هموم السوريّين تتجدّد ويتجدّدون
موفق نيربية
لاستعادة الخوف وإحيائه أسباب كثيرة أغلبها «خارجي» للأسف. لكن السبب الداخلي مهم وساطع، فمنطق النظام في الدفاع عن نفسه وعن نَسَقه في الأعوام الأخيرة يعتمد على أن السوريين الذين نعنيهم لا يستحقّون الحرية لأنّهم سوف يقعون في دوامة الفوضى والتطرّف ما إن تخفّ القبضة عن رقابهم.
ليس «السوريون» المقصودون هنا أولئك الذين تتحدّث عنهم الأخبار هذه الأيام، رغم اختلاط الأمر. تلك عادة الكتّاب والسياسيين والمهتمين، أن يُقال سورية و«السوري» والسوريون عند الحديث عن الحكومة والحاكمين كفاعل رئيس في الأحداث، في حين لا يظهر السوريون «الآخرون» في الصورة إلاّ لماماً، وهذا متداول في التعبير عن السياسة الخارجية خصوصاً. وهو مقبول في بلاد العالم الأخرى لأنّ الحكومة مختارة من قبل الأكثرية، ومفوّضة من ثمّ من الجميع، حتى أولئك الذين لم ينتخبوها. في سورية وأرض العروبة عموماً، يبعث الأمر على الحزن.
السوريون الذين نعنيهم هم الناس أو السكان أو الشعب أو شرائحه المختلفة. هؤلاء محكومون بالقلق وتناقض المشاعر حين تنتشر الإشاعات والأخبار عن احتمالات الحرب أو الحصار أو الأزمات الكبرى عموماً. وذلك التناقض نابع من إحساسهم بالعجز وقلة الحيلة مع الانزلاق من ورطة إلى أخرى بفعل سياسات الحكم التي لم يوافقوا عليها ولا يُستشارون بها، رغم تراجع كفاءة المسؤولين أو تأخّرها عن تطورات العصر وعلومه وتحولاته.
في الداخل المظلوم، تأخذ أزمات الحياة بخناقهم، وعيونهم مفتوحة يرون بها، وآذانهم تسمع، وجلودهم تحسّ وتشعر. هكذا مباشرة، كلّ شيء واضح، ولا مهرب إلاّ من طريق الاستسلام.
لقد نشرت صحيفة الثورة الرسمية منذ أسبوعين استطلاعاً للرأي شيّقاً ولافتاً يقول حقيقةً ويفتح ثغرة في جدار مُصْمَت. يؤكد ذلك الاستطلاع أن الفساد قد عمّ البرّ والبحر وقمة الجبل، وأن أسباب الفساد متعلّقة بغياب المحاسبة والمؤسساتية إضافة إلى البيروقراطية، الناس يرون جيّداً، وليس كما يُشاع.
على طريقتهم في رؤية الجانب المضيء من الأمور والتعلّق بأيّ قشّة أمل، هتف المثقّفون والمعارضون وصفّقوا للجريدة المذكورة، ورأوا في ذلك تأكيداً على أن هنالك بين «أهل النظام» بذوراً طيبة تحتاج إليها سورية، وسوف تحتاج إليها أكثر فأكثر.
في حين يرى «السوريون» أحياناً شيئاً مختلفاً، وقهراً لم تعرفه تجارب الشعوب، فالحاكم يعرف الحقيقة وينشرها، وينكرها علناً، ويريدك أن تعرف أنه يعرف، ثم تصفّق للكذبة العارية!
ما نراه أخيراً عودة لحالة تعميم الخوف، لم تعد خافية ولا خجولة. هي عودة «مظفّرة» إلى الأجواء الأمنية والهمس والاعتقال والمراقبة والحظر، بعد أن حسب السوريون أنهم خرجوا من الحفرة العميقة، إلى تلك التي تعلوها.
والخوف صناعة سورية أصبحت «عريقة» بعد مرور خمسة وأربعين عاماً على إعلان حالة الطوارئ واستمرارها «بنجاح منقطع النظير». في ذلك مثله مثل الإعلام الذي لا يَعلم ولا يُعلم والتعليم الموجّه المسطّح، وليس مثل صناعة النسيج والثقافة والفنون والشأن العام والصبر التي طالما احترفها السوريون الآخرون ومازالوا، لتعصمهم من اليأس الشامل والنهائي.
لاستعادة الخوف وإحيائه أسباب كثيرة أغلبها «خارجي» للأسف. لكن السبب الداخلي مهم وساطع. فمنطق النظام في الدفاع عن نفسه وعن نَسَقه في الأعوام الأخيرة يعتمد على أن السوريين الذين نعنيهم لا يستحقّون الحرية لأنّهم سوف يقعون في دوامة الفوضى والتطرّف ما إن تخفّ القبضة عن رقابهم، لذلك لا ضمانة لاستقرار سورية والمنطقة بعدها إلاّ باستمرار الحال على ما هي عليه. وهؤلاء السوريون قدّموا أخيراً عرضاً صغيراً لإمكاناتهم، ينفي منطق «نحن أو الفوضى» بنعومة وحكمة ومسؤولية، من خلال الاستعداد للمساهمة بإخراج البلد من مأزقه الخارجي والداخلي وتحصينه بحريات الشعب ومساهمته في المسؤولية. وكان العرض المذكور من خلال انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق وبيانه الختامي الرزين المتوازن.
وكان التأثير معاكساً للتوقّعات، وردّ الفعل متجاوزاً لحدود العقلانية والمصلحة الوطنية، بل مصلحة النظام نفسه، لو كانوا يعلمون. فجاءت الموجة الأمنية القمعية غامرة وفائضة عن الحاجة والزمان والمكان، ويبدو أنها مستمرة ومتفاقمة.
موجة الخوف هذه مربكة ومقلقة، ولكنها لن تستطيع التغلّب على صناعات السوريين العريقة الأخرى، التي عادت الروح إليها، بعد أن غيّر الزمان تحالفاته، من حيث النظام واستمرار سياساته، إلى حيث السوريون الآخرون. بل إن المكان نفسه قد أخذ يشهد إشراقاتٍ هنا وهناك، وتحولات عن الرماديّ، وعن الأسود والأبيض.
السوريون قلقون من أوضاع لبنان وفلسطين والعراق، ويتمنون لو استطاعوا المساعدة في تغليب المصالحة والتسوية والاستقلال والديموقراطية فيها جميعاً، ولكن يدهم قصيرة ومغلولة. لذلك يعتقدون أن أفضل مساهمة لهم في تحسين أوضاع المنطقة وآفاقها، تكمن في العمل على تجاوز الأخطار الداخلية والخارجية على بلادهم، وفتح ممرٍّ إلى الحرية والديموقراطية والتقدم، لأبنائهم ما لم يكن لأنفسهم.
بذلك يستعيد السوريون موقعهم السويّ في اللغة السياسية للآخرين، ولا يشعرون بالغصّة كلّما سمعوا اسمهم يتردّد في مواقعَ وسياقاتٍ لا تعنيهم ولا تمثّلهم!
كاتب سوري