولا خارجها, لكن هذه حقيقة لا يمكنني إنكارها أو تجاهلها, ومن الطبيعي أن ينبري شخص هنا أو هناك ليقول إني أقوم بدعاية تسويقية للنظام الذي قد لا تكون تغيّرت وجهة نظري فيه أو في بنيته وتركيبته من غير أن أنكر إني بت أحترم بعض من فيه, قبالة ذلك تغيرت وجهة نظري, بنسبة قد تزيد أو تنقص, في المعارضة والمجتمع السوريين مجتمعين.
وبما أنني لم أتعرض لمثل هذه المضايقات صار البعض ممن في المعارضة (وحتى بعض القرّاء والزملاء) يتداولون شائعة مألوفة للجميع ألا وهي: “عميل للأمن”, و من نافل القول إن العمالة هنا لا تقتصر على صفة مخبر بل تشمل تلقي التوجيه والإرشاد في الموضوع الذي تجب الكتابة فيهة (وحقيقة هذا ما كنت أقوله بدوري عن الآخرين)!, حتى ولو كان قدحاً وذماً في النظام!. من المؤكد أن من يلقون مثل هذه التهم أو الشائعات (ومن أية جهة كانوا) لا يدركون أنهم بقولهم هذا يصبحون الوجه الآخر للجهة التي يتصدون لمعارضتها, أي النظام!, ولا غرابة في الأمر, إذ مجتمعنا برمته (سلطة, معارضة, وما بينهما) نتاج ثقافة واحدة, وهي بمعزل عن كونها ثقافة اقصائية كذلك تربت على نظرية المؤامرة. وهذه الثقافة لم تتبلور وتتكون بين ليلة وضحاها, وليست نتاج المرحلة البعثية كما كنت أظن واهماً قدر ماهي نتاج سيرورة تاريخية لمجتمع لم يتمكن بعد (ولن يتمكن على المدى المنظور) من إنتاج آليات تفكير جديدة تسهم في بناء إنسان متحرر من نواقص الماضي وعقده. ترى: هل هذا ما يفسر لنا الخطاب التخويني والتآمري الذي عادة ما يكون محط تجاذب كافة القوى في المجتمع السوري: سلطة – معارضة وما بينهما؟.
ففي حال اشتط الكاتب متجاوزاً الخطوط الحمر(هذه الخطوط ليست سلطوية فحسب, بل مجتمعية كذلك) المتعارف عليها شفهياً وحسياً, ومتفق عليها مجتمعياً تحت يافطة ثوابت مجتمع”نا” وقيمه(كثيراً ما أقف متسائلاً وحائراً إزاء هذه القيّم وماهيتها), يُتهم من قبل السلطة بالتآمر على سلامة الوطن وربما بالخيانة, وان لم يكن الاتهام آت من السلطة فقد يأتي من المجتمع (ممثلاً بقادته الحقيقيين, رجال العمائم), وفي حال اكتفت السلطة بالصمت إدراكاً منها أن لا خلفية سياسية لهذا الكاتب أو ذاك الناشط تزعج راحتها وتقلقها, ونفذ بجلده من أنيابها, يتولى التهمة بالنيابة عنها الطرف الثاني من المعادلة, أعني بعض المعارضة والقرّاء (وربما بعض الزملاء). أقول هذا, على الأقل, انطلاقاً مما لمسته شخصياً من خلال تجربتي المتواضعة.
في بداية فتوتي, عندما كنت أعيش في قريتي البعيدة عن مركز الحدث (العاصمة), كنت أتوهم أن كل من في المعارضة إن لم يكن ملاكاً فهو حتماً قديس, وكل من في النظام لابد وان يكون شيطاناً. من بعد أن استقريت في العاصمة وخالطت ما هبّ ودبّ, اكتشفت كم كنت ساذجاً, فمن خلال معايشتي عدداً لا بأس به من شباب المعارضة ورجالها, علمت أنه في مرحلة من المراحل, كان لابد لهذا الشاب(المعارض) أو ذاك من ركوب قطار المعارضة, ليكسب شرف الانتماء من جهة, وما تجود به عليه من مكاسب معنوية كالشهرة (وربما مادية مستقبلاً), ناهيك عن أن بعضهم معارض لسبب قد يكون هو ذاته يجهله! هذا إن لم يكن معارضاً لأسباب شخصية كأن يكون ابناً لمعتقل سابق وما شابه ذلك. ومن المساوئ التي لمستها: حالات البؤس (الأخلاقي في الحد الأدنى) التي “يتمتع” بها نفر من المحسوبين عليها لاسيما بعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان.. اللهم عافنا! (اتركها بالقلب تجرح ولا تطلع لبرا وتفضح).
لاشك انه يوجد الكثير من الشرفاء في المعارضة, و أفتخر بمعرفتي بقسم منهم, ولا أخجل من القول إن علاقتي مع من أعني تشرّفني وان كنت أختلف معها في الرأي (كلاً أو جزءاً). وقل الأمر ذاته ببعض من عرفت في النظام, وتحديداً في الأجهزة الأمنية (أقول هذا مع إدراكي الكامل والواعي للسمعة السيئة التي تحظى بها هذه الأجهزة في إطارها العام, وما قد يسببه كلامي هذا من تأويلات لها بداية وليس لها نهاية).
والأنكى من ذلك, ومن خلال علاقاتي مع بعض المعارضة سأكتشف أن لمعظمهم علاقات مع السلطة التي يعارضونها! وهي علاقات يحققون من وراءها مكاسب مادية, كأن يعقد أحد أقطاب المعارضة عرى صداقة مع أحد أبناء الحرس القديم (هل تذكرون هذا المصطلح؟), وبالطبع سيكون ذلك الابن “البار” رجل أعمال ناجح(؟!), ومكسب المُعارض هنا توظيف احد أبنائه أو أقاربه في منصب مهم في إحدى شركات ذلك البزنس مان. ما سبق ذكره على سبيل المثال لا الحصر.
من جانب آخر, لم أر أي ملامح جدية للعمل الديمقراطي في الوسط المُعارض, ربما قد يكون البعض تابع ما جرى بين الأستاذين المُحترمين رياض الترك وعبد الله هوشه (الأمين الأول السابق لحزب الشعب الديمقراطي). أضف إلى ذلك, كنت ألحظ تماماً كيفية عدم نشر بعض موادي المنشورة في بعض الصحف اللبنانية على بعض المواقع الالكترونية المُعارضة والمفترض أنها (كانت) صديقة حال لم يكن مضمون المقال وفحواه يتماشى وميولها, أو لنقل ورغباتها!.
طبعاً لا أحبّذ أن يكون فحوى مقالي التشهير والنيل من المُعارضة السورية أو بعضها لاسيّما أن علاقة وجدانية تربطني بالكثير من أقطابها, على ما لي من مآخذ كثيرة عليها, ولا أرى من اللائق إطلاقاً أن أقسو في انتقادها وهي في هذه الحالة من الضعف والترهل التي تكتنفها. لكن وعلى أية حال يبقى القول إني لا أدري حقيقة متى سنرتقي في سوريا وسواها من بلدان ذات ثقافة يعربية وبدوية, إلى درجة ندرك فيها أن ليس بالضرورة ثمة صلة تربط بين تفكير الشخص منا وانتمائه من جهة وبين علاقاته التي يفرضها جو العمل وطبيعة المهنة من جهة أخرى؛ من هنا يحق لي التساؤل: ترى هل كل من له علاقة شخصية مع جهة سلطوية نافذة صار ممثلاً لها؟ أو ناطقاً باسمها؟ أو ضيفاً على موائدها؟ وهل كل من تربطه علاقات شخصية وربما فكرية ووجدانية مع المُعارضة سيكون متبنياً نهجها وآليات تفكيرها وطرائق عملها؟ إذاً أين هي “الأنا”؟ وأين هو الإنسان المبدع كفرد حر مستقل من حقه أن يفكر ويبدع ويكتب كيفما شاء وأنى شاء؟ وأين هي الحرية الفردية التي تدعون تقديسها والحرص عليها يا من لستم بملائكة ولستم بشياطين؟